الجمعة: 27/12/2024 بتوقيت القدس الشريف

الإعلام الثقافي:الخبز والتنوير والتحرر

نشر بتاريخ: 29/05/2016 ( آخر تحديث: 29/05/2016 الساعة: 10:53 )

الكاتب: تحسين يقين

التنوير والتحرر، لكن لماذا الخبز؟
لأن الثقافة مؤسسة لأي حراك سياسي وتؤسس له، باتجاه التغيير الملبي لحاجات المواطنين، في تحقيق طموحاتهم، في التنمية والتحرر، بدءا من التنمية الفردية في بقاء الأفراد وتزودهم بالحاجات الضرورية للعيش، والحاجات الثقافية والتربوية التي لا تقل أهمية عنها، حيث يفترض في الثقافة أن تجلب معها نظم حكم العدالة والقانون والإنسانية. ومن خلال المتابعة للحراك السياسي العربي، لاحظنا كيف أن طليعة الشباب والشابات عشرينيين وثلاثينيين، كانوا وكن مثقفين ومثقفات.

لذلك، فإن الأهمية الاستراتيجية، للإعلام بشكل عام، والإعلام الثقافي كإعلام متخصص بشكل خاص، وطنيا وقوميا وإنسانيا، هو أن يساهم ويقود الدور الثقافي الواعي، المؤسس لشعب واع على حقوقه وواجباته، بامتلاك الثقافة التنويرية، والتذوق الفني، والسلوك الراقي والالتزام النبيل، حيث يستطيع أن يسائل المؤسسات على اختلافها، على دورها، في ظل قيامه بواجب المواطنة.

لنعد إلى الإنتاج الثقافي الإعلامي المكتوب، كونه الشكل الأكثر انتشارا، بسبب ترابط الثقافة نفسها بالكتابة والقراءة الفردية، وكونه المرجع الثقافي الذي يسترشد به العاملون في الإعلاميين المسموع والمرئي؛حيث أن الإعلام الثقافي ثقافة، كونه إعلاما متخصصا، مثل أنواع الإعلام الأخرى، كالإعلام التربوي والاقتصادي وغيره. ولعل هذا النوع من الإعلام يحتاج مثقفا محترفا وكاتبا في المقام الأول، متسلح بمهارات إعلامية.فالإعلامي هنا هو الهدف والأداة معا، هو الهدف في تحفيزه في الشكل والمضمون، كذلك في كونه الناقل الواعي للثقافة والفنون، والناقد لها ما تيسر له، من خلال استخدام التفكير النقدي وعدم الاعتماد على الشكل الخبري والتقريري.

لو تتبعنا ظهور الأشكال الأدبية التي ظهرت مع الصحافة، سنجد أن الثقافة كانت عمادها، بل إن المقالة ظهرت حديثا في العالم استجابة للصحافة، ومع تطور جوانب الحياة تطور الإعلام المتخصص، وبالتالي تطورت المقالات المتخصصة، بل إن كثيرا من المحررين الثقافيين إنما قدموا من حقل الثقافة.
ومن خلال استعراض للإعلام الثقافي الفلسطيني (الصفحات الثقافية)، يظهر الباحث تطور الإعلام الثقافي من مجرد الصفحة الأدبية إلى صفحات الثقافة والفنون، حيث أصبح الإعلام الثقافي يهتم ويتابع المسرح والسينما والفن التشكيلي والنحت والموسيقى والغناء والرقص، ولا يقف عند الشكل الأدبي الشعر والقصة والخاطرة كما كان متبعا كلاسيكيا عربيا وفلسطينيا.

إعلام ونقد
ان اختبار المسافة بين الإعلام الثقافي والنقد الأدبي والفني، في سبيل الارتقاء بالثقافة والفنون، وكيفية توظيف الخبرات النقدية في سبيل إنتاج مواد في الإعلام الثقافي تقرأ وطنيا وعربيا وعالميا، يشكل هاجسا لدى الجهات الثقافية الرسمية والشعبية، ولدى الأفراد المبدعين/ات ايضا.فهل هناك إمكانية لذلك؟
إن التغطيات الثقافية والفنية تحتاج إلى ما يتجاوز المهارات الإعلامية، أي يحتاج إلى المعرفة والتذوق والاهتمام الخاص والذاتي في حقول: لأدب، من شعر وقصة ورواية، والمسرح، والسينما، والفنون التشكيلية، والرقص والموسيقى والغناء، كلها أجناس أدبية وفنية، تتطلب الحدّ الأدنى من المعرفة من أجل ضمان إنتاج تغطيات خاصة مرضية، تنسجم مع الثقافة والإبداع، احتراما وتقديرا للثقافة والفنون، وإيمانا بدورهما في الارتقاء بالمجتمع.

إن هذه الصفحات الثقافية اليومية، أو الأسبوعية الناجحة، تقوم على دمج الصحافة مع النقد، بحيث نضمن النوعية والتوعية، ونضمن التكثيف اللغوي الملائم للشكل الصحفي المحدد. يقوم الكتاب فيها بالاستفادة من مهارات الإعلام، ثم ينتجون كتابات ثقافية ذات شكل صحفي. ومن خلال الاستمرار، والتدرب، والتثقيف والمتابعة، أمكن لعدد من الصحف العالمية إيجاد مثل هؤلاء الكتاب والكاتبات. وأصبح للمحررين أعمدتهم التي تناقش القضايا الثقافية والفنية بشكل مهني ومسؤول.

وطريق مأسسة ذلك شكلا ومضمونا هو الاستثمار في:
 الكتاب والنقاد، وذلك بتدريبهم للكتابة للجمهور والنخبة معا، وذلك بإيجاد لغة للفريقين، وتفريغ ما بجعبتهم/ن في عدد محدد من الكلمات.
الصحافيون/ات المثقفون، وهم نوعية قليلة في العادة، تكون لديها اهتمامات ثقافية وفنية، إلى جانب عملها الصحافي العام، حيث من الممكن أن يكلف المحررون/رئيس التحرير منهم من يتابع الانتاجات الفنية أو الأدبية وغير ذلك. وهذا هو الشائع لدينا في فلسطين، حيث يتم تكليف المهتمين بالتغطية، والذين بدورهم لتكرار العمل، فإنهم راكموا خبرة خاصة مرضية، وإن كانت لم ترتقي للأسلوب الاحترافي سوى لدى القليل، إلا أنها بعيدة عن السطحية.
الطلب من ناقد فني وأدبي بالعمل كمحرر ثقافي، يشرف على إدارة الصفحات الثقافية.
الكتاب والكاتبات بشكل عام، حيث تفتح الصحيفة أبوابها لهم، للكتابة وفق ما يلائم الشكل الصحافي مقابل مكافآت مالية.

تلك أدوات تطوير الإعلام الثقافي، عن طريق الاستثمار في العاملين/ات في الإعلام والثقافة، بتوجيههم/ن نحو مراحل الاحتراف، عبر استعراض مقومات الصحفي المتخصص في جانب/بعض جوانب العمل الثقافي والفني. من جهة أخرى، لا بد من توفير حرية المذاهب الفنية والأدبية، وفي ظل الاهتمام بالتنوير عن تلك الحقول الثقافية والفنية والأدبية، كي يمنح الثقافة والفنون فضاء واسعا ومتعددا، ولا يكون أحادي النظرة مستبدا، ولا يكون بالطبع إعلاما مقصورا على أقلام محددة.

التأثير على السياسات الثقافية
إن تطوير الإعلام الثقافي، ليكون أكثر تخصصية إذن، أمر له ضرورة، للارتقاء بجوانب التغطية الصفية من جهة، وكمنشط للإبداع في الأدب والفنون المختلفة، ومحفّز لها.إن وجود مثل هذا الإعلام الخاص بالأدب والفنون كل فن على حدة، يأتي في الواقع أصلا انسجاما مع التطور الحاصل في الثقافة والفنون؛ فكيف سيكون هناك صفحات خاصة بالسينما إن لم يكن هناك أصلا حركة سينمائية، أو ثقافة سينمائية وأحداث وأفلام يقبل عليها الجمهور.
ويكون من خلال وجود كتاب ومحررين مختصين بالحقول الثقافية والفنية المختلفة، لإنتاج ملاحق ثقافية وفنية ومجلات متخصصة، بحيث يظهر مهنية واضحة للتعامل مع المجالات المختلفة، حيث يتطلع لوجود محرر الفن التشكيلي ومحرر المسرح وهكذا.

والنقد الأدبي والفني ضروري ليتواجد ويكون له حيز في هذه الصفحات، تنويرا للجمهور ومساهمة في التثقيف، وتأثيرا على حركة الإبداع لتكون أكثر جدية واحترافا.وللاقتراح الأخير علاقة بتطوير السياسات الثقافية، حيث يمكن من خلال هذه الصفحات التخصصية أن تكون وسيلة للربط بين منتجي/ات الإبداع والمؤسسات والجمهور، بحيث تكون إسهاما في بيان الاتجاهات الإبداعية من جهة، وحث إدارة الفنون والأدب على الارتقاء بالإنتاجات المختلفة عبر عقد الورش والجوائز التشجيعية والتقديرية. وهو يدفع بواضعي السياسات الثقافية المستقبلية إلى ضرورة مراعاة العمل الإبداعي الذي يجري على الأرض، خصوصا لدى الأجيال الجديدة.

الخطاب الوطني
قضية الثقافة وبالتالي الإعلام الثقافي الفلسطيني مرتبطة بالعمل الوطني المقاوم للاستعمار من جهة، والمحافظ على الهوية الوطنية والقومية كهويتين إنسانيتين. لذلك فإن من الضرورة بمكان أن تكون الثقافة عامل إسناد ورفع للمنجز الوطني. لذلك فإن السياسات الثقافية الوطنية جزء جمالي وفكري من السياسات الوطنية العامة، ولا تنفصل عنها، لكن هذا لا يعني التبعية، بل لا بد من توفير حاضنة إعلامية ديمقراطية، تنشر الرأي والرأي الآخر.
من هنا، فإن الإعلام الثقافي عليه الانتباه أنه في ظل حرية التعبير، وأهمية التنوير، فإنه ليس مجالا شعبويا ولا عنصريا، ولا تحريضيا، بل هو أسلوب ومضمون راق للتعبير والتفاعل مع القضايا الإنسانية. وهذا ما تحتاج القضية الفلسطينية، من وجود إعلام ثقافي وإعلام عام يتمسك بالحقوق الوطنية، في ظل وضع أفكار للسياسي، تكون ذات منطلقات وطنية وإنسانية.

إن وعي المحرر الثقافي على مثل هذه القضايا يمكن أن يؤثر على اتجاهات الرأي بل يقوده. وهناك ضرورة لتكوين هوية معينة للصفحات الثقافية تردف الخطاب العام ثقافيا ووطنيا وتنمويا، بحيث يكون الإعلام الثقافي خطابا ملتزما ومحترفا ومهنيا.

*يستند هذا المقال على ورقة مهنية حول واقع الإنتاج الثقافي الإعلامي المكتوب وآفاقه، المقدمة لمؤتمر الخطاب الثقافي من إعلام الثقافة إلى ثقافة الإعلام، بالتعاون بين جامعة بير زيت ووزارة الثقافة /24/5/2016