نشر بتاريخ: 28/04/2016 ( آخر تحديث: 28/04/2016 الساعة: 12:10 )
الكاتب: د. "محمد علي" العلمي
للكلمة معنى واحد أو أكثر وتتألف من عدة حروف. فهل اشتراك حرف ما أو أكثر في كلمات مختلفة يضفي معنى معين عليها ؟ راود هذا السؤال علماء اللغة العربية منذ عهد الخليل بن أحمد وسيبويه. وأطلوا علينا بأفكار مبهرة واكتشافات غير متوقعة. وكان بحثهم إحدى الدوافع لوضع قواميس تفسر معاني الكلمات حسبما استعملها العرب في قديم الزمان. ولقلة ما نتداوله من كلمات في عصرنا هذا (الذي نسميه ظلما عصر النهضة) سنحصر اختيارنا في الأمثلة التالية في كلمات مألوفة لدينا، علما أن ما هوغير مألوف أكثر عددا.
غاب (الإنسان عنا فلا نراه)، وغشي عليه أو أغمي عليه ودخل في غيبوبة (أي فقد حواسه)، والغشاء والغلاف، والغطاء (الذي يغطى الشئ)، وغاص وغطس (ولم يعد يرى منه شيئا)، وغفل غفوة، وغمد السيف في غمده (ولم يعد ظاهرا)، وغمر (الماء الأرض وغطاها)، وأمر غامض (لم يعد ظاهر الوضوح)، وغمض العين (فحجب عنه الرؤيا)، وماء غميق (لا يرى أدناه)، وغيمة (تغطي السماء)، والغبار (الذي يحجب الرؤيا)، وغار (أي كهف لا يكشف ما في داخله)، والغي (بفتح الغين، البعد عن الصواب)، والغروب والغسق (الدخول في ظلام الليل وانعدام الرؤيا) ، وغرس وغرز النبتة (فلم نعد نرى جزئا منها). يتضح من الأمثلة القليلة هذه أن دخول حرف الغين على الكلمات المذكورة قد أثر في معانيها. إذ أنها جميعا أصبحت تحمل معنى الاختفاء، أو عدم الظهور، أو حجب الرؤيا، أو غياب الإحساس، أو البعد. وقد اخترنا هذه الكلمات ومعانيها من القاموس الذي جمعه الزمخشري في كتابه "أساس البلاغة". وهذا لا يعني أن كل كلمة تبدأ بحرف الغين يكون لها المعنى المشروح أعلاه. ولكن ما ورد من علاقة يبقى ذات أهمية.
المثل أعلاه هو لتأثير دخول حرف واحد على الكلمة. فماذا لو أدخلنا حرفين أو أكثر؟ واخترنا مثال على ذلك ما ورد في القاموس المحيط للفيروزآبادي. فلنتمعن في معاني الكلمات المؤلفة من الأحرف ج ن ن، أو جن (بتشديد النون). الجنين (ما ستر عليه الرحم)، الجنان (القلب الذي ستر عليه الصدر)، الجنون والمجنون (الذي ستر على عقله)، الجنة (التي سترها الله سبحانه عن الأحياء من عباده)، الجن (بكسر الجيم، الذين ستروا عن الإنس)، المجن (بكسر الميم وفتح الجيم، الدرع الذي يستتر به المحارب). ومن المعاني الغير مألوفة في عصرنا الجنن (بفتح الجيم والنون دون تشديدهما، كفن الميت أي سترته)، الجنان (بفتح الجيم والنون دون تشديد، الثوب الذي يستر الجسم)، الجنة (بضم الجيم وفتح النون المشددة، كل ما وقى وأيضا لباس للمرأة الذي يغطي كامل جسدها). وعليه نرى أن المعنى المشترك لهذه الكلمات هو التستر. وهذا يختلف عن الاختفاء في معنى الكلمات التي دخلها حرف الغين. وللقارئ أن يبحث لنفسه عن تأثير حروف أخرى مثل الراء (المستعملة للتكرار)، والقاف (للقطع) وغير ذلك.
لاحظ علماء اللغة كيف أن المعنى يتأثر ليس فقط بما تحتويه الكلمة من حروف بل أيضا من جراء ترتيبها وحركاتها. فمثلا قال الخليل بن أحمد أن العرب "توهموا في صوت الجندب استطالة ومد فقالوا صر الجندب (بفتح الصاد وتشديد الراء)، ولكن توهموا التقطيع حين قالوا صرصر البازى (وهو نوع من الحشرات)". أما سيبويه فقد لاحظ أن ما جاء على وزن فعلان كان دلالة على الاضطراب مثل غليان وغثيان وهيجان. وذكر ابن جني كيف أن العرب جعلوا ما جاء على وزن استفعل دلالة على الرغبة في الطلب. وأعطى أمثلة لأفعال مثل سقي ووهب وقدم وصرخ لتصبح دالة على الطلب إذا أخذت صيغة استسقى (أي طلب السقاية) واستوهب واستقدم واستصرخ. وأضاف كيف أن تكرار العين في الفعل (أي تشديد العين) كان دال على تكرار الحدث مثل كسر وقطع وفتح وغلق (بتشديد كل من السين والطاء والتاء واللام).
ما ورد أعلاه أمثلة قليلة على ما حوته كنوز كتب أهل الماضي. فاللغة لديهم لم تكن فقط علوم نحو وصرف وتأنيث وإدغام وما يتعلمه طالب فنون الإعراب. إذ بقي الهدف عندهم التبليغ وإيصال المعنى الدقيق والمحدد من خلال استعمال أقل العدد من الكلمات تفاديا للمشقة. و نظرا لتلائم بيئتهم وتشابهها كانت الكلمات ومعانيها ومشتقاتها وجملها مشتركة لدى كل من ناطقيها وسامعيها. وهذه المتطلبات هي ذاتها التي ننشدها اليوم في استنباط كلمات جديدة وملحة لتيسير تعابيرنا في التواصل في عصرنا هذا. فالكلمات الحديثة مثل المطار وكوابح السيارة والهاتف والحاسوب هي أمثلة لجهد مثمر في هذا الشأن. ولكن المطلوب هو أكثر من ذلك بكثير. ولعل أقصر الطرق للوصول الى الهدف المنشود هو مراجعة ما ورثناه من الماضي من كلمات ومعان والقوانين التي حكمت صياغتها ولفظها. وليس الهدف من ذلك الحنين الى زمن غابر والعيش في نشوة الأمجاد الماضية وأحلامها. ولكن المنشود هو تعلم نهج الخليل بن أحمد وسيبويه وابن جني وغيرهم في استنباط قوانين وقواعد اللغة واشتقاق المعاني ومن ثم الخروج بقوانين وكلمات جديدة ملائمة لعصرنا الحديث. ولتواضع علماء اللغة في الماضي نجد أنه لم يدعي أحدهم أنه حصر أو استكمل كافة قوانين اللغة. فاللغة الحية قوامها التجديد بالبناء على ما تم وضعه من قواعد متينة ومحكمة في الماضي. ولحسن حظ الباحث اليوم أن توفر له مطبوعات عدة من أمهات كتب اللغة تبين له القوانين وشواذها. وكذلك قواميس معاني الكلمات كما استعملت في الماضي. ولا حاجة للباحث أن يحفظ أي منها إن وضعت في قاعدة للمعلومات على جهاز الحاسوب.
جمع العديد من علماء اللغة معاني الكلمات في معاجم وقاموا بترتيبها بطرق مختلفة. فالخليل بن أحمد ولشغفه بالأصوات والموسيقى رتب كتابه المعروف بالعين وفق مخارج الحروف من الفم. فوجد أن أعمقها من صدر من أدنى الحلق وهو حرف العين ثم على التوالي الحروف: ح، ها، خ، ق، ك، ج، ش، ص، س، ز، ط، ت، د، ظ، ذ، ث، ر، ل، ن، ف، ب، م، و، ي، الف. وللقارئ أن يجرب لفظ كل منها ليتتبع مخرج كل حرف من الفم. ورتب آخرون معجمهم وفق الحروف الأبجدية للأفعال. فمثلا لكلمة جلس، فإنهم إما رتبوها وفق حرف الجيم مثل ما فعله الزمخشري، أو وفق حرف السين وفق ما فعله الجوهري وغيره. وذهب آخرون مثل القاسم بن سلام وابن سيده الأندلسي الى ترتيب معاجمهم وفق الموضوع. فمثلا جمعوا كل كلمة في أبواب تعلق كل منها بموضوع معين مثل جسم الإنسان وبيئته أو أي من الحيوانات أو النباتات، وهكذا. كما وضع ابن القطاع معجمه المختص بالأفعال. ونذكر أن ترتيب الكلمات في المعاجم لم يعد مشكلة للباحث في العصر الحديث بفضل توفر جهاز الحاسوب وبرامجه المتعلقة بقواعد المعلومات. ولكن المشكلة هي أنه ولغاية تاريخه لم يدخل الباحثون في حواسيبهم جميع المعاني التي وردت في جميع قواميس العربية المخطوطة والمطبوعة. وهذه ليست مشكلة لغوية وإنما مشكلة اجتماعية تتعلق بفقدان الهمة وعدم توفر الاهتمام الكافي، وأيضا الرضوح للتخلف.
نذكر فيما يلي المعاجم التي تم طباعتها خلال القرن الأخير والتي نقدر مجموع ثمنها ما يعادل ثمن هاتف خلوي متنقل ومتداول في الأسواق، ولكن دون أن يلحق ذلك فواتير دورية. فإضافة لكتاب العين تم طبع كتاب ابن دريد (المتوفي في 321 للهجرة) المعروف "بجمهرة اللغة". وطبع كتاب "الصحاح" (ويجوز فتح الصاد أو كسرها) للجوهري (453 للهجرة). ولهذا الكتاب مقدمة للمرحوم الأمير (الذي أصبح ملكا فيما بعد) فهد بن عبد العزيز آل سعود حين كان وزيرا للتربية والتعليم، وأخرى للمرحوم عباس محمود العقاد، وأيضا بحثا قيما لأحمد عبد الغفور العطار. كما طبع كتاب "المخصص" لابن سيده الأندلسي (458 للهجرة)، وأيضا "كتاب الأفعال" لابن القطاع (515 للهجرة). وتم طبع معجم "أساس البلاغة" للزمخشري (538 للهجرة). وفي عهد المرحوم جمال عبد الناصر تم طباعة كتاب "لسان العرب"، في نحو 8,000 صفحة، لابن منظور (711 للهجرة) والذي قدم له وزير الثقافة آنذا ك المرحوم عبد القادر حاتم. وطبع معجم "القاموس المحيط" للفيروزآبادي (817 للهجرة) عدة مرات في بيروت. وطبع معجم "تاج العروس" ( والبالغ عدد صفحاته نحو سبعة آلاف صفحة ) للمرتضى الزبيدي (1205 للهجرة)، ونشرته دار ليبيا للنشر والتوزيع قبل أكثر من 50 عاما، أيام الحكم الملكي. وللقارئ أن يلاحظ كيف أن العناية بلغة الضاد ورعايتها قد جمعت هذه الأمة في الماضي البعيد والقريب، خلافا لأيامنا هذه التي لم يعد يسودها سوى الفرقة والتناحر.
باستثناء واحد لم يقترن إسم أي من مؤلفي المعاجم ببيت المقدس. وهذا الاستثناء هو محمد بن يعقوب بن محمد الشهير بالفيروزآبادي. إذ أنه زار المدينة ومكث فيها مدة من الزمن ، قام خلالها بجمع كتاب بخط يده، وهو آية من الجمال بألوانه وزخارفه النباتية والهندسية. والمخطوطة (وهي موجودة في القدس) هي ما نسخه صاحبنا لقصيدة البردة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم والمتضمنة ذكر الإسراء والمعراج. والقصيدة ألفها الشاعر البوصيري (المتوفي في 696 للهجرة) (ومطلعها: أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعا جرى من مقلة بدم). بقي أن نذكر كيف أورد أصحاب المعاجم المذكورة أعلاه كلمة "قدس". نجد انهم إجازوا لفظ الكلمة بضم القاف وتسكين الدال، وأيضا جواز لفظ آخر بضم كلاهما (حسبما سمعتها من أهل نابلس). وأجاز الجوهري لفظين لتعبير"بيت المقدس" (بضم الميم وفتح القاف وفتح الدال المشددة، وأيضا بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال). أما من ينسب للمدينة فهو "مقدسي" وأجاز لفظين لها (إما بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال، أو ضم الميم وفتح القاف وفتح الدال المشددة). واتفق جميعهم على أن معنى الكلمة هي الطهر (بضم الطاء وسكون الهاء) وعليه قيل "الجنة حظيرة القدس"، أي أنها طاهرة. والجنة لمن رامها، ورغب دخولها.