نشر بتاريخ: 15/06/2016 ( آخر تحديث: 16/06/2016 الساعة: 00:24 )
الكاتب: داوود كتّاب
لا ينبغي أن يمرّ خبر وفاة الملاكم الأميركي الأسود المسلم محمد علي كلاي مرّ الكرام، إذ شكّل نموذجاً قلّ مثيله عبر تجسيده معاناة ملايين السود في الولايات المتحدة بقوة شخصيته وموقفه المعارض للنظام القائم سواء برفضه الديانة السائدة واعتناقه الإسلام، أو بأن يُقتل الأبرياء ذوو البشرة الملوّنة في فيتنام إرضاء للسياسيين وتجّار الحروب.
لم يكن كلاي من الأشخاص الذين يعبّرون بالكلمات فقط، بل ترجم أقواله بأفعال، رافضاً الانصياع لأمر استدعائه للحرب، وفي الوقت نفسه رفض الهروب إلى كندا، ما تسبب بسجنه في بلاده، ومثّل بذلك نموذجاً لافتاً وقدوةً للشباب في أنحاء العالم، كافةً، في تلك الفترة، كما شكّل مثالاً تمنيت التعرف إليه، وقد تحققت أمنيتي على نحو غير متوقّع.
حين كنت أكتب زاوية في صحيفة “الفجر” المقدسية تحت عنوان “حديث الساعة”، أواسط عام 1985، على شكل مقابلة قصيرة مع شخصية ما حول موضوع الساعة، حيث علمت وقتها من خلال تصفّحي الصحف المحلية والأجنبية بوصول بطل الملاكمة محمد علي إلى القدس الغربية في مهمة إنسانية ممثلاُ للحكومة الأميركية للمساعدة في حلّ إشكالية تتعلق بسجناء أو مخطوفين لدى حزب الله.
بدأت الاتصال بفنادق القدس، وبعد عدة مكالمات نلت غايتي، حيث أجابني مدرّب كلاي، ووافق على طلب مقابلتي شريطة الإجابة على سؤاله: اليوم هو الجمعة.. هل تعرف مسجداً قريباً يمكن أن نذهب لنصلي فيه؟”. أجبته “مسجد؟ أنت في القدس ولا بدّ أن تصلّوا في المسجد الأقصى”. وافقني وطرح عليّ طلباً آخر: “هل يمكن أن ترافقنا هناك لنصلّي العشاء؟”. طبعاً كانت فرصة لقاء كلاي وإجراء مقابلة معه بمثابة حلم فوافقت.
اتصلت بصديقي رئيس اتحاد الجمعيات الخيرية الدكتور أمين الخطيب، وأعلمت أحد الزملاء المسلمين في الصحيفة مستفسراً منه عمّا يجب فعله بالنظر إلى كوني مسيحياً. فردّ عليّ ضاحكاً بأن عليّ الذهاب وأقوم بشعائر الصلاة مثلهم.
ذهبت مع زميلي إلى الفندق بسيارتي “الفيات” الصغيرة، لنرافق البطل العالمي ومدربه إلى الأقصى حيث التقينا الدكتور أمين الخطيب؛ خلعنا أحذيتنا ودخلنا فوراً إلى المسجد وكان البطل إلى يميني والدكتور إلى يساري وقمنا سويةً بأداء شعائر الصلاة وراء أمين الخطيب منتبهاً أن أؤديها يطريقة لا تلفت غيري إلى أنني غير متقن لها.
عقب الصلاة خرجنا، وإذ بمئات المواطنين تجمّعوا على عجل بعد انتقال خبر وصول كلاي كالنار في الهشيم، وبدؤوا يهتفون باسمه: محمد علي، محمد علي. أصبح الوضع صعباً وكاد أن يخرج عن السيطرة، فقررنا الخروج من باب جانبي على أن يحضر زميلي السيارة قرب مدخله.
وما أن اختفينا في بيت صغير على مقربة من الحي الأفريقي حتى علِم أهله بوجودنا، وكان هناك احتفال بزواج أحد أبنائه، فأتى إلينا أحد كبار الجالية الأفريقية في القدس وأصرّ بإلحاح أن يحضر محمد علي حفل الزفاف ولو لدقائق معدودة. لم يكن هناك إمكانية لرفض عرضه، حتى غادرنا المكان بسرعة إلى شارع صلاح الدين، فتوقفنا لشراء بوستر بغرض إهدائه للبطل، وخلال دقائق تجمّع الشبان حوله وهتفوا من جديد: محمد علي، محمد علي.
توجهنا إلى “مطعم البتراء” في القدس، الذي يملكه بطل الملاكمة الفلسطيني شحادة دكيدك، الذي طار فرحاً بزبارتنا المفاجئة له، وأصر أن تُلتقط له صورة تجمعه مع البطل كما رفض أن ندفع ثمن وجبة العشاء.
أستعيد قصص ذاك اليوم، والعالم يوّدع بطلاً عالمياً ليس في الملاكمة فقط، إنما لمواقفه الشجاعة. لقد أبى أن يكون تابعاً لأحد، بل كان إنساناً فخوراً ذا كرامة ورؤية إنسانية مميزة، وجريئاً في الدفاع عن قضيته.