نشر بتاريخ: 02/06/2016 ( آخر تحديث: 02/06/2016 الساعة: 10:10 )
الكاتب: د. "محمد علي" العلمي
لم ينقطع أتباع الديانات السماوية الثلاث عن تواجدهم في بيت المقدس وغيرها من المدن الإسلامية وإجراء طقوسهم الدينية في أماكن عبادتهم طوال فترات حكم الدول الإسلامية المتعاقبة. وهذا يشير الى توفر ما يكفي من الحماية لأهل الذمة من النصارى واليهود لأجل الاستمرار بالعيش في هذه المدن. لم تأت هذه الحماية من خلال رفع شعارات التسامح والعيش المشترك وما الى ذلك. فهذه الشعارات والتعابير حديثة العهد اختص بها الإعلام في عصرنا هذا, وأصبحت لكثرة ترديدها شبه خالية في تأثيرها في تأدية ما تبغي اليه من تأكيد. فلا بد إذا أن انبثقت هذه الحماية من عوامل أساسية, ومؤثرة أدت الى استمرار التعايش والتواجد لأهل الكتاب في ظل الدولة الإسلامية. وسنحصر في مقالتنا هذه أمثلة حقيقية لأحداث موثقة تصف الواقع في القدس في الماضي.
إن استقراء الوقائع وكتب التاريخ تشير الى ثلاث عوامل توفرت في المجتمع الإسلامي أدت الى نجاح التعايش الموصوف أعلاه. وجميع هذه العوامل كانت على ذات الدرجة من الأهمية وساندت بعضها البعض, بل كان كل عامل منها يضبط أي انحراف للعاملين الآخرين. فالعامل الأول هو تصرف الدولة قولا وعملا من خلال قوانينها الإدارية والأوامر الصادرة عن حكامها وتتبع تنفيذها. والثاني هو قانون الشرع الإسلامي والذي كان سائدا ومعمولا به, وطبقت بنوده من قبل القضاء الشرعي. أما العامل الثالث فكان تصرف الأهالي في علاقاتهم اليومية في المجتمع والمصلحة المشتركة في معيشتهم الاجتماعية والتجارية. ونظرا لحجم هذا الموضوع سنحصر مقالتنا هذه بما تعلق بكنائس وأديرة النصارى في المدينة. وأيضا حصره في تطبيق قضاة المدينة للأحكام الشرعية بهذا الشأن. وفي مقالة قادمة سنبحث ما يتعلق بكنيس اليهود وأماكن دفن موتاهم وتطبيق الشرع الإسلامي بشأنهم.
كانت النصارى من أهل الذمة تنتمي للعديد من الطوائف العربية وغير العربية. فالسكان العرب النصارى تواجدوا في المدينة منذ القدم وسكنوا ومارسوا الزراعة أيضا في عدة قرى فلسطينية. كان معظمهم ينتمون للكنيسة الشرقية (ما يعرف بالارثودوكسية), والتي كانت تعرف بين الأهالي بكنيسة الروم. إضافة الى ذلك تواجدت طوائف أخرى اتبعت كنائس شرقية أخرى مثل الكنيسة القبطية والحبشية والأرمنية والسريانية والصربية والكرجية (أي المسكوب أو الروسية) والنساطرة وغيرها. وكذلك كان للكنيسة المارونية تواجد قديم في المدينة. كما كان أيضا تواجدا قديما للكنيسة الغربية الكاثوليكية وما تبعها من مؤسسات الرهبنة مثل اليسوعية والفرنسيسكان والدومينيكان (وكانت الأهالي تلقبهم بالافرنج أو اللاتين). بيد أنه لم تظهر الكنائس الغربية البروتستانية بشكل ملحوظ إلا بعد بداية القرن التاسع عشر.
كان لكل طائفة من النصارى كنائسها وأديرتها والتي انتشرت في كافة أرجاء القدس داخل وخارج أسوارها. واستمرتواجد دور العبادة والأديرة هذا طوال الحكم الإسلامي للمدينة وبغض النظر عن اختلاف العهود والسلاطين, أو كون أهل المدينة ذات إغلبية إسلامية. وهذا الأمر يعني وجود قدر كاف من الطمأنينة لدى النصارى في القدس وأكنافها. إذ لم يتواجدوا في حارة واحدة من المدينة أو تحصنوا في قرى خالية من المسلمين. بل كان لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم مثل الأهالي الآخرين وفق المثال التالي. ففي عام 1606 م طلب ممثلي طائفة النصارى من أهالي بيت جالا من القاضي خسرو بن مصطفى الإذن بأن يتسلحوا بأنواع من الأسلحة. وأتى ذلك نتيجة تخوفهم من الهجمات المتكررة عليهم وعلى نسائهم وماشيتهم من قبل البدو في المنطقة. وسمح لهم القاضي المذكور بالتزود بما يحتاجونه من أقواص ونشاب وبنادق وسيوف.
كان لأهل الذمة حقوق الاحتفاظ بكنائسهم وأديرتهم ودورهم في المدينة وخارجها. وشملت هذه الحقوق أيضا تعمير هذه الأماكن ولكن دون الزيادة عليها. وانطبق هذا الأمر حتى عام 1868 م, حين حصرت قوانين الشريعة بالأحوال الشخصية. وجرت العادة بأن تتم موافقة القاضي على تعمير هذه الأماكن بعد الطلب والكشف عنها. وطبق ذلك على جميع الطوائف المسيحية دون تمييز أو استثناء. وفيما يلي بعضا من الأمثلة لبعض أذونات التعمير التي منحت خلال خمس عقود من الزمن فقط: دير فرعون للأحباش (الإذن بتعميره سنة 1535 م), دير افتيموس للروم (1535 م), دير المصلبة (1538 م), دير صهيون لللاتين (1548 م), دير مار الياس للروم (1549 م), دير النخلة (1550 م), قبة عيسى التابعة لللاتين داخل كنيسة القيامة (1554 م), دير الصرب بحارة النصارى (1556 م), دير سنكل للكرج, أي الروس, (1556 م), وكذلك سكن الراهبات في هذا الدير (1558 م), ودير تقلا للكرج (1557 م), قسم اللاتين في كنيسة المهد في بيت لحم (1557 م), دير السلطان (1578 م), قسم السريان داخل كنيسة القيامة (1583 م). يضاف الى ذلك منح القاضي إذنه لكل من طائفة اللاتين وطائفة الروم لإجراء عملية ترميم كبيرة لكنيسة القيامة وقبتها والذي صدر في 1556 م, حيث تأثرت الكنيسة كثيرا من جراء زلزال عام 1546 م. أما الأذونات لتعمير دور النصارى فكانت كثيرة جدا ولا داع لذكر أمثلة عليها.
كانت الأذونات بالتعمير مشروطة بإعادة المكان الى ما كان عليه أو لصونه من الانهيار أو إحداث أذى للغير. ولم يسمح بالزيادة على هذه الأماكن. لذا كان يكشف على المكان قبل البدء من التعمير للتأكد من ذلك. وفي حالة المخالفة يتم إزالة الزيادة المضافة. فمثلا تم في 1537 م, الطلب من قبل حاكم القدس أن بنظر قاضيها عبد الرحيم بن ابراهيم في دعوى بأن رهبان دير المصلبة قد أضافوا بناء للدير بحيث اندثر جامع قديم مهجور ومأذنته كانا ملاصقين للدير. وبعد الكشف حكم القاضي أنه لم يتم أي زيادة على الدير ولا يوجد ما يشير الى وجود جامع قديم في المكان. أما في 1556 م, فقد حكم القاضي عبد الرحمن بإزالة بعض الرخام الذي تم بناؤه من قبل طائفة اللاتين في كنيسة القيامة وذلك بعد الكشف والاستماع للشهود ومن جملتهم بطرك الروم.
كانت ترد قاضي القدس عدة طلبات من حاكمي دمشق والقدس بالكشف عن كنائس النصارى وأديرتهم. فمنها إدعاءات بأن النصارى يخفون بداخل هذه الأماكن أسلحة وأدوات للحرب, ومنها أن المكان كان جامعا قديما وحول الى كنيسة ومنها أنه تم زيادة في البناء على هذه الأماكن دون إذن. ففي رمضان من عام 938 للهجرة, (نيسان, 1532 م) صدر الأمر لقاضي القدس محمد بن علي بإجراء التفتيش مرة أخرى على دير مار الياس والتحري عن ما إذا كان مسجدا من ذي قبل, علما بأنه قد تمت عملية التفتيش هذه من قبل قاض سابق للمدينة. وعليه ذهب القاضي بنفسه مع مندوب إداري للدولة وقاموا وبمصاحبة راهب الدير المدعو واصف بتفقد جميع غرف وقاعات المكان. وبعد الكشف ذكر القاضي في تقريره أنه "لم يجد ما يدل على أنه كان به مسجدا للمسلمين ولا ما يدل على ذلك, إنما هو كنيسة قديمة". ولدى استفسار القاضي من عدد من المسلمين "الثقاة العدول" ذكروا جميعا أنهم لا يعرفون الدير المذكور إلا بأيدي أهل الذمة من قديم الزمان. فحكم القاضي بثبوت ما تم كشفه وبعدم التعرض لرهبان الدير بما يخالف الشريعة. وبناء على طلب الراهب واصف تم تحرير وثيقة بالأمر وتسليمه له.
وفي عام 1006 للهجرة, 1597 م, بعث حاكم دمشق مصطفى باشا بكتاب لقاضي القدس يعلمه فيه بأنه بلغ الى مسامعه بأن طوائف النصارى في القدس يجمعون السلاح وأدوات الحرب بكنائسهم وطلب الكشف والتحري عن ذلك. فقام قاضي القدس آنذاك, شجاع الدين بن خضر بانتداب نائبه القاضي علاء الدين خليفة وبصحبة سليمان بك مير لواء القدس (الحاكم العسكري) ومندوب حاكم دمشق مصطفى أغا وجمع من مشايخ المسلمين وأعيان المدينة بتفتيش جميع كنائس النصارى وأديرتهم في المدينة. وتم ذلك على غفلة ودون إعلام النصارى مسبقا بذلك. وبعد الكشف لم يتبين وجود أي أسلحة في أي من الأماكن المذكورة. فعند ذلك قرر القاضي أن ما وصل من أقاويل لحاكم دمشق بشأن الأسلحة المزعومة مخالف للواقع وأن هذه الأقاويل لا بد وأن صدرت عن أناس من "ذوي الأغراض الفاسدة".
وتكرر هذا الأمر , الأول في عام 1599 م, عندما طلب حاكم دمشق أحمد باشا من قاضي القدس أحمد بالكشف عن أسلحة وأبنية مستحدثة في كنائس القدس وأديرتها. وبعد الكشف من قبل القاضي وجمع من المسلمين تبين عدم صحة الادعاء. وكتب القاضي في نص حكمه أن الادعائات لا بد أن صدرت عن أناس "في قلوبهم أمراض". ثم تكرر الأمر في 1611 م, وأيضا لم يجد القاضي بعد كشفه أي صحة لوجود أسلحة أو لزيادات في الأبنية على الكنائس والأديرة. وحصلت نتيجة ذلك أن صدر أمر سلطاني بأن قاضي القدس هو المخول بالنظر في ادعاءات مثيلة وليس حاكم دمشق أو حاكم القدس.
كانت قضاة القدس تحكم بموجب الشرع والذي إجاز المحافظة على الكنائس والأديرة وتعميرها عند الضرورة وأيضا حمايتها. وفي الأمثلة أعلاها كان كبار مشايخ المسلمين وأعيانهم من أهل القدس يشهدون على ما يكشفه القاضي في تحرياته. ولا يوجد ما يشير الى أن هؤلاء قد شهدوا بإمور مغايرة للحقيقة. كما أن القاضي كان له الصلاحية بالحكم بموجب البينة ولم ينصاع لأي فتنة, أو رغبة في إرضاء الحكام الإداريين للقدس أو دمشق. وعليه للقارئ أن يستنتج مما ورد دور الشرع وقضاته في حماية الكنائس والأديرة, ليس في بيت المقدس وحسب بل في كافة مدن الدول الإسلامية.