الجمعة: 20/09/2024 بتوقيت القدس الشريف

حريم السلطان والقدس، وأريحا، وبيت جالا، و ...

نشر بتاريخ: 04/05/2016 ( آخر تحديث: 04/05/2016 الساعة: 15:17 )

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

شاهد العديد من القراء المسلسل التلفزيوني "حريم السلطان" والذي ظهرت فيه شخصيات تاريخية وحقيقية. كانت إحدى هذه الشخصيات زوجة السلطان سليمان القانوني، الملقبة بهيام. وأعتقد بأن قلة قليلة من قرائنا على علم بما لهذه المرأة من علاقة وثيقة جدا بالقدس وأريحا وبيت جالا وعدة أماكن أخرى في بلادنا. وقبل الشروع في وصف هذه العلاقة لا بد من تقديم لمحة مقتضبة عن تاريخ هذه المرأة.

ولدت هيام نحو عام 1502 م، في بلدة روهاتين في ما كان يعرف بمملكة بولندا، وهي الأن جزء من أوكرانيا. كان أسمها حين ولادتها ألكساندرا أو أناستازيا. والمرجح أن والدها كان راهبا أورثودكسيا. لدى غزو قبائل الترتار (من شبه جزيرة القرم) لمدينتها أسرت صاحبتنا وبيعت فيما بعد كجارية في سوق العبيد. ولجمال خلقها استقرت كجارية في حريم الأمير سليمان والذي لم يكن سلطانا بعد. وحول أسمها منذ ذلك الحين، وأطلق عليها أيضا أسم روكسلانة، ووفق العديد من المصادر قامت باعتناق الإسلام. كما أنجبت للأمير سليمان عدة أولاد منهم محمد (الذي توفي في حياة أبيه)، وعائشة، وسليم الذي خلف والده في السلطنة في 1566 م. قام سليمان القانوني وعلى غير عادة سلاطين بنو عثمان بالزواج من جاريته نحو عام 1533 م، وأطلق عليها لقب خاصكي سلطان.

تمتعت خاصكي سلطان بروح مرحة وكانت على درجة عالية من الجمال والذكاء والطموح والحنكة في أمور البلاط وأيضا في الأمور السياسية للدولة. وكان تأثيرها على السلطان سليمان كبيرا في إدارته للدولة وسياساتها. كما لعبت دورا كبيرا في ما تعرض له البلاط السلطاني في قصر توبكابي من دسائس ومؤامرات واغتيالات. ظهر البعض من ذلك في المسلسل التلفزيوني، وطمس البعض الآخر، والله أعلم. ومهما تكن الحقيقة، كان لهذه المرأة أعمالا جليلة ومتنوعة في فعل الخير شملت عدة مدن وأقاليم. وشبه البعض أعمالها الخيرية بتلك التي كانت تقوم بها زبيدة، زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد. فمن أوائل أعمال خاصكي سلطان كان بناء مسجد ومدرستين لتعليم القرآن وسبيل ماء بالقرب من سوق العبيد في القسطنطينية، تم إنشائهم من قبل المعماري الشهير سنان باشا. كما أنشأت جامع في كل من أدريانوبول وأنقرة، وحمامين للمصلين بالقرب من جامع آيا صوفيا في القسطنطينية. وشجعت زوجها على حفر آبار لسقاية الحجاج في طريقهم الى الحج بالقرب من معان. كما أنشأت تكية لإطعام فقراء الحجاج في مكة المكرمة. أما في القدس فحدث ولا حرج.

في عام 1551م، بدأت صاحبتنا بإنشاء تكية تعرف اليوم "بتكية خاصكي سلطان" لإطعام الفقراء من أهالي القدس والوافدين اليها. وتقع هذه البناية الضخمة داخل سور المدينة الى يسار طريق الواد نزولا من باب العامود، وعند تفرعه لطريق آخر يؤدي لباحات الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى. وفي الوثائق التاريخية وسجلات المحكمة الشرعية يشار الى التكية "بالعمارة العامرة". تحوي البناية عدة مطابخ وغرف ومرافق وباحات تابعة لها. وكانت التكية تقدم يوميا طعاما مجانيا للواردين اليها. وهوعلى غرار ما كان يقدم للفقراء من طعام في سماط خليل الرحمن في الخليل منذ العهد المملوكي. كان الطعام المجاني هذا يعرف "بطاسة طعام" ويقدم للفقراء مرتين في اليوم. تألف الطعام من شوربة، عرفت "بالدشيشة" مكونة من الأرز أو الدقيق المطبوخ مع قطع من اللحم. ووفق ما ورد في الوثائق التاريخية كان يوزع يوميا ما لا يقل عن ثمانماية رغيف من الخبز مجانا. استمر عمل الخير هذا في بيت المقدس لنحو ثلاث قرون من الزمن. حول المكان في القرن الماضي الى ما يعرف اليوم "بدار الأيتام الإسلامية" لرعاية الأيتام وتعليمهم الحرف المهنية.

كان الصرف على العمارة العامرة يتم مما يتحصل من ريع الأوقاف التي أنشأها السلطان سليمان خصيصا لصالح التكية. إذ جرت الأمور في الفتوحات الإسلامية أن جميع القرى والأماكن تؤول لبيت المال وتكون تحت تصرف السلطان. فمثلا لدى فتح البلاد بعد دحر الحكم الصليبي من قبل الأيوبين والمماليك في بلادنا وبلاد الشام آل لبيت المال المئات من القرى والمزارع وأيضا عددا كبيرا من العقارات داخل المدن المحررة. وأقدمت السلاطين على إيقاف العشرات منها لصرف ريعها على المسجد الأقصى والصخرة المشرفة وحرم خليل الرحمن. كما أنشأوا ما لايقل عن خمسين مدرسة دينية وزاوية للصوفية وغير ذلك في القدس وحدها. وتم الصرف عليها من ريع ما أوقف من قرى ومزارع وعقارات. كما أقاموا العديد من الوقفيات للغايات ذاتها في المدن الأخرى. أما ما لم يتم وقفه فقد بقي في بيت المال وتحت تصرف السلطان والذي منح العديد منها كإقطاع لكبار رجال الدولة والعسكر مدة حياتهم.

ولأجل الصرف على تكية خاصكي سلطان تم وقف نحوا من 17 قرية ومزرعة، العديد منها أصبحت مدنا كبيرة في يومنا هذا. وهذه القرى والمزارع كانت أريحا، بيت جالا، جفنا، بيت إكسا، بيت لقيا ومزرعة بقيع الضان والتي تقع جميعها قرب القدس. وفي ناحية الرملة تم وقف قرى اليهودية، عنابة، رنطيا، بيت شنا، الكنبة، جنداس، بيت دجن، السامرية، سنيارا، يازور واللد. كما تم إنشاء حمامين في محلة باب العامود في 963 للهجرة رصد ريعهما لذات الغرض. كل هذا إضافة لريع ما كان الوقف يمتلكه من عقارات في القدس.

كان ريع القرى الموقوفة في كل سنة ذات قيمة كبيرة. ونسوق على سبيل المثال ما تحصل من القطع الذهبية السلطانية لبعضها في سنة 964 للهجرة، أريحا 70 قطعة، عنابة 164، اليهودية 354، رنطيا 36، اللد 795، يازور 241، سنيارا 240، السامرية 240، بيت دجن 7، جنداس 54، الكنبة 26، وبيت شنا 20. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن ثمن دار متوسطة الحجم في القدس آنذاك كان نحو 60 قطعة ذهبية، نجد أن ما كان يصرف سنوياً على التكية لم يقل عن ثلاثة آلاف قطعة ذهبية، أو ثمن خمسون دارا متوسطة الحجم. وجدير ذكره أن الناظر على الوقف كان دائما من الأتراك ومن ذوي الرتب العالية. وكان يقدم محاسبة سنوية يرفع للقسطنطينية عن إيرادات ومصروفات الوقف.

وفي عام 964 للهجرة، 1557 م، أمر السلطان سليمان بتحديد القرى والمزارع الموقوفة على تكية خاصكي سلطان. فمثلا حددت حدود أريحا بأنها تمتد الى "الشريعة" شرقا، أي نهر الأردن، والبحر الميت جنوبا، والنويعمة شمالا (وكانت موقوفة على الصخرة المشرفة)، وجبل القرنطل غربا. أما بيت إكسا فقد حددت بحدود قرية بيت طلما جنوبا وبيت حنينا من الشرق والشمال وتتمتها حدود قرى النبي شمويل وبدو وبيت سوريك. أما مزرعة بقيع الضان فقد امتدت من خلة صلاح الدين بالطور الى قرية العازرية الى رأس الزعيم ومزرعة دير سد والعيساوية. أما بيت جالا فقد حددت تفاصيل حدودها الشرقية المحاذية لأراضي بيت لحم والتي كانت موقوفة على الحجرة النبوية الشريفة في المدينة المنورة، ومن الشمال الشرقي الدرب السلطاني المؤدي الى القدس وحدود قرية طبليا وشمالاً بيت صفافا وبيت أرزة (التي تقع غربي شرفات) وأراضي قرية المالحة وغرباً أراضي قرية الولجة وجنوباً حدود أراضي قرية بتير. ودونت تفاصيل حدود بيت جالا في أربعة صفحات. وكذلك جرى الأمر في تحديد القرى والمزارع الأخرى الموقوفة.

كان وقف "العمارة العامرة" أكبر وأغنى الأوقاف التى أنشأت في القدس في العهد العثماني. فعلى الرغم من طول حكمهم للمدينة فإن عدد الوقفيات الكبيرة لهم كان قليلا جدا. نذكر منها وقفية النبي داود (نحو 1552 للهجرة) والتي أنشأها السلطان سليمان على زاوية النبي داود وذرية شيخ الصوفية آنذاك الشيخ أحمد الدجاني (جد عائلة الدجاني في القدس)، ووقفية الزاوية الأسعدية في طور زيتا والتي أوقفها مفتي الدولة العثمانية أسعد باشا على مقام رابعة العدوية وذرية الشيخ المتصوف محمد بن عمر العلمي (جد عائلة العلمي) في عام 1033 للهجرة. ولكن ذلك لا ينفي العناية البالغة التي أولاها السلطان سليمان للمدينة. فإنه قام بتعمير المسجد الأقصى المبارك وتجديد القاشاني الفائق الجمال للصخرة المشرفة. كما أنه عمر سور مدينة القدس والذي كان في حالة سيئة وذلك بارسال معماريين من مدينة حلب لهذه الغاية. كما جدد الخندق الذي يحيط بالمدينة والذي ما زال بعض معالمه ظاهرة ما بين باب الساهرة وبرج اللقلق الذي يقع على الزاوية الشرقية الشمالية للسور. وأقام السلطان سليمان أيضاً برجا لحماية الأهالي في طور زيتا ظاهر القدس.

توفيت خاصكي سلطان في 15 نيسان 1558م عن عمر بلغ 56عاماً. وتم دفنها في طرف المقام الملاصق لجامع السليمانية الذي أنشأه زوجها، وزين هذا المقام بالقاشاني الأزرق الجميل المزين بأوراق النباتات. ويحوي وسط المقام رفات السلطان سليمان الذي توفي بعدها بثماني سنوات. وجلس على عرش السلطنة ابن خاصكي سلطان سليم الثاني.

ومن الجدير بالذكر أن المدينة التي ولدت فيه خاصكي سلطان (روهاتين في أوكرانيا) أقامت لها تمثالاً في إحدى الساحات، وأصدرت أوكرانيا في 1997 طابعاً بريدياً عليه رسماً لها. كل ذلك بسبب مولدها هناك. أما ما فعلته من خير لفقراء القدس وأكنافها على مدار قرون عدة فكأنما محي من الذاكرة، ولربما أتى ذلك وفق قول شكسبير (في مسرحية يوليوس قيصر) "يدفن ذكرعمل الخير مع عظام فاعله".