نشر بتاريخ: 10/05/2016 ( آخر تحديث: 10/05/2016 الساعة: 10:20 )
الكاتب: شفيق التلولي
من زمن دوائر التيه البرتقالية إلى زمن الموتى الذين يبعثون في غزة، ففي الزمن الأول أذكر يوم كنت صغيراً بأنني قرأت قصة فتى تاه في الصحراء، ولم يعد يدرك الإتجاهات الأربعة، لا أتذكر أحداث هذه القصة ولا نتائجها بالضبط، كل ما أذكره هو هذا التيه الذي أخذني عميقاً مع رياح الفيافي ورمالها المتحركة التي صارعها هذا الصبي، حتى انغمستُ معها في يقظتي وأحلامي، لم يحل لي لغز هذه الحكاية إلا بعدما قرأت مجموعة الدوائر البرتقالية القصصية، فعرفت معنى التيه بحثا عن الوطن المفقود.
وفي الزمن الحالي نعود لذات المتاهة التي دعتني لتذكر هذه الحكاية بعد حالة التخبط والضياع حيث بتنا نعيشها بكل تفاصيلها المُرة، دونما بوصلة تحدد لنا الإتجاهات الأربعة، ولا خطوط الطول والعرض، واختلطت علينا الأمكنة والأزمنة، وحط التيه وأطبق الظلام وكثرت الصحاري، وبتنا نموت في اليوم ألف مرة ومرة، حتى ترجمت لي مجموعة الموتى يبعثون في غزة القصصية حالة الضياع المتغول الذي يأسرنا حتى الغُرة وما من طوق نجاة.
فعلى أرض البرتقال الحزين بحر يسكن شاطئه من دقوا خزان صهاريج الوقود، فإذا بها فارغة، أسمع طنينها الفئران التي لم يعد لها مأوى غير بيوت بسطاء المخيم، بعدما ابتلع الملح بقايا السفينة التائهة في بحرهم، فعاثت فيها وتكاثرت، وتاه ساكنيه في دوائر الظلام البرتقالية.
قبل هذين الزمنين اختنق من اختبئوا في الصهاريج، ولم يدقوا الخزان، لعل قرع الخزان ينجيهم من موت الهجرة واللجوء، وبعد الزمن الأخير صار الموتى يبعثون من عتمة الشاطئ، الفئران تنهش أقدامهم والنيران تلتهم أجسادهم، يبحثون عن بقعة ضوء من شمعة لكن الشمعة تأبى إلا أن تصبح لعنة، حينما يطول إيقادها، وتأكل الفئران الحصيرة اليتيمة.
وبعد ذلك يحط سجال الليل، ويتسابق سائقيّ شاحنة الصهريج، ليقولا لموتى العتمة لماذا لم تدقوا الخزان؟ ألم نترك لكم الخزان فارغاً؟ لماذا احترقتم كما اختنق أسلافكم من ذي قبل؟!
فيرد المشيعون إنهم لم يقرأوا رواية رجال في الشمس، ويردد المكلومون بل قرأنا عليكم دعاء الرحيل، لكن ليلكم طويل طويل، فكيف تسمعون قرع الخزان، ونومكم ثقيل ثقيل؟!
مازال الأب يصرخ من وجع الحريق، والأم أعياها الفقد، ولم تكف عن البكاء والعويل.