نشر بتاريخ: 12/05/2016 ( آخر تحديث: 12/05/2016 الساعة: 12:05 )
الكاتب: عصام بكر
لم يكن ما يعرف بالصراع العربي الاسرائيلي او قضية الشرق الاوسط في أي فترة سابقة اقرب من الوضوح في تحديد الاقتراب من ملامح النهاية مثلما هو الحال في الفترة الحالية ، وايضا لم يكن هذا الصراع اقرب من نقطة الانفلات وانعدام الافق في الوصول لتسوية عادلة وشاملة مثلما هو الحال عليه في الفترة الحالية والقادمة ربما ، فمحاولات ايجاد التسوية لانقاذ ما يعرف بحل " الدولتين " شارفت على النهاية وسقوط هذا الخيار لم يعد مستبعدا نظرا للتغيرات التي تحدث على الارض بشكل يومي ، والهوة الواسعة في المواقف التي تجعل من الوصول لحل في ظل القائم بمثابة انتحار سياسي لكلا الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي ، والاقرار رسميا باسقاط هذا الحل ايضا من شأنه ليس فقط الابتعاد كثيرا بافق اي حل في المستقبل الذي تنعدم فيه الامكانية الفعلية لايجاد الاليات العملية للتطبيق ، وانما الاقرار بسقوطه يعني عودة الصراع الى نقطة البداية الاولى ، صراع مفتوح على كل الخيارات والاحتمالات ، حلقات وموجات جديدة من المواجهة المفتوحة التي لم تتوقف اصلا وانما زادت او انخفضت حدة الاشتباك فيها تبعا لعوامل عديدة تحتمها ظروف وعوامل مختلفة ، وضياع أي بارقة امل مستقبلية بامكانية تحقيق تسوية قادمة تكفل النجاح والاستمرار ، وتحفظ مستقبل الاجيال وتوقف اراقة الدماء بازالة اثار الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني وتسبب في تشريده ونزوح الاغلبية منه الى بقاع العالم ، التسوية المنشودة التي قبلها الناس تقوم على اساس انهاء الاحتلال وتحقيق استقلال دولة فلسطين ذات السيادة وعاصمتها القدس وتقرير المصير وعودة اللاجئين وفق القرار 194 هذه التسوية الحديث عنها اليوم يثير السخرية ولم يعد يحظى بصدقية لدى الجل الاعظم من الناس وهي اية تسوية اما تحقق العدل والسلام او سلام الامر الواقع وفرض الحل من جانب واحد وشتان بين التعاطي مع المساريين من حيث تجنيد التأييد والدعم او الامكانية الفعلية لمبدأ القبول بكلا الحلين ، وموجبات التعاطي معهما من المنظار السياسي المحظ ، ووفق توازنات وتكتيكات الاطراف لا سيما الفلسطيني والاسرائيلي .
وفق هذا الاطار النظري للصورة المؤلمة الصارخة والصريحة يمكن الدخول بعمق لتخوم المشهد المحتقن في الاراضي الفلسطينية ، فوفق استطلاعات الرأي التي اجريت مؤخرا على سبيل المثال هناك مؤشرات خطيرة تشير بوضوح لحالة من انعدام الامل باحراز أي تقدم وفق الوضع الراهن ، وفقدان الثقة بمكونات النظام السياسي سلطة واحزاب وقوى سياسية ، اوضاع اقتصادية غاية في التعقيد ، ارتفاع معدلات البطالة والفقر ، حصار جائر متواصل على القطاع منذ عشر سنوات .... الخ هذه معالم المشهد البارزة التي تكاد تصيب المتتبع لها بالشلل وعدم القدرة على فهم ما يجري ، تفاصيل الضرر الاقتصادي الاجتماعي والتشوهات البنيوية التي لحقت بنا كبشر جراء هذه الحالة المركبة والمربكة بالغة التعقيد التي تجمع كل الاطراف انها غير مسبوقة في أي مرحلة حتى في السنوات التي واكبت النكبة التي تحل ذكراها 68 هذه الايام ، والنتيجة الطبيعية قد تكون توالي مسلسل خيبات الامل الذي يولد الاحساس بالاحباط وهو ما يقود لفقدان السيطرة وازدياد تصدع البنى القائمة والهياكل الهشة الفاقدة للحاضنة الشعبية مما سيؤدي الى احدى احتمالين وفق هذا المعطى .
الاول يتمثل في سقوط او اسقاط لمعظم القائم بفعل فشل البرامج المرفوعة والادوات التي لم تعد قادرة على العمل بطريقة تجذب الجمهور ، والتاني في محاولة لمنع الانهيار وللابقاء على بعض المكتسبات يتمثل بقبول خيارات او تسويات او اوهام كانت مرفوضة سابقا وتمثل خطوطا حمراء بل ومثلت حتى وقت قريب عقدا سياسيا مبرما بين المعظم وقاعدة للعمل المشترك تقوم على التمسك بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني .
وفي كلا الاحتمالين الامور مرشحة للتدهور او هكذا يراد لها ، حالة يستمر التاكل والتصدع وفقدان الشرعية الشعبية للجميع وفي المقدمة لمنظمة التحرير التي مثلت وما زالت اطارا جبهويا واسعا بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني في كل اماكن تواجده ، صورة تصبح القدرة على العمل في اوساط وقطاعات معينة متعثرة وصعبة المنال بل وربما تقتصرعلى مجموعات " ذات مصالح " تلي مرحلة يتم فيها الانتهاء من ضرب روح العمل ، بل وتعزيز ثقافات تسخر من جدوى العمل الوطني وتعمل على بث الاحباط وتعميق العزلة بين مختلف الاطراف باعتبار الانشطة والعمل الوطني " نخبوي" وغير مجدى ومثال ذلك ما حدث من تجمع ضعيف بمناسبة يوم الارض ، ويوم الاسير ، وتصبح الحركة الوطنية بمجموعها حركة معزولة عن الجمهور ، فاقدة لقوة العمل وكادرها الاساسي لا يشعر بالرضا ولا يمارس قناعاته على ارض الواقع ، هذه التداعيات يعمل عليها منذ ما يزيد عن العقدين واكثر ضمن محاولات ترويض وتطويع وتخريب الحركة الوطنية ، احداث اختلالات عميقة في البنى الاجتماعية والطبقية ومراكز النفوذ في المجتمع الفلسطيني تمهيدا للحظة تصل في نهاية المطاف لبداية هذه السطور الوصول لوضع يصبح من السهل تمرير أي حل مهما كان مطلبا لانقاذ السقوط في الهاوية وافضل من الحجيم المنتظر !!! الحل المراد هو سلطة قائمة فوق شعبها وليست لشعبها ، فاقدة للدور ، تنازع سكرات الموت وليست متوفاة ، مكبلة في مشفى الدول المانحة لتمدها احيانا بالفتات كي تبقى على قيد الحياة فقط وحتى لو افاقت فانها ستبقى عاجزة عن الوقوف والمضي - أي سلطة بدون سلطة - لا تتحول لدولة ويملك الطرف الاسرائيلي تلابيب قرار البقاء او الانتهاء منها متى يشاء .
الوضع على الارض يكاد يكون انتهي من جانب واحد ، استيطان ينهش الارض ، القدس ابعدت عن أي مفاوضات لو استؤنفت حتى ، الحدود والموارد والمياه بت الامر فيها ، واللاجئين وحق العودة كما هو معلوم يجري " مسح " المخيمات كما يحدث في سوريا ولبنان لتفريغها من سكانها ضمن حلقات مخطط التوطين المتواصلة ، وبالاجمال الوضع السياسي بكليته موائم لاسرائيل دولة الاحتلال التي ليست في وضع تقديم أي شيء بانتظار الزمن ، حتى المبادرة الفرنسية التي رفضتها تدرك انها ليست مبادرة مكتملة العناصر وانما افكارا لاعادة عملية التسوية وفق صيغة لم ترتقي لمستوى المؤتمر الدولي لكن اسرائيل رغم ذلك قدمت اثباتا جديدا انها غير معنية وغير مستعدة للعودة لطاولة المفاوضات ، الاسس والركائز تغيرت باتت اكثر وضوحا بان اسرائيل لم تكن مستعدة في أي مرحلة من المراحل السابقة من الوصول " للسلام " كانت عملية السلام لكسب الوقت فقط ولاطباق سيطرتها على الارض خصوصا في الضفة بما فيها القدس ، وتنفيذ عزل وفصل غزة عن باقي التواصل الجغرافي لمنع وحدة الاراضي الفلسطينية الجغرافية والسياسية .
كل هذا التشخيص قد لا تجد من يختلف عليه خصوصا ان اسرائيل ليست في وضع تعطي شيء وفق تركيبة حكومة اليمين التي تكرر مواقفها انها لن تقدم " تنازلات " فاسرائيل المرتاحة لما يجري في الاقليم من تحولات ليست في مأزق ولا تعيش عقدة الذنب ، ولا تذرف الدموع على فشل عملية السلام التي افشلتها بسياستها التوسعية بل على العكس هي تسعى علنا لضم الضفة الغربية عبر فرض القانون الاسرائيلي على المستوطنات في تحدي لارادة كل المجتمع الدولي والامم المتحدة وقراراتها ، والادارة الامريكية ليست ولم تكن في وضع الضغط على اسرائيل لانشغالها في الانتخابات ، وهي فترة حرجة اجمالا يسعى الحزبين الديمقراطي والجمهوري لارضاء اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة وعدم الزج باي نوع من الخلاف مع الاوساط المقربة من اسرائيل ، ولان أي من الادارات السابقة لم تكن لتمارس ضغطا جديا على اسرائيل وهي تعهدت جميعها بالحفاظ على امنها والدفاع عنها بكل الاحوال ،
موقف الاطراف الدولية الاخرى الاتحاد الاوروبي وغيره اجمالا حافظ على صيغة ايجابية ليست ذات تاثير مباشر فيما يجري بالمعنى الملموس على صعيد المواقف ولا تتعدى المجاملة الدبلوماسية كما فعل وزير خارجية بلجيكا في زيارته الاخيرة قبل ايام عندما اكد على حث الطرفين للعودة لطاولة المفاوضات معتبرا الاستيطان عقبة امام السلام وهو موقف ينطبق على تصريحات معظم المسؤولين الدوليين ، واخرها محاولات ايجاد صيغة " متشدة " لبيان اللجنة الرباعية لكن الجميع ايضا لا يعمل على تبني قرارات تمنع وتوقف انهيار " حل الدوليتين " الاخذ بالتلاشي بفعل القضم الاسرائيلي للضفة الغربية ، والاعلانات شبه اليومية لعطاءات بناء الوحدات الاستيطانية ، والقرار الاخير ببناء مستوطنة جديدة بين نابلس ورام الله لقطع التواصل الجغرافي بينهما ، من مدلولات ذلك اذا ما زلنا نتحدث عن ارهاصات الوضع الدولي وكأن الاستدلال في تسارع ادراك العالم لتلك السياسات الاسرائيلية يفضي الى نتيجة مفادها استحالة التواصل لجسر المسافات بتحقيق الحلم والوصول للسلام المنشود ، وهو ايضا لا يريد في ذات الوقت انهيار الامور وعودة خلط الاوراق وفقدان السيطرة التي من شانها ايضا ان تعيد الامور للصدام الدامي المفتوح بشكل غير محسوب العواقب لتبقى من وجهة نظر المجتمع الدولي في الحل (المعجزة) المتوفر هو بالابقاء على سلطة هشة بموارد مالية معقولة للعيش وتحسين بعض فرص الحياة بشكل طفيف ونسبي ، وابقاء الرئة التي تتنفس منها السلطة هي بالبقاء على علاقة مع اسرائيل وعلى امل ان تقتنع بالعودة للمفاوضات ولكن على ماذا ؟؟؟
هذا يلقي ببعض الضوء على عناصر التحليل السابقة محليا لصورة قاتمة مهشمة بل وكارثية لوضع ملتبس غير مفهوم احيانا وبدون تحديد اجندة وطنية للعمل ولا اتجاهات خط سير في اي اتجاه كان ، دون ان ننسى الهبة الشعبية منذ تشرين اول الماضي المتواصلة والتي اذا ما احسن استثمارها فان بامكانها ان تحدث تغيرا ما في معادلة " معوجة " تسير الامور فيها بالمقلوب في علاقة غير متوازنة تقوم على منطق موازيين القوى تتحكم فيها علاقة الطرف الاقوى اسرائيل دولة الاحتلال ، كل هذا النقاش يجري في معظم الاماكن والمجالس واللقاءات وعلى مستويات مختلفة وينصب حول كيفية الخروج من عنق الزجاجة ؟؟ ومن يملك تقديم اجابات واضحة ؟؟ للاسئلة الصعبة ؟؟ اجابات متوافق عليها وتتسم بالوضوح والمكاشفة ؟؟ وتعيد الثقة بالقائم وتعيد في نفس الوقت الروح للموت السريري للنظام السياسي ، في ظل انقسام سياسي افقي وعمودي يضرب عمق البلد ، ويصيب نخاعها ، وتتذبذب لدرجة فقدان انتظام دقات عمل قلبها المثخن ، المصالحة تتعثر من جديد ولا وضوح بامكانية الوصول لصيغة تنفيذ لاتفاقات القاهرة او اعلان الشاطيء او غيرها من تفاهمات .
ولكن وبالرغم من ذلك كله ما زالت الاحصنة تنتظر المعركة وبامكان الشعب الفلسطيني ان يعمل الكثير ولو بعد حين فهذه الارض ( ولاّدة ) ولم تكن عاقرا فقد ظن البعض ان التيه ومرحلة ضياع الارض العام 48 ستؤدي لتحويلنا لهنود حمر جدد في التاريخ المعاصر لكن النتيجة المعاكسة للتوقعات ان جرى انبعاث الشعب الفلسطيني رغم النكبة واعاد كينونته السياسية وهويته الوطنية كأي شعب له ثقافته وجذوره وعمق اتصاله غير المنقطع بالارض التي لم يبرحها يوما منذ الازل وسيبقى ملتصقا بها حتى الابد ، مارس نظام حياته الخاص به وطور وجوده الانساني والحضري فيها على مر العصور وحتى الان ، تجرع مرارة النكبة لكنه ورّث التمسك بالحق لاجياله جيلا بعد جيل وبقي يمسك بالحلم والحق .
اليوم هنا على اعتاب مرحلة جديدة من المخاض الصعب التي نعيش في ظل تحولات وتحديات لم تكن بهذا الحجم من قبل على مدى التاريخ المعاصر على الاقل نحتاج لمراجعة لاشتقاق استراتجية جديدة مغايرة ، وبرأيي نملك المقومات اذا اردنا ، وتكمن لدينا قوة دفع اضافية للعمل ، قرارات اللجنة التنفيذية ل م . ت . ف في اذار من العام الماضي 2015 موضع التطبيق هي محطة مهمة ينبغي عدم افشالها او اسقاط الرهان عليها او تفريغها من محتواها هذه المرة ، والعودة للاعتماد على الذات أي اعادة بناء م .ت . ف كجبهة وطنية بشراكة سياسية وميدانية ، هذه عناصر وخطوط الاستراتيجية العامة ، والتي من الاليات لها ايضا التوافق على اجراء الانتخابات في الضفة الغربية والقطاع ، وايضا اعادة تعريف السلطة ووظيفتها ودورها واطلاق الخطط للعمل في المناطق المصنفة "ج" ، والذهاب دوليا لصيغة مفادها انه ليس مقبولا استمرارالعلاقة مع اسرائيل المحتلة على اساس التفاوض والاحتلال في ان واحد معا فاما السلام واما الاستيطان – صيغة الجمع بين البناء في المستوطنات والتسوية - تقوض فرص السلام ومن يحاول فرض الحل من جانب واحد لا يسعى للسلام بل يدمر فرص السلام ،
العالم اعترف بدولة فلسطين على كامل حدود 1967 ولتكن العلاقة الجديدة والتوجه للعالم للاعتراف بحقوق شعبنا حتى ينجز تحرره الوطني المقرة وفق القرارات الدولية هي المدخل وليست أي صيغ جزئية او مؤقتة اذا اراد العالم صون وحماية حل الدولتين او العودة لنقطة الصفر في صراع مفتوح يعود للبدايات الاولى ربما يكون مكلفا للجميع ولكن يشهد العالم باسره ان شعبنا قدم الكثير دون الحصول على شي من حقوقه ، تنازلات مؤلمة لم يعد اي شخص او جهة مهما كانت تقديم أي شيء ، ولا احد يملك ان يقف امام جيل كامل ليقدم تنازلا ، المخاض المؤلم دائما ربما تصدح صرخاته ولادته لتملأ الكون الرحب بالامل بعد انقشاع الضباب واتضاح المسلك ، لان الطريق المتعثر اليوم يقود لاحدى احتمالين - اما حل منصف وعادل تصونه الاجيال ويعبر عنها وهو يكاد انتهى ، واما انهيار المسلك كله والعودة لاستكمال حلقات الصراع التي لم تتوقف وايضا الاجيال تتحمل اعباء الدفاع عن وجودها ومستقبلها في جدلية العلاقة التي لا تنتهي بين الفلسطيني والارض التي ينزرع فيها على مر العصور .