الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

عن تدهور الخطاب السياسي لحماس!

نشر بتاريخ: 10/07/2016 ( آخر تحديث: 10/07/2016 الساعة: 10:20 )

الكاتب: حيدر عيد

بعد أن فازت حركة حماس الإسلامية في انتخابات 2006 بطريقة فاجأت الجميع بلا استثناء بما فيهم أعضاء وقيادات الحركة نفسها, تنفس الكثير من النشطاء المحليين والدوليين الصعداء بسبب ما اعتُقد حينها أنه ضربة لعقيدة بوش في الشرق الأوسط وبسبب كونها اختباراً لمصداقية أطروحات الديمقراطية الليبرالية وتطبيقاتها في "الشرق الأوسط الجديد" . ما يهمنا هنا ليست ردات الفعل ومحاولات الانقلاب على "التجربة الديمقراطية" الوحيدة تحت حراب الاحتلال في الشرق الأوسط من الداخل والخارج ، ولكن تنصل الحركة من التزاماتها تجاه الناخبين ، والذين لم يكن الكثير منهم بالضرورة مؤيداً لها ، ومدى مصداقية التزامها بالعقد الاجتماعي الذي تلتزم به الديمقراطيات الكبرى من احترام لفردية المواطن حريته الشخصية وصيانة كرامته ,و "البراغماتية" التي أبدتها الحركة و لكن بثوب أيديولوجي ضيق!

من الضروري بداية تكرار ما يجب تكراره من أن وجود الحركة في معسكر المقاومة والتضحيات الهائلة التي قدمها الكثير من كوادرها تصب في المحصلة النهائية في صالح القضية الفلسطينية إذا تم استثمارها بشكل خلاق ومبدع. والسؤال هنا هوهل استطاعت الحركة فعلا البناء على هذا الكم الهائل من العطاء ، ليس الحمساوي فقط بل الفلسطيني بشكل عام, و استثماره بطريقة تليق به؟

إن اندفاع الحركة واستعدادها للتعامل مع الأطروحات الأمريكية، وعلى الرغم من التصريحات شبه النارية ، تثير الاستغراب. فقد تم إرسال رسالتين ، على حدود علمي ، للقيادة الأمريكية بعد تسلم باراك أوباما منصب رئيس الولايات المتحدة. ما يهمنا في هذا السياق هو مضمون هذه الرسائل ومدى تعبيرها عن تطلعات الشعب الفلسطيني في مناطق 67و48 والشتات. إن مضمون هذه الرسائل ، وتصريحات كبار قادة حماس ، هو إبداء الحركة للحكومة الأميركية قبولها والتزامها بحل الدولتين, أي إقامة "دولة فلسطينية مستقلة" على حدود 67. ولكن في نفس الوقت يؤكد الكثير من قادة الحركة عدم التزامهم بالاعتراف بإسرائيل وعدم قبولهم حل الدولتين! بمعنى آخر ولتبسيط الأمور، فإن القيادة الفلسطينية المنتخبة من أغلبية ثلث الشعب ، أي سكان الضفة الغربية وقطاع غزة ، تعلن التزامها بحل عنصري لا يأخذ بعين الاعتبار حقوق 6-7 مليون لاجئ فلسطيني ولا الحقوق القومية و الثقافية ل 1.4مواطن فلسطيني من سكان إسرائيل ّ. إن الخطر الهائل الكامن في هذا الموقف هو أنه يأتي بعد انزلاق اليمين العلماني المسيطر على دفة قيادة القضية الفلسطينية منذ الستينيات من العام المنصرم ، وبعد أنجزة “اليسار” الستاليني وتحوله إلى مشرعن لمواقف تختلف جذرياً عن المواقف التاريخية التي سجلها عبر تضحيات تم التنصل منها بتبريرات براغماتية لا تصمد في مواجهة أسئلة من المفروض على اليسار أن يكون قادرا على الإجابة عليها بطريقة خلاقة.

ومن هنا كــان "الأمـــل" المبالغ به من الكثير من المؤيدين الدوليين للقضية والكثير من النشطاء الفلسطينيين المعاديين لاتفاقيات أوسلو التي أسماها الراحل الكبير ادوارد سعيد “النكبــة الثانية”!

لاشك وان مصدر الأزمة الحالية في فلسطين هو الطبيعة المشوهة للنظام الذي خلق نتيجة لاتفاقيات أوسلو والادعاء أنها خلقت الأرضية المناسبة لحل الدولتين . إن مشاركة العديد من القوى السياسية بانتخابات 2006 كان اشارة لقبول هذه القوى ، والعديد منها معادي لأوسلو ، بالواقع السياسي الجديد الذي خلقته الاتفاقيات ومن ثم مبدأ "حل الدولتين –السجنين." ولكن المفارقة أن حماس أدعت أن هدفها هو التخلص من أوسلو الفتحاوية, وانتهت بقبول "أوسلو" إسلاموية من خلال قبولها بدور كبير المساجين الذي يشرف على 2 مليون سجين و يحتكر تعريف مفهوم المقاومة بطريقة إقصائية لا تبدي أي احترام عملي للأشكال التي لا تخرج من تحت عباءتها الأيديولوجية!

في نهاية الثمانينات قامت الحركة الوطنية الفلسطينية ، وبشبه اجماع ، بقبول حل الدولتين ، وفي مرحلة متأخرة تم الاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود. إنها نفس الحركة الوطنية التي انطلقت في منتصف الستينات لتحرير فلسطين من النهر للبحر. ولكن المحصلة كانت مفاوضات من وراء الستار أدت إلى توقيع اتفاقيات أوسلو مهدت بدورها الطريق لتحويل القضية الفلسطينية الى قضية احسان وصدقة . والآن وبقبول حل السجنين والتعويل على تركيا و الدوحة و إخوان مصر, عندما تولوا سدة الحكم, والنظام الرسمي العربي بشكل عام, فإن حركة حماس تعيد اختراع العجلة. فهل يعيد التاريخ نفسه كمأساة أم مهزلة هذه المرة؟

ان فشل الحركة الوطنية الفلسطينية في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها وتخليها حتى عما كان يسمى برنامج الحد الأدنى (البرنامج المرحلي) وقبولها بحل عنصري يتنكر للحقوق التاريخية غير المجزأة والمكفولة من قبل الشرعية الدولية ، كان من أهم أسباب نجاح حركة حماس بانتخابات 2006 . ولكــن الحركة ومن خلال قبولها بحل الدولتين, أو دولة فلسطينية على حدود 67 كما يردد ,لا تختلف سياسياً مع الحركة الوطنية بيمينها أو يسارها.

و هكذا تقوم حركة حماس بتكرار نفس الخطأ السياسي بخصوص حل الدولتين . إن دل هذا على شيء فهو انعكاس لسياسة تدهور ، وحتى أسلوة ، ليس فقط في اللغة ولكن حتى في الممارسات . إن الشعب الفلسطيني ليس فقط أولئك الذين يقطنون الضفة وغزة. يعلم القاصي والداني ان هناك أكثر من6 مليون لاجئ ينتظر غالبيتهم ينتظرون تلك اللحظة التي يعودون فيها الي قراهم ومدنهم تبعا لقرار الأمم المتحدة 194. وأن هناك 1.4 مليون فلسطيني من سكان مناطق 1948 واللذين يعاملون كمواطني درجة ثالثة . إن النضال الفلسطيني ليس فقط من أجل دولة مستقلة على حدود 1967 بل هو نضال من أجل التحرير وتقرير المصير . إن القبول بوهم الدولة المستقلة على حدود 67 ، هو قبول بحل عنصري بامتياز يتناقض جذرياً مع الطبيعة التحررية للنضال الفلسطيني.


والســؤال ، ما هــو شكل هذه الدولة؟ و هل هناك بديل لدى حركة حماس لحل الدولتينالسجنين- الذي بات مستحيلا؟


بداية ً,تتميز حركة حماس بغياب رؤية استراتيجية واضحة و شاملة, و عدم نضج سياسي يتضح من قبولها بهذا الحل الميت أصلا. من خلال العديد من التصريحات للقيادات البارزة في الحركة في غزة والدوحة تم التأكيد والتكرار مرارا على أن الحركة تقبل بدولة فلسطينية مستقلة على المناطق التي احتلت عام 1967م وعاصمتها القدس "الشرقية طبعا". إن هذا الطرح و بلا أدنى شك مثير للعجب والاستغراب لأن كل سياسي في فلسطين وكل ناشط مهتم بالقضية يعلم أن "حل الدولتين" العنصري قد أصبح مستحيلا بسبب سياسة إسرائيل الاستيطانية في الضفة الغربية وبسبب تدمير قطاع غزة ، وبناء جدار الفصل العنصري ، توسيع القدس الكبرى ، وتمديد المستوطنات وزيادة عدد المستوطنين لأكثر من نصف مليون مستوطن. منذ عام 1967م و حتى الان والولايات المتحدة تدعم اسرائيل في خلق الظروف التي جعلت حل الدولتين مستحيلا وغير عملي وغير عادل!

ان تجربة حكم غزة تعطي نموذجاً مصغراً لشكل هذه الدويلة الإسلامية ، كما تعطي الضفة فكرة عن الدويلة /البانتوستان التي تسعى حركة فتح لإقامتها. يعلم الجميع أن غزة في الفترة الأخيرة شهدت تحولات اجتماعية ذات بعد أيديولوجي من خلال قوانين لم تسن ، ولكن تطبق ، وتستهدف الحريات الفردية وبالذات حرية المرأة: من منع تدخين الشيشة ، وإجبار الطالبات على لبس الجلباب والحجاب ، وفرض الحجاب على المحاميات, و التعدي على رجال و نساء من خلال استفسار رجال الأمن عن :طبيعة" العلاقات التي تربطهم......الخ طبعاً وكل هذا يأتي في إطار ما يسمى ب"الحفاظ على العادات والتقاليد". بذلك تكون الحركة قد نصبت نفسها حرساً للعادات من منظورها الأيديولوجي الضيق؟ إن الديمقراطية التي على أساسها تمت إنتخابات 2006 تقوم على مبدأ ضمان الحريات الفردية ، وهناك كم هائل من التصريحات لكثير من القيادات في غزة وخارجها قبل الانتخابات أكدت على احترام هذه الحريات في حال فوزها في انتخابات 2006 .

ان تحول الكثير من المناضلين/ المجاهدين ,والذين لديهم الاستعداد للتضحية بانفسهم في سبيل الوطن ، وأدائهم المثير للإعجاب خلال الدفاع عن غزة, إلى " مطوعين" على نمط ما يحصل في المملكة السعودية يتطلب مراجعة نقدية جدية من قبل الحركة.

من الواضح إذاً أن الحركة عاجزة عن فهم أن غزة 2009 و 2012 و 2914 قد خلقت واقعاً سياسياً جديداً حيث قامت إسرائيل بإطلاق رصاصة الرحمة على حل الدولتين /السجنين العنصري. ان اصرار قيادة الحركة على تبني هذا الطرح والإدعاء أنه تكتيكي ومؤقت لحين تغير موازين القوى التي تفترض الحركة أنها قد تتغير خلال 10 أو 20 عام ، أي فترة الهدنة التي فرضياً ستبنى خلالها دولة نموذجها المصغر ما يُطبق في غزة انما ليدل على غياب رؤية استراتيجية واضحة لإنهاء الصراع مع الاستعمار الاستيطاني ،رؤية تستفيد من النضالات العالمية ضد الاستعمار ، وبالذات النضال الجنوب أفريقي ضد نظام الأبارتهيد البغيض والذي توج عام 1994 بالقضاء على هذا النظام وبشكل مدوي . للأسف أنه لا يوجد ، ومن خلال متابعة للعديد من التصريحات لقيادة الحركة, ما يدل على فهم واضح للطبيعة الأبارتهيدية لدولة إسرائيل ولا حتى للأدوات النضالية التي استخدمت من قبل مناضلي جنوب أفريقيا وبالذات دفة توجيه حملة مقاطعة دولية كان بدونها لا يمكن أن نرى نهاية نظام التفرقة العنصرية . وهنا يتضح مدى عجز الحركة عن فهم أهمية دور حركة المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات(BDS) التي تكتسب زخماً يحسدنا عليه حتى الإسرائيليين أنفسهم كما يتضح من الحملات الكبيرة التي تقوم بها ضد البي دي اس و ناشطيها. لا يوجد أي تصريح لأي مسئول في الحركة أو حتى في أدبياتها ما يدل على فهم هذا التحرك النضالي الذي يشكل خطراً استراتيجياُ, كما تدعي التقارير الاسرائيلية.

إن حركة المقاطعة العالمية تسترشد توجهاتها من اللجنة الوطنية للمقاطعة, بطريقة مشابهة لحركة المقاطعة ضد نظام الأبارتهيد . الفارق أن جنوب افريقيا كان لديها ما يسمى بالجبهة الديمقراطية المتحدة والتي كان تركيز نضالها يقوم على الربط بين المقاومة الشعبية القاعدية والتضامن الدولي ، وبالذات حملة المقاطعة .إن فشل جناحي القيادة الفلسطينية "الوطني والإسلامي" في دراسة هذه التجربة والبناء عليها وربطها بتاريخ المقاومة الفلسطينية يتطلب أيضاً مراجعة نقدية ملحة . وان كان أيضاً من الواضح أن هناك قيادات بديلة لا تستطيع الانتظار .ان تشكيل لجنة المقاطعة الوطنية بشعاراتها الرئيسية والتي أعادت اللحمة لمكونات الشعب الفلسطيني من نضال ضد الاحتلال والاستيطان، والتفرقة العنصرية الممأسسة ضد سكان 48 ، والمطالبة بعودة اللاجئين علامة فارقة في الكفاح الفلسطيني.ان هذه المطالب غير المجزأة تميز الإستراتيجية الفلسطينية الجديدة والبديلة. هل فلسطين على استعداد للتعاطي البناء و العملي مع هذا التطور الايجابي في النضال الفلسطيني بعيدا عن الرؤية الفصائلية الضيقة؟

إن "العالم" لا يشمل فقط أمريكا و ايران و تركيا، أو النظام الرسمي العربي ، بل يشمل أيضاً مؤسسات العمل المدني ولجان التضامن التي اجبرت حكوماتها على مقاطعة نظام الأبارتهيد في جنوب افريقيا في الثمانينات من القرن الماضي . انه عالم يشمل الطلاب الذين احتلوا قاعاتهم للتضامن مع غزة، و اتحاد نقابات العمال الاسكتلندية والبريطانية والايرلندية والجنوب أفريقية التي تبنت حملة مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات عليها ،و الجمعيات الأكاديمية الأمريكية العديدة التي طلبت من أعضائها وقف التعاون مع الجامعات الإسرائيلية, صناديق التقاعد و الكنائس التي سحبت استثماراتها من شركات عالمية تستثمر في اسرائيل, إنه عالم يشمل فنزويلا وبوليفيا و باقي دول أمريكا اللاتينية التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع اسرائيل احتجاجاً على مجزرة غزة, على خلاف ما فعلته تركيا أردوغان (التي تتغني حركة حماس "بدعمها" للشعب الفلسطيني!) فما الذي صنعته الحركة للبناء على هذا النموذج المصغر من الانجازات الهائلة التي وجهتها اللجنة الوطنية للمقاطعة بنداءاتها المتكررة لفرض حملة من المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات على دولة اسرائيل العنصرية, غير التهليل الأيديولوجي المبالغ به للإخوان في مصر, الذين حكموا مصر لمدة عام و عجزوا عن فتح معبر رفح, و للإخوان في تركيا الذين أعطوا طابعاُ إسلاموياً للتطبيع ؟

إن النضال الفلسطيني يجب أن يعوّل على التنوع في الأساليب والأدوات النضالية, وبالذات في هذه اللحظة, وعلى التضامن الدولي الشعبي والتعبئة الجماهيرية بدلاً من وضع كل بيضنا في سلة أردوغان و تبرير التطبيع على انه "شطارة" و "حنكة" سياسية, و إن كان على حساب الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث! إن ما قامت به الحكومة التركية ينطبق عليه حرفيا تعريف التطبيع كما أجمع عليه المجتمع المدني الفلسطيني و قواه السياسية. و ما إصدار بيان من قبل حركة حماس "يثمن الموقف التركي الداعم للشعب الفلسطيني," و إصدار بيان مشابه من إخوان مصر, في نفس اليوم الذي قامت به تركيا بتوقيع الاتفاقية التطبيعية , و محاولات خلق تفسيرات و تبريرات دينية لتبرير التطبيع مع الاحتلال و الأبارتهيد و الاستعمار الاستيطاني, إلا مؤشر خطير على مدى التدهور الذي و صلت إليه الحركة.