الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

لنتق الله فيما نروي من حديث

نشر بتاريخ: 08/06/2016 ( آخر تحديث: 08/06/2016 الساعة: 15:02 )

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

عرف المسلم بأنه كل من شهد بإن "لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله". واتفق المسلمون في كافة العصور بإن الأحكام الشرعية التي تسري عليهم مصدرها القرأن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. ولا خلاف بينهم على ما ورد من نصوص القرآن الكريم. ولكن ماذا بشأن السنة النبوية ودورها في الوصول الى أحكام الشرع وما يصل اليه المجتهد في اجتهاده وما يدلي المفتي أو الفقيه من رأي ؟

فالسنة لعلماء الفقه هو كل ما صدرعن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. فالسنة القولية مثل قوله "لا ضرر ولا ضرار". والسنة الفعلية هي ما رآه أصحابه من كيفية الصلاة والصوم وقضائه بين المسلمين. أما سننه التقريرية فهي كل ما أقره الرسول بسكوته أو عدم إنكاره أو موافقته أو استحسانه. وحيث أن جميع ما وردنا من السنة هو ما تحدث به أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تقسم الى قسمين حسب ورود الأحاديث الينا. الأول ما يعرف بالسنة المتواترة والثاني ما يعرف بآحاد الأخبار.

السنة المتواترة هي ما سمعه أو رآه جموع الصحابة والمسلمين لما فعل وقال وقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه الجموع لأعداد كبيرة منهم ولا تحتمل الكذب أو الخطأ فيما اتفقوا على ما رأوه وسمعوه. وعليه قبل المسلمون فيما بعد روايتهم بأنها صحيحة وواجبة الاتباع. كانت السنة المتواترة هي الأساس في تعلم المسلمين كيفية الصلاة وإداء كافة مناسكهم من صوم وحج وزكاة وغير ذلك. وهذا مثلا ما نشاهده اليوم في صلاتهم حين يقفون صفوفا منتظمة خلف الإمام في المسجد, أو يقفون جميعا يوم عرفة مثلما وقف نبيهم الكريم أو الأفطار عند غروب الشمس في شهر رمضان. فجل مناسك عباداتهم مصدرها السنة المتواترة. وعليه وباستثناء أمور غير ذي شأن لا يوجد ما يختلف عليه المسلمون في أداء مناسكهم. ونورد فيما يلي بعضا من هذه الاختلافات الثانوية. كان للرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من مؤذن واحد من الصحابة. فاختار أبو حنيفة وحنبل طريقة بلال الحبشي بينما اختار مالك والشافعي طريقة أبي محذورة القرشي. ثم أن أبو حنيفة وحنبل والشافعي اختاروا التكبير أربع مرات في بداية الآذان بينما اختار مالك التكبير مرتين فقط. وذهب أهل الشيعة الى الإضافة لشهادتهم بأن "محمداً عبده ورسوله" بأن "علياً ولي الله". كما أضافوا بعد دعوتهم "حي على الصلاة" بدعوتهم "حي على خير العمل". ثم أنهم اختلفوا في رفع اليدين عند تكبيرات الركوع وعند الرفع منه. فقال الشافعي وحنبل أنها واجبة بينما خالفهم في ذلك أبو حنيفة. واختلفوا بشأن البسملة إن كانت آية من فاتحة القرآن. فأبو حنيفة ومالك قالا أنها ليست بآية بينما الشافعي قال أنها كذلك. فهذه الاختلافات والعديد من غيرها ليست جوهرية ولا تمنع المسلمين من أداء صلاتهم خلف إمام واحد مهما كان مذهبه.

إن أكبر الدلالات على اتفاق المسلمين بشأن السنة المتواترة هي أننا لا نجد لها كتبا منفردة فيما ورد الينا من أهل الحديث والفقهاء. أما النوع الآخر من الحديث النبوي الشريف والمعروف بآحاد الأخبار فقد وصلنا المئات من الكتب وتفاسيرها المختصة بشأنها. وجل هذه الكتب كانت لتحري صحة هذه الأحاديث وصدقها. وحيث أن علماء الفقه اعتمدوا كثيرا على السنة النبوية لاستنباط الأحكام الشرعية التي ضبطت المجتمع الإسلامي كان من واجب الإيمان عليهم أن يتحروا صحة وصدق ما قيل عن النبي صلى الله عليه وسلم. فبينما اتخذوا من القرأن الكريم والسنة المتواترة حججهم القطعية (أي المؤكدة), ذهبوا الى استعمال آحاد الأخبار كحجج ظنية تفيد الترجيح في اجتهادهم.

آحاد الأخبار هي ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل إحدى زوجاته أو أحد الصحابة أو مجموعة صغيرة منهم لا يصل عددهم الى وصفهم بأنهم جمع كبير، ثم ما روي عن هؤلاء ومن تبعهم من المسلمين من بعدهم. لم تدون آحاد الأخبار في زمن الرسول الكريم ولا في زمن الخلفاء الراشدين. وقيل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لا يحبذ كثرة الرواية في الحديث خوفا من ارتكاب الخطأ. كما أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كان يحلف كل من آتاه بحديث سعيا لتدقيق روايته. وقيل أيضا أن الخليفة الأموي محمد بن عبد العزيز سعى قبل وفاته الى تدوين الحديث بيد أن ذلك لم يتم. فعدم تدوين الحديث في الفترة الأولى للإسلام أدى فيما بعد ودون أدنى شك الى ظهور المئات بل الآلاف من الأحاديث المشكوك في أمرها. فالأحاديث المشكوك فيها كانت إما صادرة عن جهل أو خطأ من رواها, أو صادرة عن فئة من المسلمين لترجيح حججهم على حجج غيرهم, أو لأسباب سياسية, أو لاختلافات فيما بين بعض العرب وغيرهم من المسلمين من بعض العجم والروم, أو لغايات مشكوك فيها من قبل من دخل الإسلام كرها أوعن غير إيمان. وأثر ذلك بالطبع على المسلمين كافة خاصة وأنه لجأ البعض منهم الى رد كل اجتهاد لهم الى حديث شريف حتى لو كان ذلك الحديث فيه ضعف. وسنقدم أدناه مثالا على ذلك.

أدرك علماء المسلمون خطورة كثرة ما اندس من أحاديث مشكوك في أمرها. وسعوا الى دراسة صحة ما روي منها دراسة علمية تضاهي في نهجها الأساليب الحديثة في التدقيق والتحري. وخرجوا علينا بكتب عدة تعتبر من أمهات المراجع لدينا. فمن أول ما دون من حديث كانت ما نجده في كتب الفقه للأيمة الأوائل مثل كتاب الموطأ لمالك (المتوفي في 179 للهجرة) والمسند لأحمد بن حنبل (241 للهجرة) والرسالة للشافعي (204 للهجرة). بيد أن هذه الكتب لم تختص في تدقيق الحديث, بل ركزت على استنباط أحكام الشرع. أما أوائل من اختص في علم الحديث فكان محمد بن اسماعيل البخاري (المتوفى في 256 للهجرة, 870 م), ومسلم بن الحجاج النيسابوري (261 للهجرة), ومحمد بن يزيد القزويني المعروف بابن ماجة (275 للهجرة), وسليمان بن الأشعث السجستاني الملقب بأبي داود (275 للهجرة), ومحمد بن عيسى المعروف بالترمذي (279 للهجرة), وأحمد بن علي النسائي (303 للهجرة). وكتب هؤلاء الستة هي التي يعتمد عليها لدى غالبية العلماء في التحري عن صحة ما ورد من أحاديث . كما أن أهل الشيعة اعتمدوا أيضاً على ما روى علماء الحديث منهم عن أيمتهم. وتبع هؤلاء علماء آخرون مثل البيهقي النيسابوري (المتوفى في 458 للهجرة), وابن عساكر (571 للهجرة), ولاحقا علماء مثل الحافظ عبد الغني الجماعيلي (600 للهجرة) والحافظ بن حجر العسقلاني (852 للهجرة) والجلال السيوطي (911 للهجرة). ونلاحظ أن هؤلاء العلماء من المسلمين كانوا من العرب وغير العرب. ولنا معشر بيت المقدس وأكنافه أن نعتز بأن كل من الشافعي (من مواليد غزة) والنسائي (الذي سكن الرملة) والجماعيلي (من نابلس وجبلها) والعسقلاني هم من عاشوا أو نشأوا في ديارنا.

وللاستفادة من أعمال من ذكر من كبار رجال الحديث نسوق المثال التالي. نسمع من خطباء الجمعة أحيانا ومن غيرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوفد معاذ بن جبل قاضيا على اليمن, وسأله "بم ستحكم يا معاذ؟" فأجابه "بكتاب الله تعالى", فرد عليه "وإن لم تجد ؟", قال "فبسنة رسوله", فقال له "وإن لم تجد ؟", قال "أجتهد ولو آلو". فأخذنا نبحث عن هذا الحديث في كل من كتب البخاري ومسلم وسنن بن ماجة والنسائي فلم نجد له ذكر. أما السجستاني فقد ذكره دون تعليق. وذكره الترمذي مع تعليقه أن إسناد الحديث غير متصل وعليه ضعفه. فما كان منا إلا أن تصفحنا كتاب الموطأ لابن مالك وكتاب الرسالة للشافعي فلم نجد للحديث أثرا. ثم قرأنا في كتاب المحلى لابن حزم نقدا لاذعا لمن أورد هذا الحديث الغير مسنود. ونزيد على ذلك أن الخصاف الحنفي المذهب (المتوفى في 261 للهجرة) في كتابه عن القضاء لم يأت على ذكر هذا الحديث. بينما عمر بن عبد العزيز الملقب بالحسام الشهيد (536 للهجرة) أورده في تفسيره لكتاب الخصاف.

نقول أنه لو سألنا المسلم في الحاضر والماضي وكان ملما ولو باليسير من علم الفقه عن كيفية الوصول الى الأحكام الشرعية نجد أنه ودون تردد سيولي القرآن الكريم المكانة الآولى, يتبعها السنة النبوية, ثم أن غالبيتهم يتبعون ذلك بالاجتهاد. ويأتي كل ذلك دون الحاجة الى ترديد حديث ضعيف كالذي ورد أعلاه لتبرير هذا النهج. إذ أن اعتماد المسلم في نهجه هو إيمانه المطلق بالله ورسوله. فعليه, كما في الماضي وكما في الحاضر لنتق الله فيما نروي من حديث. فالأفضل الامتناع عن ذلك إلا في الحالات التي يمكننا إسناد الرواية فيه, وقلة منا يستطيع ذلك. فلتبع علماء الحديث في الرواية ولا نسمع لقول الجهلاء حتى لو نمقوا قولهم بالصلاة والسلام على النبي.

وفي مثال آخر على استعمال كتب الحديث الستة المذكورة أعلاه نورد ما يلي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا الى ثلاثة مساجد, مسجد الحرام, ومسجدي هذا (ويعني المدينة المنورة), ومسجد الأقصى". رواه البخاري (عن حفص بن عمر عن شعبة عن عبد الملك عن قزعة عن أبا سعيد بن المسيب, وأيضا عن علي عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة), ورواه مسلم (عن عمرو وزهير بم حرب عن بن عيينة عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة), ورواه ابن ماجة (عن أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة), ورواه السجستاني (عن مسدد عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة), ورواه الترمذي (عن بن أبي عمر عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن قزعة عن أبي سعيد الخدري), ورواه النسائي (عن محمد بن منصور عن سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة). فهذا الحديث يحمل كما كبيرا من ثقة النقل في الرواية, ناهيك عن حسن المعنى. فحبذا لو شدت رحال أمة محمد صلى الله عليه وسلم الى مساجده الثلاث. ومن يطع الله ورسوله له أجر عظيم.