الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

في اللحظة الأخيرة .. من الحياة

نشر بتاريخ: 05/06/2016 ( آخر تحديث: 05/06/2016 الساعة: 21:24 )

الكاتب: الشاعر عمر فارس ابو شاويش

عندما تتجرأ علينا الحياة، ندرك أن الوقت الاحتياطي لنا في هذا الزمان قد أوشك على النفاذ، وعلينا ممارسة لعبة البقاء في أي مساحة كبيرة كانت أم صغيرة لنتمكن من مجاراة هذا الوقت ونخلق لأنفسنا – ربما – حياة قصيرة لا تشبه أيّ شيء، سوى الصمت .

عندما وقفت قرب شاطئ البحر، شرد ذهني يخاطب ذات لم تعد في ذاتي، هي تشبه قصة تتمرد بتفاصيلها على واقعي، فأبحث عمن يهدهد على كتفي إذا بكيت، وعمن يعانقني إذا فرحت وضحكت، وفي كل مرة أحاول أن أكتب نصاً جديداً، أشعر أن القلم في يدٍ مرتجفة، يخبئ نفسه في نفسه، خشية الحزن .

ذات مرة، وبعد أن وصلني نبأ رحيل أجمل الأصدقاء، كنت أقرأ خلال جلوسي في إحدى قطارات مدينة أوسلو، كتاباً نرويجياً مثيراً يحمل عنوان " الحياة كالغرق " ، كنت أشعر بصدمة جديدة من تجارب هذا الكتاب وكيف كان أصحابها يخوضون غمار هذه التجارب دون تردد، لا يهمهم إن كان النزول عن قمة الجبل سيؤدي بهم إلى الموت، أو القفز من أعلى لعبة خطيرة تؤدي بهم إلى الهلاك، كل ما يهمهم أنهم يمتلكون لحظة، ليست لحظة عابرة بقدر ما تحمل بين طياتها حياة، وإن كانت تحمل عنوان " الحياة الموت ".

ظننت حينها وبعد أن انتابني الحزن الشديد على فراق صديقي، أن القفز من القطار سيشبه تلك اللحظة، فبكيت، كانت الحياة فوق كاهلي أثقل من وجع بحجم الأرض، كتبت على ظهر الغلاف قبل أن أستعيد الكتاب إلى صديقتي النرويجية فيكتوريا " أحيانا أظن أن الوحدة من مترادفات النبل، ألا تترك مبادئك مقاعدها في قطار الحياة، بينما الآخرون تهزم مبادئهم وتنزل من القطار".

سرعان ما ردت فيكتوريا على مقولتي، وكتبت بتعجب بالغ " ما معنى أن تكون وحيداً في هذه الحياة " ، قلت: أن تكون لك ذاكرة هادئةٌ حديدية، و حياةٌ مليئةٌ بالضوضاء، فتهرب من رحابة الحياة لتقبع خلف قضبان الذاكرة .

وقلت في سّري " بل أحياناً يا فيكتوريا، أجمل مرحلة في الحياة تكون لدى وصولنا إلى القمة، إن لم نستطع الحفاظ عليها في هذه النقطة، علينا أن نرحل بعيداً قبل أن تهوي بنا إلى القاع. "

في اللحظة الأخيرة قبل أن أنزل من القطار، أمسكت بورقة صغيرة، أقصوصة من دفتر صغير أكتب به تجاربي اليومية، كتبت قبل أن ألصقها على علبة التذاكر " إلى قارئ هذه الورقة، لقد جئت إلى هذه المدينة من بلد آخر، أحببت أن ساعتين فقط تفصل بين الليل والنهار في حياة المدينة، صحيح أن رأسي أصبحت مثقلة بالحيرة من هذا التعاقب القاتل، إلا أنني بتّ أدرك جيداً كيف أقتنص لحظة من العُمر، وألا أرهنها في بياض الدنيا أو سوادها، لطالما باستطاعتي أن أعيش ها هنا دون جدول حياتي محدد، يربطني بساعات روتينية للصحو والنوم، أي ما يشدني إلى الذكريات، وما يجعلني أحبو لأصارع لحظات الحياة، فأنجو من موت/حزن محقق .

يعجبني من يدرك أنّ أوراق اللعبة متغيرة فما كان بيده اليوم قد ينقلب عليه غداً، من يبحث عن حلولٍ أخرى أكثر واقعية بدلاً من البكاء على ما فاته، تلك أجمل .. أصعب اللحظات .


•عمر فارس أبو شاويش
شاعر وكاتب فلسطيني