نشر بتاريخ: 11/05/2016 ( آخر تحديث: 11/05/2016 الساعة: 11:46 )
الكاتب: عيسى قراقع
ايتها البلاد التي انتمي اليها، لا استطيع ان احضنك الا بما تيسر لي من اجنحة ونبضات خفيفات في القلب.
من جنين حتى الخليل ، اسير في شوارع تصغر ثم تصغر، اقف على حاجز يمتد اسلاكا وجنودا، وتتسع تعليمات الجنود عليه بإطلاق النار، هنا بيت شهيد، وهنا بيت اسير، وهناك ركام بيت دمروه ودعسوا على ذكرياته وآثاره.
ايتها البلاد التي صارت اقفاصا لا تلائم فضاء المبادرة الفرنسية ، ولا تنسجم مع عواطف كل القرارات الدولية ، الافق يبتعد والارض تنزف عطشا وخرابا، زخات الموت تهطل فوق رؤوس الناس، بين اقدامهم، رأيت فتاة صغيرة تقتل بمريولها المدرسي، انها البلد، من اخمص القدم الى اعلى الرأس يمتليء جسدها بالدم.
لا مفر، اقطع المسافات المحاطة بالمستوطنات الكبيرة والصغيرة ، وكل مستوطنة عشوائية تتضخم بعد حين، تتراجع الارض والقرية والناس، الاشجار والطقس والربيع، وتهرب الطيور.
لا مفرّ، اقف على حاجز عسكري، ارفع القميص واتعرى بين مكعبات الاسمنت ، ولا مفر، اركع امام سخرية الجنود وكاميراتهم وضحكاتهم ، ولا مفر ، فالقيود البلاستيكية تضغط على يدي، وجسمي يصير كرة بين ركلات اقدام الجنود واحذيتهم المدببة.
كيف أقول كل هذا لمن أحبها؟ صراخ اطفال اسمعه في المسكوبية وعتصيون، ديما الواوي خائفة مرعوبة، وجهها اصفر، ترتجف ، صراخ في روحي، يبتعد البحر، تجلس الدبابات على ابواب المدارس، والسجون تكون اسرّة للاطفال.
ايتها البلاد الهاربة من الحياة الى الكلام والكلام فقط، كل الرموز والنياشين تضيء فوق صدرك، وكل الاوسمة فوق ثيابك المطرزة، ارجوك ابحث فيك عن حب متواضع، عن قبر لائق وليس مقبرة ارقام او ثلاجة باردة، ارجوك كلميني بلغة ليس فيها حصار، ومن على حصى الارض وليس على بساط احمر او من مكتب لا يراني ولا اراه.
يضيق المكان ويتسع الضوء في قلبي ، ليس هنا في سجن النقب ولا في سجن عسقلان قراء من السماء، الليل يهبط في نفسي ، هنا سجان والف باب، وزمن يتجمد في الغيب ، لا يتحدث الا مع الركام والاشلاء ، ومع الثقوب والتصدعات في الاسئلة.
كيف اقول كل هذا لمن احبها؟ وهناك يتمدد سامي جنازرة مضربا عن الطعام ضد اعتقاله الاداري، لا رسائل لأولاده وبناته ، معلقا امام صمت العالم بين الدنيا والآخرة.
يضيق المكان ويتسع الضوء في قلبي، ولا احد يعرف قاموس الضوء دون جوع او خوف، الا من دخل بيت اسير او شهيد وتغطى بلحاف الوجع ، ولا احد يدّعي البطولة الان، الا من غسل وجهه في حوض من الدم، فتح ذراعيه واسعة للقدس الوحيدة.
ايتها البلاد، بلادي، حنجرتي مليئة بورد يابس، الفاظي حديقة، والشتاء ينام في سريري عاريا حافيا، وانا لا احلم الا بأمي، و بفجر يتعكز على قليل من الهواء.
اين الاسماء، اين الاصدقاء؟ اخذهم القلق والجنازة، حولي غبار وغبار فقط ، في ذاكرتي جماجم مفتوحة على الزمن ، ذاكرتي مليئة بالحفر، كأن صوتي اصبح لهاثا يلاحق ولدا يتعثر في أزقة المخيم .
كيف اقول كل هذا لمن احبها؟ انا خارج الحبر والورق، انا الاقدام المضطربة دون حصان، انا المعنى المحجب، حولي جدران عالية ، انام محدودبا على البرش يحتجزني السجن ولا انام.
يضيق المكان ويتسع الضوء، اقرأ تقريرا عن الاعدامات الميدانية، واقرأ عن تزايد عدد المستوطنات والمستوطنين، واقرأ عن الفقراء والعمال المطاردين منذ ساعات الفجر، واقرأ عن دولة تسمى اسرائيل تحولت الى معسكر من حديد، واقرأ عن حملات الاعتقال الواسعة ، واقرا عن احتكارات مفتوحة بلا حدود، منتجين وسارقين ومستهلكين ، فكرة مركبة متناقضة، وانا اسمع الحرية تطلب رغيفا من الخبز.
تحل الذكرى ال 68 للنكبة، ويبدو بعد هذه السنوات ان ما جرى للشعب الفلسطيني عام 1948 تحول الى لعنة على مستقبل دولة اسرائيل ، فلا زال الاسرائيليون خائفون من الارواح التي تتحرك تحت تراب القرى التي دمرت وهجر وذبح اهلها، هذا ما يقوله احد اركان تلك الحرب ( يائير جولان) وهو يصف سلوك الجيش الاسرائيلي مع الفلسطينيين بسلوك النازيين، وان بذور الكراهية والتعصب في المجتمع الاسرائيلي توجع الضمير الانساني، وتقود الى التدهور الاخلاقي ، كان هناك محرقة ، وترتكب هنا محرقة.
كيف اقول كل هذا لمن احبها؟ وقد ارسل الاسير المشلول منصور موقدة وصيته لي، قطعا من جسمه الممزق بالرصاص، اول الوصية موت وآخرها موت، وبين الكلمات والصرخات تهزني الشهقات تلو الشهقات.
على حاجز قلنديا تذكرت المرأة التي أحبها، لها رائحة في التاريخ، وبتوفيق من السماء عبرت تاركا صورة مروان البرغوثي على الجدار، هي مدينة تتمدد في انابيب اسمنتية، وانا العاشق التائه في دائرة بين الحاجز والمراة الهاربة.
كيف اقول كل هذا لمن احبها؟ تعبت من المؤتمرات والمناسبات المزدحمة، شعارات كثيرة هنا، وانتِ هنا كدمي يسيل في منحدرات اخرى، قلت: ايتها السيدات والسادة ، رأيت للفجر ثديين يسيلان حليبا ابيض على ايامي، فهل تساعدوني على ايقاظ حبيبتي النائمة في أعماقي، وتصدقوا هذا الغيم؟
يضيق المكان ويتسع الضوء في قلبي، ليس لي غير قلبي، ارضي وترابي وجسدي ، الحزن بين ذراعي، والفرح في صدري.
اعذريني حبيبتي
لم اعد أرى
ما انظر اليه