السبت: 23/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

رغم عُمق الوجع..غزة في رمضان تَخرج إلى الحياة

نشر بتاريخ: 15/06/2016 ( آخر تحديث: 15/06/2016 الساعة: 15:11 )

الكاتب: هبة الوعري

رافقني طيلة جولتي الصحافية مُصراً أن أشتري منه ضُمة النعناع الطازجة وذلك في سوق الزاوية بميدان فلسطين فقلت له إني مشغولة الآن وعند انصرافي من المكان سوف أشتريها، ثم باشرت عملي بإجراء مقابلات مع الباعة ولكنه ظل يختلس النظر إليَّ أينما كنت أتنقل خشية أن أذهب دون أن أشتري منه ضمة النعناع، ذلك هو الطفل عبد الله صاحب البشرة القمحية والعيون الزرقاء والملامح الطفولية فهو يذهب في كل عام من شهر رمضان المبارك لهذا السوق لكي يسترزق محاولاً إقناع المتسوقين هناك وبأسلوب متمرس لكي يشتروا منه ما يحمل في جعبته.

سوق الزاوية هذا السوق الذي يقع بمدينة غزة لا يكل ولا يمل ناسه ورواده وبائعيه؛ ورغم ضيق الحال وعمق الوجع الغزي إلا أن هناك معنى للحياة والأمل ولرمضان ولكل شيء، فمع تباشير صباحي في ذلك اليوم من شهر رمضان المبارك حملت أمتعتي وذهبت كي أرسم صورة قلمية عن أجواء رمضان في هذا السوق الذي يعتبر من قمة الأسواق التاريخية الموجودة بغزة هاشم والذي يعج بالناس والحركة منذ الصباح حتى آذن المغرب، وحتى أعين كاميرات المصورين والصحافيين كانت متواجدة هناك بكثرة.

حيث بقيت مشدودة طيلة يومي بعبق ذلك المكان وبأدق التفاصيل التي رأيتها هناك وتمنيت ألا أغادر هذا السوق الحيوي فسوق الزاوية يوجد به كافة مستلزمات الحياة يكفي رائحة العطور والمسك الطيبة، فكل حانوتاً من هذا السوق العريق يوجد به العديد من الأغراض البيتية، كما يوجد هناك كافة المكسرات الخاصة بالقطايف وكافة أنواع الأجبان من جبنه صفرة وبيضة والكشكوان والحلاوة، إضافة إلى تمر هندي، قطين، سوس، خروب، قمر الدين، فريكة، حمص، جوز، لوز، جوز الهند؛ وكافة أنواع الخضار والفواكه واللحوم ويكفي رائحة البهارات والتوابل التي شدتني للتمعن بأصنافها العديدة.

وعلى الرغم من أن رمضان هذا العام هو الأسوأ اقتصادياً على الغزيين ورغم الحصار الخانق براً وبحراً وجواً لقطاع غزة إلا أن هذا كله لا يمنع المواطنين من الاستمتاع باستقبال شهر رمضان على طريقتهم الخاصة والذي يطل علينا بلماته العائلية وجلساته وحركة المواطنين فيه حتى منتصف الليل وصلة الرحم والتلاحم المجتمعي حيث أن للشهر الفضيل في غزة فرحته المميزة فمع ثبوت هلاله تُزين الشوارع والبيوت وأزقة مخيمات اللاجئين بالفوانيس المضيئة؛ كما أن هناك حارات لونت جدرانها وزينت منازلها بأحبال الزينة البراقة وكلٌ فرح َعلى طريقته، فإن مقولة (ابتسم أنت في غزة) تنطبق على شعبنا المكلوم فقط.

بعد أن خف زحام المواطنين عن بسطتها الصغيرة توجهت إليها كي أسألها عن حركة البيع والشراء في شهر رمضان كانت متخوفة للحديث معي إلى درجة كبيرة لا أعلم لماذا فاقتربت منها كي أشاهد ماذا تبيع فوجدتها تبيع الفقوس والباذنجان والبقدونس، تلك هي العجوز السبعينية أم محمد ألقيت عليها تحية الصباح وقلت لها كل عام وأنتي بخير يا حجة وسألتها بعض الأسئلة ولكن دون إجابة منها، ربما تخوفاً من الصحافيين، وبعدها تعمدت أن أمثّل عليها بأني سأتذوق من الفقوس التي تبيعه فأمسكت حبة بيدي وهممت بالأكل منها بعد أن مسحتها بمنديلي فصرخت بشدة (لا لا تأكلي الدنيا رمضان يا بنتي لا تأكلي) ابتسمتُ فهنا نجحت في حيلتي أعلم أني في شهر رمضان ولكني قصدت ذلك حتى تتحدث معي وهنا بدأتُ الحديث معها باستدراج الكلمات منها بصعوبة عن حركة البيع لبسطتها، ثم شعرت أم محمد بعدها بالاطمئنان تجاهي وبدأت تتحدث معي قائلة إن الوضع سيئ على الجميع والحركة على بسطتها كانت نشطة أول يومين فقط من شهر رمضان مؤكدة بأن الكثير يتفرجون على بسطتها ويمشون دون شراء شيء، سُررت يوميها عندما تحدثت معي واشتريت منها في نهاية حواري معها الفقوس الطازج.

وسأشير هنا أنه لفت انتباهي عبر موقع الكتروني على الانترنت صورة لمنزل نصف مدمر وجدران حائطه بلا نوافذ فقد دُمر جزء منه بقذائف الدبابات الإسرائيلية خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة والتي تمر ذكراها الأليمة الثانية في شهر رمضان، ومع هذا قام ساكني المنزل بتزيينه بأحبال الزينة المضيئة والفوانيس فهم يعيشون في نصف المنزل الصالح نوعاً ما للسكن والنصف الآخر مدمر أجزاء منه وغير صالح للسكن ورغم شدة الدمار فيه إلا أن صاحبه أصر على تزيين كامل المنزل بالأضواء والفوانيس كي يُدخل الفرحة والبهجة على قلوب صغاره وعائلته في شهر رمضان، كما وجدت على موقع آخر صورة أخرى تعكس مدى حب شعبنا للحياة وهي أسرة بأكملها تفطر بعد سماع آذان المغرب فوق ركام منزلها المدمر افترشوا بساط صغير ووضعوا فوقه بعض من مستلزمات الإفطار؛ والزينة والأضواء كانت تملئ المكان!.

فلا تكاد تخلو حارة في غزة أو شارع في هذه الأيام من زينة شهر رمضان المبارك ومن الفوانيس الضخمة المضيئة والمعلقة على الحبال حتى في حارتي التي أقطن بها حيث زيّن سكان الحي الشارع بفانوس كبير وأحبال الزينة البرّاقة، وعندما خرجت من منزلي أول يوم من شهر رمضان أنا وطفلتي الصغيرة فوجئت بالزينة الجميلة حينها سألتني صغيرتي من علق هذا الفانوس الكبير وهذه الزينة الجميلة هنا يا أمي ولماذا وماذا تعني؟ سُررت لسؤالها وأجبتها بأن فوانيس رمضان تعتبر من الذكريات الهامة في شهر رمضان الكريم عند الجميع صغاراً وكباراً، وهي من الطقوس المتبعة منذ القدم، ومن أشهر رموز الشهر الكريم وهو جزء لا يتجزأ من زينة ومظاهر الاحتفال بقدوم شهر رمضان في قطاع غزة وبقية الدول الإسلامية، وبعد أن شرحت لها ماذا يعني لنا فانوس رمضان اصطحبتها إلى محل لبيع الفوانيس واشتريت لها فانوساً جميلاً زهري اللون لتحتفظ به وعندما فتحت غلافه ووضعت حجر البطارية نشد الفانوس (حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو).

هذا واستخدم الفانوس في صدر الإسلام في الإضاءة ليلاً للذهاب إلى المساجد وزيارة الأصدقاء والأقارب كما صاحب هؤلاء الأطفال بفوانيسهم المسحراتي ليلاً والذي يسحر الناس ويوقظهم للسحور، حتى أصبح الفانوس مرتبطاً بشهر رمضان وألعاب الأطفال.

القطائف,, اعتاد المسلمون على إعدادها وأكلها في شهر رمضان فهي تعد فقط في هذا الشهر المبارك كما أنها متعددة الأشكال والأحجام فمنها قطايف محشوة بالمكسرات ومنها بالفستق الحلبي ومنها بالجبنة النابلسية ومنها بالقشطة، وهناك قطائف العصافير الصغيرة طيبة المذاق.

لازلت أذكر طفولتي أيام شهر رمضان كم تغيرت الحياة من جيل إلى جيل كم كانت أيامنا جميلة جداً خاصة بعد الإفطار فألعابنا كانت مختلفة وحديثنا كان مختلف وحتى المسلسلات فالآن تغزو المسلسلات التركية الحديثة أما أيام زمان كنت أتابع مسلسلات شهر رمضان وأنتظرها بتلهف كل عام وأذكر منها (فوازير ألف ليلة وليلة والأشكيف المخيف وبوجي وطمطم وفوازير بدون كلام) كما أني لازلت أذكر جيداً بداية فوازير ألف ليلة ولية وهي" بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد أن ..... وتبدأ في سرد حكاية جديدة من حكايات ألف ليلة ولية، كم هي جميلة حقاً أيام زمان فرمضان فيها كان مختلف تماماً بكل شيء فيه فيكفي أسفاً بأن أقول أن جيل اليوم لا يفهم سوى لغة الانترنت والتكنولوجيا والأجهزة الحديثة!

وجدير بالذكر أن هذه الأيام تذكرنا بحدثين أليمين علينا جميعاً أولهما الحرب الأخيرة البشعة على قطاع غزة والتي وقعت في شهر الخير والبركات حينها نزعت منا فرحة هذا الشهر الكريم لبشاعة وشدة العدوان والقتل والدمار الذي حل بالمواطنين وويلات التهجير وهدم المنازل فوق رؤوس ساكنيها فكان أصعب رمضان يمر علينا، والحدث الثاني هو الانقسام البغيض الذي أكمل عامه التاسع وبكل أسف وحسرة، ونشعر بالغصة في القلوب لاستمرار انشطار شقي الوطن حتى يومنا هذا، وكلنا أمل أن تنجح الحوارات الأخيرة في مصالحة الطرفين وإعطاء المواطن بصيص أمل.

في النهاية مهما كان عمق الوجع الغزي ورغم تلاطم الآلام سنبقى متمسكين بالفرحة والأمل.. وكل عام من شهر رمضان وأنتم بألف خير.

غادرت هذا السوق المفعم بالأمل والحياة والتفت حولي كي أشتري ضمنة النعناع وبحثت عن الطفل الصغير فوجدته ينتظرني ولم ييأس فاشتريت منه ثلاث ضمم من النعناع ففرح كثيراً وسألني: بكرة بدك تيجي كمان مرة عالسوق!!