الثلاثاء: 26/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

المحتسب في بيت المقدس وأكنافه

نشر بتاريخ: 26/06/2016 ( آخر تحديث: 26/06/2016 الساعة: 14:05 )

الكاتب: د. "محمد علي" العلمي

نشأت الدولة العلمانية في بلادنا حديثا, وتحديدا خلال القرن الأخير من الزمان. وعاشت الأهالي فيما قبل, وعلى اختلاف العهود والسلاطين, ولنحو إثني عشر قرنا في ظل الدولة الإسلامية ونظامها الشرعي. واليوم إذا ما أراد المواطن أن يطلع على مؤهلات وصلاحيات الوظائف العليا للدولة العلمانية, سواء كانت لرئيسها أو وزيرها أو غيرهم, فما عليه سوى تصفح القوانين ذات الشأن في الدستور والأنظمة المعنية. أما إذا أراد أن يتعرف على هذه الأمور كما كانت سائدة في الدولة الإسلامية في الماضي فعليه أن يطالع الكتب ذات الاختصاص التي كتبها الفقهاء, وهي عديدة ومتشعبة. فمثلا ما كتب عن القضاة والقضاء يعد بالعشرات من إمهات الكتب والتي يرجع بعضها الى ألف عام. أما الكتب التي اختصت بالأمور الإدارية للدولة الإسلامية فقد كانت أقل عددا.

فقبل ألف عام كتب علي بن محمد الماوردي, الشافعي المذهب والمتوفي في 450 للهجرة, 1058 م, كتابه "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" والذي طبع حديثا. نشأ الماوردي في البصرة وعاش في بغداد أيام الدولة البويهية, وشغل عدة مناصب للقضاء بما في ذلك قضاء نيسابور قرب مشهد في أقصى شرق إيران, والتي دفن فيها كل من الإمام علي الرضا والخليفة هارون الرشيد. ويعد كتابه المذكور من أفضل ما كتب في النظام الإداري للدولة الإسلامية. إذ حدد فيه مؤهلات وحدود صلاحيات رئيس الدولة, بمعنى الخليفة, وطريقة تعيينه وواجباته. وكذلك فعل لعدد من وظائف الدولة الرئيسية. ومن جملة هذه الوظائف كان ما يعرف بمحتسب المدينة.

ذكر الماوردي أن مسؤوليات وواجبات المحتسب هي دينية ودنيوية وتتلخص "بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وشمل ذلك عبادات الناس في المجتمع وأيضا المعاملات فيما بينهم, كالتجارية مثلا. وحددت صلاحيته بأنها أقل من تلك التي يتمتع بها القاضي, من حيث أنه لا يستطيع إلزام المواطن بإمر ما كشأن ما يلزم القاضي الناس به في إحكامه. إذ كان على المحتسب تقديم المخالفات للقضاء للبت في أمرها. وسنحصر في ما يرد أدناه مسؤوليات المحتسب بالمعاملات بين الأهالي. ويعود ذلك الى أن جل ما وجدناه في المراجع كاد أن ينحصر بالمعاملات فقط وليس بالعبادات, خاصة خلال الفترة المملوكية والعثمانية في بلاد مصر والشام.

ذكر الماوردي أن مسؤوليات المحتسب كانت حفظ حقوق الناس. وحددها بنوعان, الأول ما يتعلق بعامة الأهالي, والثاني خاص بفرد أو مجموعة صغيرة منهم. فمن الأمثلة على النوع الأول كان التأكد من وفرة المياه في المدينة وصلاحيتها للاستعمال, وأيضا متابعة صيانة أسوار المدينة وأبوابها والمحافظة عليها, وصون الطرق العامة وحقوق الاستطراق فيها وما الى ذلك من أمور تخص مصالح جميع الأهالي. أما النوع الثاني فكان محصورا بكل من أصحاب الحرف والتجار والقصابين والموردين للمحاصيل الزراعية وما يشبه ذلك. فمثلا كان على المحتسب تفقد صلاحية اللحوم المذبوحة والمحاصيل الزراعية, وحسن دباغة الجلود وما يصنع منها كالأحذية مثلا, وكذلك للأقمشة والملابس, وأيضا وزن وجودة الخبز في الأفران وأمور أخرى شبيهة. وكان للمحتسب أيضا صلاحية تفقد الموازين لدى التجار وفق الكيل الخاص بمدينة القدس. إذ أن الرطل والأوقية والذراع في المدن الإسلامية (كدمشق وحلب والقدس) كانت تختلف قليلا بعضها عن بعض. وعليه كانت الأوزان في بيت المقدس توصف بأنها "بالكيل القدسي" أو "بالذراع القدسي". وشمل عمل المحتسب أيضا مراقبة الأسعار للمأكولات وبعض السلع والتي كانت تحدد عدة مرات في السنة وفق المواسم الزراعية. ومن مهامه أيضا التأكد من خلو الأماكن العامة من الزبالة والقاذورات وعدم تعريض الناس للأذى نتيجة ما يوقد من نيران الأفران أو غيرها.

كان تعيين المحتسب للمدن الكبيرة من صلاحية السلطان والذي كان عادة يفوض حاكم المدينة لهذا التعيين. وقد قرأنا أمثلة عديدة عن تعيينات في مدن القاهرة ودمشق والقدس أيام حكم المماليك والتي كانت عادة لسنة واحدة فقط. فمثلا عين السلطان فرج ابن برقوق المؤرخ المقريزي كمحتسب للقاهرة عام 802 هجري. أما المؤرخ القاضي ابن خلدون (المتوفى في 1406 م) فقد رفض الوظيفة حين عرضت عليه بعد ثبوت فساد المحتسب السابق. إذ أن هذا المنصب شمل أيضا جمع الرسوم من الحوانيت وما كان يفرض على موردي المحاصيل الزراعية وغير ذلك. وعليه كانت الوظيفة عرضة للفساد والتسبب في مشاكل عديدة مع التجار وأصحاب الحوانيت. وفي مثال آخر ورد أن السلطان قايتباي ولدى زيارته لمدينة الخليل في عام 1475 م, اشتكى له أهلها من محتسب مدينتهم لكثرة تلقيه الرشاوى وفساده وتعسفه وظلمه لهم. فما كان من السلطان إلا أن عزله وأبطل تعيين المحتسب من قبل نائبه في القدس وجعلها محصورة في يد السلطان في القاهرة.

كانت أسعار المأكولات تحدد عدة مرات في السنة في القدس وذلك بحضور القاضي ومحتسب المدينة وكبار تجارها. وشمل التحديد سلع مثل الخضروات والأجبان بكافة أنواعها مثل الجبن الابرودي والتعمري وجبن الجاموس وكذلك الكشك وعجينة الكنافة الخشنة والناعمة, الخ. كما حددت أسعار القطن والشمع بأنواعه والحديد والنحاس وغير ذلك من السلع. وكان المحتسب أحيانا يقدم بعض التجار للقضاء حيث يجري تغريمهم في حالة ثبوت بيعهم باسعار أعلى من تلك المحددة لهم. وطالعنا كيف أن محتسب المدينة أبو الفضل شكى سبعة تجار لقاضي القدس شمس الدين في عام 1550 م بتهمة أن كيل الموازين التي استعملوها كانت ناقصة. فحكم القاضي بتأديبهم جميعا. وفي السنة التالية شكى أبو الفضل ثلاثة خبازين للقاضي ذاته بإن خبزهم يقل وزنا عن ما يجب أن يكون عليه. فقضى القاضي بتأديبهم أيضا. وفي حالة أخرى اشتكى محتسب القدس صانع أحذية يهودي بسبب انفراط حذاء كان قد صنعه. كما منع القاضي أحد القصابين من بيع لحم لفساده ورائحته الكريهة بعد تقدم شكوى للمحتسب.

كانت الخضروات في زمن المماليك والعثمانيون تباع في خان الوكالة وسوق الباشورة داخل سور القدس بالقرب من طريق باب السلسلة. وكلا السوقين كانا وقفا على الصخرة المشرفة بحيث كان يجبي ناظرها من التجار أجرة حوانيتهم. أما الشعير والتبن والأعلاف فكانت تعرض في محلة التبانة شرقي حارة اليهود وبالقرب من باب المغاربة. وكانت هناك أسواق تختص ببعض السلع كسوق الذهب وسوق العطارين وسوق اللحامين. وجدير ذكره أن المراقبة على صاغة الذهب لم تكن من اختصاص المحتسب. وإثر محاولة الأخير مراقبة أوزانهم تشكى الصاغة من مسلمين ويهود ونصارى للقاضي في سنة 1555 م بأن لديهم أمر سلطاني بأن الرقابة عليهم محصورة على نقيبهم. فحكم القاضي محمود لهم بذلك. وكذلك اشتكى تجار حوانيت سوق العطارين من مسلمين ويهود في عام 1538 م من أنه ليس من حق المحتسب التدخل بتجارتهم أو فرض الرسوم عليهم. وحكم القاضي للعطارين بموجب صحة استمرار العادة القديمة بذلك.

أما الماشية فكان يمنع ذبحها خارج مسلخ المدينة والذي كان في أيام المماليك قرب حارة اليهود. وقد رأينا أمثلة لقصابين غرموا من قبل القاضي لعدم امتثالهم لذلك. وحافظت طائفة اليهود على طقوسها في الذبح وعمل الجبن وغير ذلك. وكان ذبحهم أحيانا يسبب مشاحنات بينهم وبين بعض القصابين المسلمين. ولتفادي ذلك قرر القاضي أحمد بن موسى (1549 م) السماح لليهود بأن يقوموا بالذبح على طريقتهم كل يوم أثنين وخميس من الاسبوع وبيع اللحم في سوق اللحامين. ولدى تكرر الشكاوى بالأمر أكد القاضي محي الدين ( 1580 م), حق اليهود في اتباع طقوسهم في ذبائحهم. أما القاضي حسام الدين (1556 م) فقد أجاز لليهود عمل الجبن وفق طريقتهم ومنع من يتعرض لهم بذلك. كما أجاز قاض آخر لليهود شراء العنب والمتاجرة به شريطة عدم بيع أي من خمره للمسلمين.

كانت وظيفة المحتسب عبارة عن مقاطعة له يتولى مهامها مقابل دفعه مبلغا من المال لحاكم المدينة. وبلغت قيمة ما كان يدفعه شهريا في أوائل العهد العثماني نحو 70 قطعة ذهبية, وهو ما يعادل آنذاك قيمة دار كبيرة في المدينة. وبالتالي كان يقوم بفرض رسوما على التجار والحوانيت وموردي المحاصيل تزيد عن ما تكلفه للحصول على وظيفته. وعليه كانت فرص حدوث الفساد والتجاوز كثيرة. بيد أن القضاء بقي صمام للأمان لحماية الأهالي والتجار من التعسف والظلم. فمثلا اشتكى اللحامون في عام 1582 م, من أن المحتسب كان يطلب منهم ذبح المواشي التي يحضرها اليهم وبيع لحومها لصالحه وأن في ذلك مخالفة لقانون وعادة قديمة يمنع بموجبها المحتسب من الانخراط في تجارة سلع يقوم بمراقبتها. وحينذاك قرر قاضي القدس محمود بأن تصرف المحتسب غير قانوني ومنعه من الاستمرار في تصرفه. أما الأهالي فكانت كثيرا ما تشتكي للقاضي من تصرف موردي العلف واللحامين وغيرهم من التجار من زيادة أسعارهم عن تلك المحددة لهم أو منع بضاعتهم عن الأسواق. وفي حالات عديدة كانت القاضي يطوف الأسواق لتحري الشكاوى وتصويب الأمور مثلما فعل مثلا القاضي عبد الرحمن عام 1554 م.

شملت مسؤولية المحتسب الرقابة على النقد وتطبيق السعر الرسمي للفلوس المعدنية المتعامل بها من غير الذهب والفضة, والتي كانت تحدد قيمتها من قبل الدولة. وفي معظم الحالات كان يتم تخفيض قيمة هذه الفلوس مما أضر بالأهالي. وفي بعض الحالات كان يتم إلغاء التعامل ببعض أنواع الفلوس المعدنية والذي كان إجحافا وظلما للناس ومدخراتهم. وتكرر هذا الأمر خلال الفترة المملوكية والعثمانية مما سبب أحيانا تضخما في أسعار السلع. وكان يتم ذلك بشكل مكشوف ومفضوح خلافا للتضخم الذي يسري اليوم بشكل مستتر وبطرق غامضة للناس.