نشر بتاريخ: 26/05/2016 ( آخر تحديث: 26/05/2016 الساعة: 17:13 )
بقلم: بسام الكعبي
تحل السنوية الثامنة والستون للنكبة الكبرى لشعب فلسطين تحت صمت دولي متواصل منذ أيار 1948؛ تنكرٌ فتح الباب على مصراعيه لرصاص جنود الاحتلال لملاحقة المنكوبين في كل بقعة شهدت قسوة اللجوء. منذ النكبة لم يتوقف الرصاص مطلقاً عن حصد الأبرياء، وتتبع بعد أربعين عاماً على اللجوء القسري أحد فتيان مخيم بلاطة شرقي مدينة نابلس شمال الضفة الغربية المحتلة.
في الثامن من كانون أول1986 حَرَمَ رصاص الاحتلال الفتى رمضان أبو زيتون (13 سنة) من الاحتفاء السنوي بيوم ميلاده فجر السادس من تشرين أول، على وقع أول طلقة للجندي العربي في حرب أكتوبر1973؛ ليغيب قسراً عن ملعب المدرسة، وقد كان نجماً بارزاً في كرة طائرة مدرسة بلاطة الإعدادية. غاب الشهيد ذو القامة الطويلة دون أن يعلم عن اندلاع الانتفاضة الأولى مساء التاسع من كانون أول 1987 وقد تفَجرتْ بدم الشهيد حاتم السيسي في مخيم جباليا (غزة) واشتعلتْ بدم الشهداء سهيلة الكعبي (أم أسعد) والشابة سحر الجرمي والفتى علي مساعد في مخيم بلاطة (نابلس) وذلك بعد رحيل رمضان بسنة كاملة؛ وقد خَطفَتْ نجمين من صفوف فريق الطائرة المدرسية حسين أبو حمدان وعلي مساعد، ودون أن يعلم أيضاً بأسرار ثلاثين عاماً تراكمت ثقلا وتعباً خلف رحيله. ثلاثون عاماً من لجوء قسري ومركب عصفت بأفراد عائلته البسيطة، ودفعت بوالدته إلى رحيل مبكر، ووالده إلى موت خاطف بطلقة ضلت طريقها أثناء اشتباكات داخلية مسلحة تنفجر أحياناً، للأسف، بين ضحايا محاصرين بالنكبة واللجوء والفقر والاستغلال؟!
لعنة الحاجز العسكري
تستعيُد ذاكرتي بصعوبة، في هذه اللحظة، وقائع زيارتي لعائلة الشهيد أبو زيتون في يوم ربيعي عام 1990 بعد ألف يوم على استشهاد الفتى، يسعفها قليلا نص سردي خطف كتاب (شهادات فلسطينية) أصدرته بمشاركة الصديق الروائي والشاعر عيسى بشارة. تناولت الشهادات وقائع غياب كوكبة من شهداء جبل النار، ووثق رواية استشهاد الفتى أبو زيتون: على مدخل بيت متواضع كانت والدة الشهيد المريضة تتكئ على ساعد زوجها. أسندت ظهرها إلى مقعد خشبي، ثم أطلقت دموعاً تروي حكاية استشهاد صغيرها: "يوم استشهاده، كنتُ على موعد للقاء المحامي عمر بيادسة في جنين من أجل توكيله للدفاع عن ابني بلال المعتقل في سجن جنين. أصر رمضان على مرافقتي إلى جنين. اصطدمنا بحاجز عسكري أجبر الحافلة على العودة إلى نابلس، ولدى دخول المخيم انطلقت مسيرة الشهيد ماجد أبو ذراع، في اليوم الثالث لرحيله وقد كان المخيم تحت حظر عسكري للتجول. ظل بقبضة يدي حتى اقتربت من أم الشهيد ماجد، صافحتها وشددتُ على يدها، فتسرب رمضان من بين أصابعي، وانخرط مع الشبان في المسيرة. لم تمض سوى لحظات قصيرة حتى جاء الخبر على لسان إحدى الجارات: رمضان نقل إلى المشفى مصاباً بطلقات في كتفه. ركضتُ خلفه، وعندما دخلتُ البوابة شاهدتُ إبني البكر نايف يبكي بحرقة شديدة، فأدرك قلبي أن رمضان فارق الحياة. دخلت الغرفة التي يرقد فيها قلبي، قبلته تحت بصر جندي إسرائيلي كان يقف في باب الغرفة، وينتظر التعليمات لخطف الجثمان ونقله إلى معهد التشريح في يافا".
بحزن حاصر طهارة ملامحها تابعتْ روايتها:"علمتُ بعد استشهاده أن رمضان حصل على منشفة وإبريق ماء من بيت حاجة ورعة مسنة. كان يضع المنشفة على أنفه، ويطفئ قنابل الغاز بالماء، ونجح بمهمته على أكمل وجه. أحد الجنود صوب تجاهه واستهدفه بطلقة اخترقت رقبته، وسقط على الشارع الرئيسي في سوق المخيم وسط بركة دم".
استعاد أبو نايف والد الشهيد، اللحظات القاتلة لنبأ رحيل نجله:"وصلتُ أطراف المخيم قادماً من العمل، وسمعتُ إطلاق نار كثيف، وقررتُ التوجه إلى منزل ابنتي خارج المخيم عندما سمعتُ أصوات طلقات نارية. عند المساء حضر أخي وإبن عمي ورافقتهما بصمت إلى البيت. شاهدتُ بكاء مرّا كشف رحيل فلذة كبدي. في الليل وصل جثمان ولدي فأغمي عليّ، ولم أفق إلا على مدخل المقبرة. لم يشارك في مراسم الدفن والتشييع سوى عشرة رجال؛ لأن المنطقة كانت تحت طوق عسكري محكم ويخضع المخيم لحظر تجول مشدد".
قاطرة الأحزان
في الرابع عشر من تموز1993 وبعد ست سنوات ونصف على تغييب رمضان، رحلت والدة الشهيد أم نايف قبل اجتيازها عتبة الستين، وبعد أن اشتدت عليها الأوجاع، وتركت الأولاد والبنات والأحفاد يواجهون قدرهم، وقسوة حياة اللاجئين في مخيم قدم خيرة شبابه.
الشاب نايف (52 سنة) النجل البكر، واصل كفاحه من أجل تأمين حياة لائقة لأفراد عائلته، وقد واظب على عمله في مهنة البناء داخل "الخط الأخضر". أنجب نايف خمس بنات وثلاثة أبناء أكبرهم رمضان الذي حمل إسم عمه الشهيد منذ كان جنيناً في بطن أمه، وأصغرهم لؤي (14 سنة) طالب المدرسة الإعدادية التي يتعلم فيها إلى جانب شقيقه ياسين (16 سنة). تزوج اثنتان من البنات وظل يعيش في البيت ثلاث صبايا يافعات.
شب البكر رمضان نايف (30 سنة) حاملا إسم عمه الشهيد. غادر صفوف المدرسة مبكراً، وعمل في عدد من المهن المختلفة من أجل تغطية تكاليف حياته الزوجية. أنجب بنتاً لا يتجاوز عمرها العامين وأطلق عليها إسم والدته منى، ويواجه صعوبات كثيرة في العثور على دخل شهري منتظم لتسديد التكاليف الباهظة للمعيشة.
مبكراً وقبل رحيل والدته، إلتحق بلال (51 سنة) في العمل بطاقم بلدية نابلس براتب متواضع. تزوج وأنجب ستة أبناء أكبرهم محمد (25 سنة) الذي أصيب في طفولته عام 2004 بطلقات الاحتلال، واستقرت الطلقة في أعلى الفخذ، وسببت له عجزاً في حركة الساق. أعتقل أثناء دراسته الثانوية، وحكم بالسجن الفعلي ثلاث سنوات ونصف، وأطلق سراحه من معتقل مجدو العسكري عام 2014 بعد قضاء محكوميته. متزوج، وأنجب طفلة ويعمل فني ديكور بشكل غير منتظم، ويتلقى راتباً بحدود ألفي شيكل (500 دولار أميركي) من مؤسسة الجرحى لتغطية معيشته.
أعتقل نجله الثاني أحمد (24 سنة) عام 2013 وقضى سنة ونصف في معتقل مجدو. أعزب وبدون عمل، فيما يعمل سفيان (22 سنة) مع والده بلال في مواسم الفواكه والخضار في منطقة الأغوار، بينما يتابع الدراسة حسام (20 سنة) وريم (12 سنة) وإبراهيم (11 سنة).
يوسف (46سنة) يعمل مع شركة البشير للخدمات المتعاقدة مع جامعة النجاح في نابلس براتب لا يتجاوز 2700 شيكل (650 دولار أميركي). تزوج وأنجب أربعة أبناء: وسيم (20 سنة) عامل. شيرين (18 سنة) في البيت. شهد (16 سنة) طالبة مدرسة ونديم (11 سنة) طالب مدرسة، وتعيش أسرة يوسف في منزل والده.
وللشهيد رمضان، آخر العنقود ثلاث شقيقات أكبرهن سميرة (58 سنة) أول العنقود. متزوجة ولديها أربعة أبناء أكبرهم فراس حسني مبارك (29 سنة) الذي قضى خمسة أشهر في معتقل مجدو، تزوج وأنجب إبناً أطلق عليه الطيب. أنهى أبناء سميرة الثلاثة دراستهم ويعملون عمال مياومة، وفي المواسم يفلحون أرضهم الزراعية. تعيش الأسرة في منطقة النصارية شرقي مدينة نابلس في ظروف معيشية متوسطة. إزدهار (56سنة) متزوجة ولديها علي عبد الله مبارك (28 سنة) ويعمل مزارعاً في النصارية (شرق نابلس)، وابنتها عُلا مبارك متزوجة في الأردن. ختام (54 سنة) توفي زوجها منذ سنوات نتيجة حادث بعد انجاب ستة شبان يعملون في وظائف مختلفة، وتعيش الأسرة في مخيم بلاطة.
غياب بطلقة ضالة!
بعد رحيل أم نايف بعدة سنوات تزوج أبو نايف، وأنجب من زوجته الثانية أربعة أبناء: محمود (20 سنة) طالب في جامعة القدس المفتوحة. مصعب (19 سنة) عامل مياومة. معاوية (18 سنة) عامل مياومة. مها (16 سنة) طالبة مدرسة. تمكن أبو نايف وأسرته من شراء منزل متواضع بجوار منزله القديم، لكنه حرص على استمرار عمله في بقالته المتواضعة، لتغطية تكاليف معيشته من وارداتها والراتب المتواضع لنجله الشهيد رمضان، لكن رصاصة ضلت طريقها انتزعته من أحضان عائلته.
في التاسع عشر من تموز 2015 أصيب أبو نايف (85 سنة) بطلقة نارية أثناء وجوده في بقالة يملكها بجوار منزله. فقدت الرصاصة مسارها وأصابته، دون قصد، خلال اشتباك مسلح وقع بين جيران الحارة الواحدة! نُقل سريعاً إلى المشفى في نابلس، لكنه فارق الحياة تاركاً خلفه ثلاثة شبان وفتاة من زوجته الثانية. وضع غيابه القسري أسرته الجديدة في مأزق معيشي بعد توقف راتب نجله الشهيد رمضان، الأمر الذي دعا الأشقاء نايف وبلال ويوسف لمساندة إخوتهم الشبان لمحاصرة ضنك العيش في المخيم؛ بتوفير الحد الأدنى من احتياجات عائلة والدهم المغيّب.
يعيش اليوم في البيت الأول للراحل أبو نايف خمس عائلات من أبناء وأحفاد يتجاوز عددهم ثلاثين نفراً، ويتوزعون على بيت متهالك قديم من طابقين؛ بمساحة إجمالية لا تتجاوز مائتي متر. يشغل الطابق الأول نايف وأولاده وأحفاده، ويستقر في الطابق الثاني بلال ويوسف وأولادهما وأحفادهما..أين أنت الآن يا رمضان؟ هل تعلم بأسرار الانتفاضة الأولى وقد خطفت نجمين من فريقك الطائر؟ هل تعلم حجم الوهن الذي حاصر الحركة الوطنية والصراعات العربية الدامية؟ ربما لم يدقق أحد في يوم ميلادك فجر حرب تشرين على وقع انتصار الجندي العربي وهزيمة أنظمة الاستبداد! هل تدرك محاولات شطب حق عودة اللاجئين على وقع السنوية الثامنة والستين للنكبة؟ كيف تقرأ يوميات الشقاء أيها الفتى الطاهر في مسيرة عائلتك منذ غيابك قبل ثلاثين عاماً؟! مَنْ "النبيل" الذي يمتلك أجوبة على أسئلة تشغل بال اللاجئين في مخيم هش وعنيد: يتماسك بمقاومة الاحتلال، يتشظى تحت أعباء النكبة، ويعجز عن محاسبة "الأمراء" بطبعاتهم المتعددة!
[email protected]