نشر بتاريخ: 24/05/2016 ( آخر تحديث: 24/05/2016 الساعة: 11:39 )
الكاتب: د. "محمد علي" العلمي
الثروة شئ والنقود شئ آخر, وقلة منا يميز بدقة الفرق بينهما. نقول أن رجلا ذو ثروة ومال إن كان يقتني قطع من الأراضي أو العقارات أو الماشية أوغير ذلك. ومنذ قديم الزمان أدرك الإنسان أنه لا يعيش وحيدا وأنه لا بد من مقايضة جزء من مقتنياته مع الآخرين. ولتيسير ذلك لا بد من إيجاد آلية ذات معايير محددة وصفات مقبولة لدى أطراف المقايضة. وهكذا أقدمت المجتمعات البشرية ومنذ الآف السنين على استحداث واستخدام ما يعرف بالنقود والعملات والتي وجب أن تتسم بصفات محددة. ومن أهم هذه الصفات أن تكون النقود خفيفة الحمل (لاستعمالها في الأسواق), وموحدة في الشكل والنوع (بحيث تكون كل قطعة مماثلة لأي قطعة أخرى لذات القيمة), وأن تكون قابلة للتجزئة بقطع أصغر قيمة, وغير قابلة للإهتراء, ويستحسن أيضا أن يكون لها قيمة في ذاتها, والأهم من كل ذلك أن تتوفر بكميات مناسبة, ليست كثيرة ولا قليلة, بل تتلائم ومجموع أحجام التبادل والمقايضة التي تتم في المجتمع.
كانت النقود وما زالت إحدى الروابط الأساسية للتبادل بين أفراد المجتمع. وعليه أصبح استحداثها وضبطها من مسؤولية الهيئة الحاكمة التي لديها سلطة على المتقايضين. ولدى نجاح هذه السلطة في تحقيق الغاية المرجوة تصبح النقود المستقرة القيمة في ذهن مستعمليها جزءا من الثروة والمال, ويصعب حينئذ التمييز بينهما. أما في حالة الفشل فإن ثقة المتقايضين بالنقود المستعملة تتلاشى, الأمر الذي يؤدي الى خلل ينتهي بالتوقف عن استعمالها والاستعاضة عنها بنقود يثق بها. ويؤدي هذا الفشل أحيانا وكما ورد في كتب التاريخ الى انهيار مالي واقتصادي واضطرابات اجتماعية وخيمة العواقب.
تعددت أنواع النقود في المجتمعات المختلفة في الماضي والحاضر. فمثلا كانوا في المجتمعات البدائية يستعملون الملح أو الأحجار الملونة للمقايضة. وفي بريطانيا في القرون الوسطى تم استعمال أعواد من الخشب كانت تقسم الى جزئين متكاملين ومحفورتي الجوانب (عرفت بإسم tally sticks ). ومنذ أكثر من ألفين وخمسماية عام أصبح الذهب والفضة ومعادن أخرى أكثر استعمالا. ومما لا شك فيه أن الناس في جميع المجتمعات والعصور أولت قيمة عالية للذهب والفضة. وعليه نرى أن غالبية النقود التي ظهرت خلال القرون الثلاثين الماضية كانت تعتمد في الأساس على هذين المعدنين. فوفق المؤرخ هيرودتس فإن مملكة ليديا (التي سادت في غرب الاناضول في تركيا ) كانت من أوائل من ضرب النقود المعدنية من ذهب وفضة وغيرها وذلك في القرن السابع قبل الميلاد. أما الرومان فقد استحدثوا العملة المعدنية الخاصة بهم والمؤلفة من عدة قطع كل منها من معدن مختلف. ومنها قطعة الفضة الملقبة "بديناريوس" (ومنها اتت الكلمة دينار) والتي ضربت في سنة 211 قبل الميلاد. واشتقت كلمة "ديناريوس" من كلمة "ديني" وتعني "عشرة", إشارة الى عدد قطع "الأسيس" (من معدن البرونز أو النحاس) والتي كان من المفروض أن تعادلها قيمة. أما في الدول الإسلامية الماضية فقد استعمل ثلاث أنواع من القطع المعدنية, الأول سمي "الدينار" وغالبا ما كان من الذهب النقي, والثاني قطعة من الفضة سميت "بالدرهم" وثالثا قطع من خليط من المعادن الأخرى مثل البرونز والنحاس والرصاص أعطيت أسماء مختلفة, مثل النقرة أو السحاتيت أو المقطعات أو البارة أو القرش أو الفلس.
كان أول ظهور للنقود الورقية في مملكة الصين قبل نحو ألف عام. ولكن تجربتهم لم تدم طويلا. أما في أوروبا في العصور الحديثة فقد ظهر الورق النقدي في بريطانيا والذي كان عبارة عن تعهد من قبل من أصدرها بأن يبادلها فور إبرازها بقطع معروفة الوزن من الفضة أو الذهب. وهكذا كان الأمر بالنسبة للدولار الأمريكي حيث حدد دستورها بأن الذهب والفضة هما أساس العملات الرسمية للدولة. وعليه فإن الأساس في العملات الورقية هو مبني على أن ورقة النقد ما هي إلا تعهدا لاستبدالها بأوزان محددة من الذهب أو الفضة. وهذا الأمر يغيب عن ذهن معظم من يتداول هذه الأوراق. وفي العقود القليلة الماضية ظهر نوع آخر من النقود يمكن وصفه بالعملة الرقمية. وهذا عبارة عن تسجيل أرقاما على جهاز الحاسوب لصالح من يسجل له أوراقا نقدية. وهذا النوع من النقود هو الأكثر شيوعا اليوم من ناحية الحجم والقيمة ويستعمل في البنوك والمؤسسات المالية الرسمية. والأساس في النقود الرقمية هو أيضا التعهد من قبل البنك بدفع أوراق نقدية في حالة طلبها من قبل من سجل له أرقاما على الحاسوب.
فشلت جميع أنواع النقود المعدنية في الماضي, بدلالة أنها لم تدم طويلا. كما أنه بالإمكان القول أن العملات الورقية والرقمية القائمة اليوم تعاني من خلل واضح قد يؤدي الى فقدان الثقة بها. وللدلالة على ذلك نشير الى تذبذب وانخفاض القيمة الشرائية لكل منها والى "حرب العملات" العالمية التي تجري طورا في الخفاء وطورا في العلن. وننبه هنا الى القول بأن السلع عادة لا تتغير في طبيعتها وإنما قيمة ما يعادلها من النقود هي التي تتغير. بمعنى آخر فإن الغلاء في أسعار السلع المتوفرة غالبا ما يكون نتيجة انخفاض قيمة النقود التي يتم التقايض بها.
لنا أن نسأل عن ما إذا كان الخلل المؤدي الى انخفاض قيمة النقود قد أتى نتيجة عدم تطبيق المعايير المشروحة أعلاه والمطلوبة لأجل المحافظة على الثقة بها. وللجواب على ذلك نستذكر أنه وفي الماضي كانت ثقة الناس بقيمة معدني الذهب والفضة أكبر بكثير من ثقتهم بالمعادن الأخرى وبغض النطر عن أسباب ذلك. وعليه فإن قيمة أي عملة من غير هاذين المعدنين سواء كانت معدنية أو ورقية أو رقمية مرهونة بما يعادلها من ذهب وفضة, خاصة وأن هذين المعدنين نادرين نسبيا وغير متوفران بكميات كبيرة في الطبيعة. والسؤال هنا لماذا كانت تقدم الهيئات الحاكمة على مر العصور على تغيير المعادلة فيما بين الذهب والفضة من ناحية والنقود من ناحية إخرى, وبالتالي إحداث حالة عدم الثقة لدى المتقايضين من الناس. والجواب في أغلب الحالات يكمن في أن السلطة الحاكمة كانت دوما تحتاج الى الصرف على مستخدميها من موظفين وعسكريين وأيضا الصرف على حروبها المتواصلة مع الآخرين. وفي الحالات التي لم يكن بإمكان هذه الحكومات من جمع ما يكفي من الضرائب إو الاستمرار في الاستدانة كانت تلجأ الى "التلاعب " بالعملة من خلال تخفيضها وبالتالي تحميل عبء ذلك على جميع من كان يقتنيها أو يستخدمها. وفيما يلي أمثلة على ذلك.
لجأ حكام روما المتعاقبون الى تخفيض ما تحويه عملة الديناريوس من معدن الفضة والاستعاضة عنها بمعادن أخرى. إذ كانت كل قطعة تحوي 54 غم في عام 211 قبل الميلاد لتصبح تحوي غراما واحدا فقط من الفضة في نهاية القرن الثالث بعد الميلاد. كما قام هؤلاء بتصغير حجم القطعة الذهبية لعملتهم بشكل كبير. وهذا ما لجأ اليه في بلادنا سلاطين المماليك البرجية (1382-1517 م) كلما احتاجوا دفع رواتب عسكرهم أو الصرف على حروبهم. فمثلا كان كل دينار من الذهب لديهم يقل حجما وقيمة عن سابقه. فدينار الذهب في عهد السلطان جقمق كان يعادل 36 درهما فضيا عثمانيا, ودنانير الذهب في عهد السلطان قايتباي والسلطان طومان باي, كان يعادل 28 درهما فضيا عثمانيا. وقد أحصينا ما لا يقل عن 15 عملية تخفيض لقيمة العملات المعدنية من غير الذهب والفضة لدى السلاطين البرجية, حتى اصبحت أحيانا تقيم بالوزن وليس بالعدد. ويستثنى مما ورد الدينار الذهبي الذي ضربه الأشرف برسباي والذي كان مرتفع الوزن مما جعل ثقة الناس به عالية. وجدير ذكره أنه تحصل لهذا السلطان كميات كبيرة من الذهب نتيجة فتحه جزيرة قبرص في 1426 م. أما في الفترة العثمانية فقد بدأ عهد سليمان القانوني (المتوفى في 1566 م) بزيادة وزن معدن الذهب في القطع السلطانية الى ما يعادل أربعون درهما فضيا. كما تم تحديد قيمة القطع المعدنية من غير الذهب والفضة. بيد أن ذلك لم يدم طويلا. إذ سرعان ما تدنت قيمة العملة خاصة تلك التي لا تحوي ذهبا أو فضة. ومثال على ذلك التخفيضات التي حصلت في عهود السلاطين مراد الرابع (المتوفى في 1640 م), وابراهيم (1648 م), ومحمد الرابع (1687 م) ومصطفى الثاني (1703 م). وجدير ذكره أن ضبط قيمة العملة وتنفيذ الأوامر السلطانية بشأنها كان من مسؤولية محتسب المدينة. وهناك أمثلة عديدة تظهر كيف أن المحتسب في القدس كان يقدم المخالفين للقضاء.
ما حصل للنقود المعدنية حصل أيضا للنقود الورقية. وكما ذكرنا فإن الأصل في الأوراق النقدية هو أنها تعهد بتبديلها لدى إبرازها بوزن محدد من الفضة أو الذهب. وهكذا كان الأمر للعديد من العملات المحلية والعالمية. فمثلا كان سعر المقايضة ما بين الذهب والعملات في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي تقريبا على النحو التالي: الجنيه الاسترليني 7,54 غم, الدولار الامريكي 1,56 غم, الفرنك الفرنساوي 0,29 غم, المارك الالماني 0,37 غم. ولكن وفي عام 1931 تم فك الارتباط ما بين الاسترليني والذهب وكذلك حصل الأمر للدولار الامريكي في عام 1971. ولم يعد أي عملة ورقية في العالم قابلة للاستبدال بالذهب, إنما بقي التعهد بإن تقبل هذه الأوراق لدفع الضرائب. ونتيجة كثرة طباعة العملات الورقية نذكر مثلا أن أونصة الذهب في عام 1913 كانت تساوي نحو 20 دولارا أمريكيا بينما اليوم تساوي نحو 1250 دولار, أي أن هذه العملة الورقية قد خسرت نحو 98,4 % من قيمتها الذهبية.
فهل يكمن الحل في الرجوع الى ربط العملة بالذهب أو الفضة؟ أم أن الحل يكمن أيضاً في موازنة مدخولات الدولة مع مصروفاتها وضبط ما تستدينه, وعدم اللجوء الى كثرة طباعة النقود الورقية, والتقليل من الصرف على الحروب التي لا تنتهي. فكثرة الطباعة لا تؤدي الى زيادة الثروة, بل الى سلب المال خاصة من ذوي الدخل الثابت. ولنا مثلا في ذلك حين طبعت زيمبابوي حديثا ورقة نقدية بقيمة ماية ترليون دولار زيمبابوي, مكنت حاملها من أن يشتري قطعة واحدة من السكاكر فقط. وأصبح معظم أفراد الشعب مليوناريات من ورق. فليس كل ما يلمع أو يطبع ذهبا.