الإثنين: 25/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

القدس في الماضي: المساواة أمام القانون

نشر بتاريخ: 11/05/2016 ( آخر تحديث: 11/05/2016 الساعة: 11:22 )

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

كان القانون السائد في البلاد وحتى عام 1868 م, الشريعة الإسلامية. وانطبق هذا القانون على جميع الأهالي من مسلمين ونصارى ويهود, وكذلك زائري البلاد. وانطبق الأمر في القضاء أيضا باستثناء أمر واحد سنتطرق اليه لاحقا. فالقاضي الشرعي لم يميز ما بين مسلم ويهودي ومسيحي سواء شمل حكمه قضايا فيما بين المسلمين أنفسهم أو ما بين المسلمين وأهل الذمة أو فيما بين أفراد طائفة من طوائف أهل الذمة. وانطبق ذلك على كافة الأمور: مثل البيع والشراء, والعقود التجارية, وعقود الزواج والطلاق وحماية الزوجة, والإقرار والرهن, والوقف والاستحكار, وفض النزاع وكافة الأمور الأخرى. وحيث أن القضايا التي حكم بها القاضي هي دليلنا لتقييم مدى صحة هذا القول نورد أدناه أمثلة لوقائع حقيقية وموثقة في سجلات القضاء. وسنحصر أمثلتنا في هذا المقال في الأحوال الشخصية, وندع أمثلة للمعاملات التجارية لمقال آخر.

ولنبدأ بحلف اليمين والذي كان مطلوبا في الكثير من القضايا. فالمسلم كان يحلف بالله تعالى. واليهودي كان يحلف "بالله تعالى الذي أنزل التوراة على سيدنا موسى". أما النصراني فكان يحلف "بالله تعالى منزل الإنجيل على عيسى بن مريم". وقد وجدنا العديد من الأمثلة على ذلك يعود بعضها الى 1550 م.

لم يكن من الضروري للمسلم أو اليهودي أو النصراني التوجه للمحكمة لعقد القران أو فسخ الزواج. وإنما العديد منهم فعلوا ذلك لأجل تثبيت شروط عقد الزواج أو الاتفاق على شروط الطلاق. والأمثلة التالية تشير الى أن الزواج والطلاق كانا يتمان لأهل الذمة وفق قوانين الشريعة الإسلامية. فهذه المرأة النصرانية المطلقة نصرة حلفت اليمين الشرعي (في سنة 1606 م) بمرور المدة الشرعية على طلاقها من زوجها الأول واتفاقها مع النصراني ابراهيم على شروط المهر لزواجهما. فبمقتضى الشرع تقبل شهادة المرأة منفردة بشأن الأمور الأنثوية مثل مرور الزمن الشرعي بعد طلاقها من زوجها الأول. وحكم قاضي القدس آنذاك, علي, بصحة عقد الزواج. وفي مثال آخر قامت اليهودية سعد ابنة هارون بتزويج نفسها أمام القاضي الحنفي صادق محمد (1635 م) الى كلاليا ابن شمويل اليهودي بعد الاتفاق على المهر المعجل والمؤجل. وحلف القاضي المذكور كلاليا بخلوها عن الموانع الشرعية.

وكما طبقت القوانين الشرعية في الزواج طبقت أيضا في الطلاق. فهذا النصراني الياس بن سعيد قد صرح أمام القاضي حسام الدين (1605 م) بأنه طلق زوجته النصرانية مريم ابنة عودة الصايغ والتي لم يدخل بها أو يختلي بها وذلك بالاتفاق مع وكيلها الشرعي والدها على شروط الطلاق. وأبرأ كل طرف منهما الآخر فيما يتعلق بالمهر المؤجل ونفقة العدة. وأقر القاضي الطلاق الذي تم برضاء الطرفين. أما قراكوز الأرمني والوكيل الشرعي عن بنفنستة الأرمنية فقد سأل زوج موكلته جابي النصراني والذي كان ترجمانا لطائفة الافرنج بأن يطلق زوجته مقابل إبرائه من المهر المعجل والمؤجل وكسوتها ونفقة عدتها. فأجاب الزوج بالايجاب. فأقر القاضي محمود (1582 م) خلع الزوج لزوجته وبعدم جواز رجوعها اليه إلا بعقد جديد. أما النصراني عبد المسيح فقد ادعى في 1621 م, أنه عقد زواجه على النصرانية سعدات بواسطة وكيلها جمعة النصراني وبحضور شهود مسلمين وذلك بعد الاتفاق على المهر. وأضاف أنها مانعة نفسها عنه. ولدى سؤال سعدات أنكرت أنها وكلت أحدا بتزويجها ولم تجوز نفسها لأي أحد. فعند ذلك اعترف عبد المسيح أنه لم يتزوج المذكورة وإنما أراد خطوبتها فقط. فما كان من القاضي الحاكم خليل بن سنان سوى رد الدعوى. وهذا القاضي الحاكم محمود ( في 1566 م) ألزم فهد بن نعمة النصراني بأن يسكن زوجته عزيزة النصرانية في مسكن شرعي "خال عن أهله وأهلها وبين قوم صالحين".

طبقت الإحكام الشرعية على أهل الذمة فيما يتعلق بالوصاية على القاصرين وحصر الإرث والأمور الشخصية الأخرى. ففي 1563 م. تم تنصيب اليهودي اسحق من قبل القاضي الحاكم محمد أبو الوفا التميمي ليكون وصيا على أيتام أخيه القاصرين. كما أقر القاضي ذاته حصر إرث اليهودي مردخاي بن هارون وتوزيعه بموجب قانون الفرائض الشرعية على ابنتيه وابن أخيه بحيث حصل كل منهم على الثلث بعد حسم رسوم المحكمة. وبلغت قيمة الرسوم آنذاك 1,5 % من قيمة الإرث والتي كانت تجبى من المسلمين وأهل الذمة على حد السواء. أما القاضي عثمان بن عبد المؤمن (1639 م) فقد قرر لجدة القاصرة عزيزة ابنة وانيس السرياني بصرف مبلغ محدد كل يوم على حفيدتها نظرا لغياب والدها مدة طويلة دون أن يترك لها ما تنفقه. وأجاز القاضي للجدة بالأستدانة لأجل ذلك والرجوع على الأب لدفع الدين.

كانت القضاة تنبه على الأهالي بما في ذلك أهل الذمة عن واجدب التبليغ عن أي وفاة وعدم إخفائها. ولتوضيح أسباب ذلك نورد المثال التالي. ففي 1570 م, ادعت اليهودية حليمة ابنة ابراهيم وبشهادة اثنين من المسلمين أن زوجها الطبيب اليهودي المصري كان قبل وفاته وهو بكامل صحته وقواه العقلية قد أقر أمام الشهود بأن المهر المؤجل المتفق عليه لزوجته كان ثلاثون قطعة ذهبية. وبعد حلف اليمين من قبل الزوجة أقر قاضي القدس حسام الدين بما ادعته الزوجة. وأمر القاضي بإبلاغ متولي أوقاف الصخرة المشرفة بذلك. ولتفسير ما ورد نذكر أن القانون الشرعي للإرث كان ينص على أنه إن توفي الزوج دون أن يخلف ذكورا أو إناثا أو يكن له أقارب فيحق لزوجته أن ترث ربع إرثه فقط ويحول الباقي إما لبيت المال أو لوقف الصخرة المشرفة. وحيث أن الزوجة اليهودية في الحالة أعلاها قد بينت أنها لم تستلم مؤجل مهرها فعليه تحسم قيمة المؤجل من الإرث قبل توزيعه. وهنالك أمثلة كثيرة وردت عن تطبيق هذه القانون على المسلمين وأهل الذمة على حد السواء. وعليه أتى التنبيه على عدم إخفاء الموتى حفظا لاستحقاق بيت المال أو وقف الصخرة المشرفة. وفي حالة وفاة الزوجة فقد نص القانون أن الزوج يرث نصف الأرث مع تحويل النصف الآخر للجهات المذكورة. وهذا القانون الشرعي ما زال قائما الى اليوم بعد إجراء بعض التعديلات عليه, حيث استعيض عن بيت المال/وقف الصخرة المشرفة مصالح دائرة الأوقاف.

نورد فيما يلي مثال آخر عن الأمور الشخصية شملت مسلما ويهودية وكيف أن ديانة المدعي والمدعى عليه لم تكن حائلا أمام تطبيق الشرع فيما يتعلق بالأمور الشخصية. ففي 1634 م, سألت اليهودية ريقة زوجها محمود, والذي كان يهوديا واعتنق الإسلام, بأن يطلقها مقابل التنازل عن مهرها المؤجل والبالغ أربعون قرشا أسديا. فوافق الزوج على ذلك وأقر القاضي سيف الله الطلاق. وبعد ذلك بنحو ثمانية أشهر توجه وكيل ريقة للقاضي الحاكم محمد بن علي مدعيا بأنها وبعد طلاقها وضعت مولودا قالت أنه تحصل لها من محمود قبل طلاقهما. وطلب الوكيل من محمود أن يأخذ المولود الى حضانته كون ريقة قد تزوجت من غيره. فرفض محمود ذلك وأنكر وقوع الطلاق بينهما. وجدير ذكره أنه لم ينكر أبوة المولود. ويعود ذلك الى قناعته بأنه إن فعل ذلك فما على ريقة سوى حلف اليمين بأنه والد المولود الأمر الذي سيقره القاضي. فعند ذلك أبرز وكيل ريقة وثيقة الطلاق والتي شهد بصحتها كتبة المحكمة زكريا الخالدي ومصطفى الدجاني. وعليه حكم القاضي بأن يأخذ محمود المولود كون أن حضانة ريقة له سقطت بسبب زواجها لرجل آخر.

كان القاضي يحكم بالبينة بشأن أي نزاع أو ادعاء وبغض النظر عن ملة المتنازعين حسبما يظهر في المثال التالي. ففي عام 1566 م, ادعى بطرك طائفة الروم في القدس ومرافقه جيورجي أنه وأثناء القيام بالطقوس الدينية في كنيسة القيامة قام المدعو نيقولا النصراني بالاعتداء عليهما لفظيا وجسديا, وقام أيضا بتدنيس الخبز المقدس. ولدى سؤاله عن ذلك من قبل القاضي الحنفي عبد الكريم أنكر المدعى عليه الإدعاء. ولدى طلب القاضي البينة من المدعي, قام البطرك بإحضار عطا الله وبوان النصرانيان اللذان شهدا بأنهما شاهدا الاعتداء ووصفاه طبق ما ادعى به المدعيان. فقبل القاضي الحنفي شهادتهما وحكم بتعزير المدعى عليه, أي ضربه ما لا يزيد عن ثمانون سوطا. فعند ذلك قام المدعو عيسى شقيق نيقولا والذي كان حاضرا في المحكمة بشتم البطرك وتهديده دون أن يرتدع لدى زجره من قبل القاضي. فما كان من القاضي سوى أن حكم على عيسى بالتعزير لاستخفافه بمقام المحكمة.

ذكرنا أن القانون انطبق على المسلمين وأهل الذمة دون تمييز. وكذلك الأمر في القضاء باستثناء أمر واحد والمتعلق بالشهادة الشفهية. إذ اختلفت المذاهب في قبول الشهادة اللفظية من أهل الذمة. فبينما قبل القاضي الحنفي شهادة الذمي بقضايا تتعلق فقط بأهل الذمة إلا أنه رفض قبولها بإمر يتعلق بمسلم. وهذا المذهب كان سائدا خلال الخمسة قرون الماضية. أما المذهب الشافعي فقد رفض شهادة الذمي اللفظية في جميع الأ حوال. بيد أنه كان هناك خيار لأهل الذمة في القدس. إذ توفر لهم دائما قاض حنفي المذهب منذ عهد المماليك وقبل حكم العثمانيون. على أن البينات الوثائقية المقدمة من أهل الذمة كانت دائما مقبولة لدى القضاة وبغض النظر عن مذهبهم. وقد رأينا في المثال الوارد أعلاه لليهودية ريقة صحة ذلك. وعليه كان هنالك حافزا لأهل الذمة تدوين حقوقهم من خلال الوثائق.