الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

النكبة والانقسام... غصاتٌ في القلب وجرح نازف

نشر بتاريخ: 15/05/2016 ( آخر تحديث: 15/05/2016 الساعة: 11:53 )

الكاتب: هبة الوعري

تلُوكنا السنين ألماً بأيامها ولياليها العجاف وتتحشرج الغصات في قلوبنا مع بداية كل يوم يشرق ونحن لا نزال تحت وطأة الانقسام المستفحل وتحت نكبة تلو نكبة...

لازلت أحلم بأن أعود إلى مسقط رأسي في القدس العتيقة وأجري في أزقة شوارعها كطفلة صغيرة تبحث عن وطن ضائع كم أتوق إلى الصلاة في مسجدها المبارك وأشترى من كعكها المقدسي المغطى بالسمسم وزعترها طيب المذاق، كم أتمنى أن أقف أمام باب العامود أحد أبوابها العتيقة وأمشي في سوقها، وأرتشف قهوتها العربية الأصيلة وأشم هوائها النقي!.

نكبتنا نكبتين، النكبة الفلسطينية عام 1948م والتي تعتبر أقسى النكبات وأشد الفجائع التي مر بها شعبنا والتي تصادف اليوم ذكراها الأليمة 68 عاماً من والتهجير والتشرد من الوطن وسرقة التاريخ وتزويره وطرد 800 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والمدن المجاورة، فلم يحملوا أي شيء معهم من أمتعتهم عندما رحلوا وبقوا على أمل الرجوع يوماً ما فقط حملوا معهم مفاتيح منازلهم لتبقى ذكرى خالدة مهما طال الغياب، لكنهم لم يزوروا بعد بحر عكا ولم يأكلوا من برتقال يافا وليمونها ولا من خبز حيفا وحتى حقول سنابل القمح أُحرقت من قبل جنود الاحتلال...

أما النكبة الثانية فهي نكبة الانقسام الفلسطيني الفلسطيني الذي يعتبر بحد ذاته نكبة حقيقية والذي ستحل ذكراه التاسعة في يونيو/ حزيران المقبل حيث تعثرت خلال السنوات الماضية كل الجهود الداخلية والخارجية لإنهائه والذي يطعننا كخنجر في القلب حتى يومنا هذا ويكاد أن يُنسي البعض ويعمي عيون مجتمعنا عن محور قضيتنا الفلسطينية، وسنبقى على أمل بأن تنجح سلسة اللقاءات الحالية بين الفصائل في رأب الصدع والشرخ الفلسطيني الداخلي والتي تنعش آمال الفلسطينيين بمصالحة حقيقية وحتى لا تبقى نكبتنا نكبتين ونظل نحيا على كابوس يطاردنا للأبد.

فنكبات شعبنا تتوالى منذ 1948م وحتى يومنا هذا فكل نكبة عاشها شعبنا كانت تزيد من مآسيه وآلامه؛ نكبة الاحتلال، نكبة الانقسام، نكبة حروب غزة وتهجير سكانها وحصارها، نكبة الكهرباء، نكبة البطالة، نكبة الفقر المدقع، نكبة اغلاق معبر رفح، نكبة أقصانا الذي ينزف وقدسنا التي تغتصب كل يوم، نكبة احتلال الضفة والاستيطان، نكبة اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك بسوريا ونكبة مجازر الاحتلال على مر العصور بحق شعبنا.

ألم تكفي كل هذه النكبات لكي تجتمع فصائلنا على طاولة واحدة وشعار واحد وعلم واحد للاستشراف بمستقبل أفضل!

كنت جالسة مع أسرتي في ذلك المساء وبين مشاغبات أطفالي وصوت التلفاز العالي وأنا أقلب بين القنوات شدني تقرير تلفزيوني يحكي عن ذكرى النكبة الأليمة على أهالي مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين الذي هجروا مرتين خلال سنوات عمرهم، فمن بين أزقة مخيم اليرموك كان يجلس عجوز سبعيني فوق ركام منزله المدمر ويقص للصحافي حكايته عبر تهجيره من منزله مرتين فمسقط رأسه مدينة يافا المحتلة، كما رأيت في يده مفتاح منزله فما زال يحتفظ به قائلاً "إحنا بنطلعش من بيوتنا غير عالقدس وغزة، وبراميلكم بتخوفناش طول ما إحنا حاملين غصن الزيتون الأخضر، بدنا نروح نقطف زيتوناتنا من أراضينا المحتلة، بدنا نروح عبلادنا ونموت فيها، وراح أضل أحمل مفتاح بيتي لغاية ما أرجع عبلادي" حرقة قلبه كانت واضحة في صوته المخنوق فهو هجّر من فلسطين إلى سوريا نكبة فلسطين عام 48 والآن نكبة مخيم اليرموك نزوح يتبعه نزوح، فتجاعيد ذلك العجوز الواضحة التي تعتري وجهه كانت تحكي قصة شعب كافح وناضل، فذكريات نكبة 48 كانت تحضره مرة أخرى وبشدة وهو يشير بسبابته على منزله المدمر خلفه، ويمسك بيده مفتاح بيته الذي هجر منه قسراً.

سيبقى حلم هذا العجوز في العودة أشبه بالخيال ولكن من يدري ربما يكون ليس صعب المنال فكل شيء بإرادة الله تعالى وتوفيقه.

بقدر الفرحة الكبيرة التي غمرتني عندما اشتريت أنا وشقيقتي كتاب (كي لا ننسى) منذ صغرنا بقدر ما شعرت بعدها بغصة في قلبي وألم لم ينتهي حتى الآن وذلك حسرة على مدن وقرى فلسطين الجميلة التي ينعم بها الآن الاحتلال الاسرائيلي وبكل أسف، فكلما تصفحت هذا الكتاب وقلّبت أوراقه بين الحين والأخرى كان يمتطيني شوق الرجوع والحنين إلى مسقط رأسي مدينة القدس الحبيبة.

موسوعة (كي لا ننسى) تعرض وصف لقرى فلسطين التي دمرتها اسرائيل سنة 1948م وهجرت أهاليها ومحت معالمها وأقامت عليها مستوطنات بأسماء عبرية مستحدثة حلّت محل أسمائها التاريخية الأصلية، كما تعرض الموسوعة أسماء الشهداء وهي من تأليف وليد الخالدي وصدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأذكر كلما كنت أتصفح هذه الموسوعة القيّمة أعيد قراءة الإهداء الموجود في بداية الكتاب في كل مرة كونه يشدني دوماً لقراءاته وكان يستدعيني أن أنزله منشور على صفحتي الخاصة على الفيس بوك مع بعض من الخرائط وشرح عن المدن المدمرة وكلمات الاهداء هي (إلى الذين شُرِّدوا من قراهم.. فهاموا في الأرض, إلى ذُرياتهم جميعاً .. كي لا ينسوا) فهو كتاب يسلط الضوء على القرى الفلسطينية الضائعة عبر صفحاته لإبقاء ذكرى أكثر من 400 قرية حية بذهننا جميعاً كما أنه يعرض خرائط وصور فوتوغرافية وإحصاءات وروايات شخصية لدمار 418 قرية فلسطينية.

لفت انتباهي خلال مشاركتي في وقفة جماهيرية لإنهاء الانقسام الداخلي أقيمت في غزة منذ شهر وتدعو لوحدة كافة الفصائل والتي نظمها التجمع الوطني لانهاء الانقسام أن جميع المشاركين فيها حملوا العلم الفلسطيني فقط رغم تواجد كافة الفصائل وهو مشهد يعكس رغبة كل الفلسطينيين بانهاء الانقسام أكثر من أي وقت مضى، فويلات شعبنا التي مر بها أوصلته إلى مرحلة الاختناق والتحرك معلناً اكتفاءه بالقهر والدموع التي انحبست طويلاً في المقل.

وهنا كتب بعض الكلمات الخارجة من القلب في هذه ذكرى النكبة الأليمة:

ثمانية وستون عاما على النكبة..

ثمانية وستون عاما على التشرد والتهجير..

ثمانية وستون عاما ولازالت آلام الفلسطينيين تتلاطم..

ثمانية وستون عاما ولازال اللاجئون في مخيمات الشتات يتذوقون مرارة العيش داخل الخيام..

ثمانية وستون عاما ومازالت الجراح تقطر دماً..

ثمانية وستون عاما ونحن نتساءل هل طويت صفحة حق العودة وباتت حبر على ورق وطويت معها المذابح والمجازر..

ثمانية وستون عاما ولازال العالم يصم آذانه ويعمي عيونه أمام وجع الفلسطينيين..

ثمانية وستون عاما أصبحت بعدها غزة عاصمة والضفة عاصمة والقدس الجريحة تصرخ وتئن ولا من مجيب..

ثمانية وستون عاما ولازالنا نقول ابن فتح وابن حماس، ابن غزة وابن الضفة، مواطن ولاجئ...

إلى متي.. إلى متى.. إلى متى؟

في النهاية أختم مقالي: عائدون إلى القدس ويافا وحيفا وطبريا والنقب والرملة، عائدون إلى صفد وبيسان وبئر السبع وعكا ونابلس والمجدل، عائدون إلى المثلث والجليل ورام الله واسدود وام الفحم وتل الربيع والناصرة والخضيرة وصفد، عائدون عائدون بإذن الله