نشر بتاريخ: 08/06/2016 ( آخر تحديث: 08/06/2016 الساعة: 16:23 )
الكاتب: بسام الكعبي
تأمل الفتى حسين أبو حمدان في الثامن من كانون أول 1986 غياب صديقه الشهيد رمضان أبو زيتون قبل أن يتفجر صوته بالغضب: "خَسر فريق كرة الطائرة في مدرسة مخيم بلاطة أفضل لاعبيه وأرشقهم وأطولهم وأكثرهم وسامة" دون علم بأنه سيغادر فريق طائرة بلاطة المدرسية ويتركه يتيماً بلا قائد، عندما يسقط شهيداً ثانياً للفريق بنيران قوات الاحتلال، ظهيرة الخامس عشر من أيلول 1987 بعد تسعة أشهر على رحيل صديقه رمضان، وقبل ثلاثة أشهر من اندلاع انتفاضة شعبية شكّلها فتيان المخيمات في رحم التاريخ.
أستعيدُ الآن أحداث شبه غائبة ضيعتها ذاكرتي عن زيارتي قديمة لعائلة الشهيد حسين في مخيم بلاطة شرقي نابلس، يسعفها نص سردي وثقه كتاب (شهادات فلسطينية) أصدرته أواخر العام 1990 بمشاركة الصديق الروائي عيسى بشارة، وسجل وقائع غياب الشهيد حسين على لسان والدته منذ سنوات بعيدة: "لحظة استشهاد رمضان أبو زيتون، كان ابني حسين يقف بجانبه، ولدى عودته إلى البيت كان ينتفض قهراً، وظل طريح الفراش لمدة أسبوع. على الواحدة من ظهر الخامس عشر من أيلول اخترقت طلقة عيّن ابني وخرجت من دماغه. كنتُ لحظتها ساجدة على الأرض في صلاة الظهر، وكان إبني ساجداً على الأرض غارقاً في دمه! قبل استشهاده بلحظات قصيرة روى شباب المخيم أنهم شاهدوا حسين فوق عمود كهرباء يزرع علم الوطن".
ذاكرة الأحزان
شقيقه الوحيد قاسم كان طالباً في المرحلة الثانوية استعاد أنذاك لحظات مغادرة حسين البيت: قلت له إرجع لا تخرج، جيش الاحتلال ينتشر في الشوارع. نظر نحوي بغرابة ورفع يده مودعاً للمرة الأخيرة وغاب إلى الأبد، وظلت كتبه ودفاتره مرتبة كما تركها" وبعد 29 سنة على رحيله لا زال شقيقه قاسم (44 سنة) يحتفظ بكتبه المدرسية وكشوف علاماته كما تركها الشهيد.
هاجرت عائلة محمد اشتيوي أبو حمدان من يافا عام 1948، وأقامت فترة في قلقيلية ثم نزحت إلى رفيديا غربي نابلس قبل أن تستقر في مخيم بلاطة شرقي المدينة. تزوج أبو حمدان في منتصف الستينيات وأنجب تسع بنات وولدين، وكان ترتيب الشهيد حسين في العائلة السادس. عمل أبو قاسم في إسرائيل حتى رحيله عام 2000، فيما ظلت زوجته التي ولدت في الأيام الأولى للهجرة القسرية، تكابد أحزان غياب نجلها حسين، وقد أصيبت بأمراض ضغط الدم والسكري.
قاطرة الأحداث
أطلق محمد عيسى، أحد الجيران، إسم حسين على نجله تيمناً بالشهيد، وقد كانت زوجته حاملاً في الأشهر الأخيرة، يبلغ حسين اليوم الثامنة والعشرين من العمر. أطلقت شقيقتان للشهيد إسمه أيضاً على نجليهما؛ يبلغ أحدهما الثالثة والعشرين والثاني في السادسة من عمره، وخطف أيضا حسين قاسم (5 سنوات) إسم عمه الشهيد.
تعرض الشقيق الأكبر قاسم (44 سنة) في الخامس من نيسان 2002 لإصابة مباشرة بصواريخ الطيران الحربي الإسرائيلي، عندما استهدف مجموعة من شبان المخيم في منتصف شارع السوق، واستشهد على الفور زملاء الدراسة ماهر عميرة ورائد فتوح والفتى سمير أبو ليل، وأصيب قاسم بمجموعة كبيرة من الشظايا لكنه انتصر على الموت ليظل شاهداً على الجريمة. نُقل على وجه السرعة إلى عيادة المخيم، وأشرف على إجراء العمليات الجراحية الدكتور فراس درّس، أحد زملاء صف المدرسة الإعدادية للشهيد حسين، وتمكن الدكتور إخراج عدد من الشظايا المتناثرة في الجسد دون بنج لأنه لم يكن متوفراً في عيادة وكالة الغوث. تحمل قاسم أوجاع الجراحة القاسية المستعجلة، لكنه لم يتحمل غياب الدكتور فراس مطلع العام2016، وقد رحل شاباً بعد معاناة طويلة مع مرض خبيث، وبخاصة أن الطبيب كان يتابع علاج قاسم بانتظام، ويهتم به كثيراً، باعتباره الشقيق الأكبر لزميل الدراسة الشهيد حسين.
تابع قاسم العلاج مع الدكتور رستم النمري، أخصائي العظام، الذي أجرى عملية معقدة للعظم المتناثر في كعب القدم اليمنى. يخلو الكعب من العظم وقد استبدل بكتلة من اللحم، ويحرص قاسم على تجنيب كعبه أي احتكاك لئلا تزداد أوجاعه الدائمة جراء وجود شظية خلف الركبة مباشرة، وقرر الأطباء عدم إزالتها للخطورة المتوقعة على المفصل.
ظل قاسم طريح الفراش طوال سنتين، ولم يتمكن من متابعة الفصل الأخير من دراسته في جامعة النجاح بنابلس، وأعتبر مستنكفاً عن الدراسة، وللأسف لم يحصل على بكالوريوس من قسم التربية وعلم النفس. التحق موظفاً في السلطة الفلسطينية، ويعيل أسرة تتكون من ثلاث بنات وولدين أكبرهم في السادسة عشرة وأصغرهم في الخامسة.
شهداء عائلة أبو حمدان
عقب استشهاد حسين بثلاثة أشهر اندلعت الانتفاضة الأولى في التاسع من كانون أول1987، ونالت العائلة حصتها من الجرحى والمعتقلين والشهداء. أول الشهداء من أبناء العمومة خطفه هشام داود أبو حمدان (19 سنة) عند استشهاده ليلة عيد الأضحى في الثلاثين من أيار 1993 إثر اصطدام مصفحة عسكرية بسيارة خاله في شارع فيصل بمدينة نابلس. أصيب هشام بكسر في فقرات الرقبة وجروح خطيرة جدا ونقل في وضع صعب إلى مشفى رفيديا، لكنه فارق الحياة للأسف، فيما نجا خاله واحدى خالاته من جراح حرجة.
وبعد سبع سنوات وفي شارع فيصل أيضاً، استشهد شقيقه طالب الصحافة في جامعة النجاح هاشم داود أبو حمدان في الثاني من أيار2004، برفقة الشهيدين محمد حسين أبو حمدان ونادر أبو ليل؛ عندما تعرضت سيارتهم لقصف صاروخي من طائرات الاحتلال في مركز مدينة نابلس.
وأستشهد كذلك إياد سمير أبو حمدان (23 سنة) في الثاني والعشرين من أيار2004 يوم عيد ميلاد ابنته الصغيرة عهد، عندما تعرض لقصف صاروخي للاحتلال استهدف مجموعة شبان في أطراف المخيم، واستشهد في القصف أيضاً الشابين محمود الطيطي وعماد الخطيب. وسبقه إلى الشهادة شقيقه زياد سمير أبو حمدان ( 24) في 18 أيلول 2003.
تسعة وعشرون عاماً على غياب الشهيد حسين نجم "طائرة" بلاطة الفتى الذي تميّز بمهاراته الرياضية وتعلقه بكرة الطائرة والقدم، تسعة وعشرون عاماً والكرة لا زالت معلقة فوق شباك الملعب في غياب بطلها المتميّز. سنوات طويلة من الغياب تركت جراحها على عائلته وأصدقائه وجيرانه، أعباء متراكمة لكنها فشلت بكسر تماسك المخيم، وظل حريصاً على صلابته في مواجهة أعباء النكبة، وثقل الحصار، وقسوة الحواجز العسكرية للاحتلال.