نشر بتاريخ: 12/07/2016 ( آخر تحديث: 12/07/2016 الساعة: 21:08 )
الكاتب: بسام الكعبي
ضَغَط أفراد حرس سجون الاحتلال في الخامس من تموز 2004، قبل إثني عشر عاماً بالضبط، على زناد مدفع الغاز، فتحررت المادة القاتلة من العبوات باتجاه زوايا قسم رقم واحد في معتقل جلبوع شمال إسرائيل. حاصر الغاز جسد الأسير محمد رفيق التاج ( 44 سنة ) من طوباس، وهَبطَ بصيغة بودرة بيضاء فوق صدره! لتشكل حاجزاً، بطبعة جديدة غير مسبوقة، بين نبض رئته والأكسجين، وأصابت السموم جلده بحروق مختلفة..منذ اليوم العدواني الأسود عاش الأسير محمد التاج سنوات طويلة صعبة في سجون الاحتلال، وتنقل منهكاً برئتين تقاومان مرضاً خبيثاً يزحف بصمت حتى تمكن من افتراسهما، لكنه فشل بافتراس إرادة مناضل صلب، تماسك في أقسى الظروف، وأعلن الاضراب المفتوح عن الطعام في أكثر أوضاعه الصحية قسوة، فانتصر، وتحرر، ونَبَضَ.
في مكالمة هاتفية طويلة، بدا التاج متماسكاً جداً رغم الانهاك الواضح في صوته، أثناء سرد مسيرته الكفاحية الشاقة، وكنتُ حريصاً على تجنيبه ضغط الأسئلة الصحفية، وثقل فضول المهنة، لكنه حفزني دون قلق على طرح كل الأسئلة التي تطرق رأسي، وللأمانة أجاب عليها بنبل يرافقه نبرة ضعيفة فرضتها الشروط الصحية المستجدة، لكن الأجوبة كشفت سر صلابة الموقف، وإرادة التماسك في مواجهة جبهة متحالفة من الأعداء: السجون والمرض.
نبض المعلم الأول
ولد محمد التاج في السابع عشر من تشرين أول1972 في العربية السعودية، لأب من عشيرة الصوافطة، عثر على مهنته في التعليم، فألتحق معلماً في سلك التربية بمدرسة ابتدائية في قرية سكاكا على حدود السعودية مع الأردن، وعمل في الليل مدرس محو أمية لأفراد جهاز الشرطة السعودية في البلدة. التحق والده في سلك التعليم السعودي مطلع الستينات بعد تخرجه من معهد النجاح في مدينة نابلس، ولم يتمكن من العودة إلى بلدته طوباس في الضفة الغربية عقب احتلالها من الجيش الإسرائيلي إثر هزيمة حزيران1967، فأضطرت زوجته وطفله كامل الالتحاق به في الشتات. حَرَص المعلم رفيق التاج على متابعة شؤون أسرته، وقد بات عدد أفرادها في تزايد، ومع ذلك لم يهمل قضايا الوطن المحتل، وظل يتفاعل مع أزمة اللاجئين في المنفى، وبخاصة نازحي الأردن ولاجئي لبنان عقب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية يوم 13 نيسان 1975، ودخول الفصائل الفلسطينية إلى محور الجمر وبيت النار. تأثر رفيق التاج بالمجازر التي استهدفت أبرياء مخيم تل الزعتر شرقي بيروت من أطفال ونساء وشيوخ، وسقوطه بقبضة الكتائب اللبنانية اليمينية يوم 12 آب 1976.
يستعيد محمد، رغم طفولته، الصورة الأخيرة لوالده منكباً على قراءة تفاصيل كتاب أثار دهشته، ويبدو أنه ساهم في رفع درجة انفعاله، وقضى والكتاب في يده. علم محمد بعد سنوات طويلة أن الكتاب كان يسرد تاريخ مخيم تل الزعتر ونشوئه وحصاره وشهادات الناجين من مجازر أوقعت ثلاثة آلاف ضحية فلسطينية ولبنانية، لكن محمد لم يعلم بعنوان الكتاب، علماً أن الممرضة السويدية إيفا شتال سردت ذكريات الحصار والصمود في كتاب صدر باللغة السويدية، والتقطت فيه لحظة سقوط قذيفة على بيتها في المخيم واستشهاد زوجها الفلسطيني يوسف حمد، وفقدان جنين في أحشائها، وقطع ذراعها، واصابة ساقها بضرر بالغ, وقد ترجم الكتاب إلى العربية سنة 1978، فيما سجل الدكتور عبد العزيز اللبدي يوميات طبيب في تل الزعتر. ربما وقع المعلم الطاهر على أحد الكتابين، وقرأ بحزن شهادات الناجين من المجزرة الدموية، وغادر حزيناً ليدفن في المنفى سنة 1980.
رفضت السعودية بعد وفاة المعلم بقاء أفراد عائلته على أرضها، غادرت قسراً إلى الأردن برفقة البكر كامل رفيق التاج الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره. عاشت الأرملة مع ثلاثة أبناء وبنتين ظروفاً قاسية في مدينة الزرقاء شرقي العاصمة عمان، وخفف من وطأة الاحتياج وفاء زملاء التعليم وأصدقاء المدرسة من معلمي فلسطين الذين اتخذوا قرارهم بتوفير احتياجات أسرة صديقهم الراحل، وقَطع الطريق على انكسارها.
الالتحاق بالمقاومة
شب الفتى محمد سريعاً، وغادر يافعاً إلى تونس سنة 1988 والتحق بجبهة التحرير الفلسطينية، وتلقى التدريب مع الأشبال في معسكرات المنظمة في الجزائر وسوريا والعراق، ودفعت والدته في الأردن ثمن خياراته. انشقت التحرير الفلسطينية عن الجبهة الشعبية- القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل عام 1976 عقب الخلاف على الموقف من الاجتياح السوري للبنان. قاد الانشقاق طلعت يعقوب قبل رحيله، ثم تسلم الراية القائد العسكري (أبو العباس) الذي وقع في قبضة الاحتلال الاميركي أثناء احتلال العراق، وتوفي في سجون بغداد عام 2004.
عاد محمد إلى الأردن عام 1989 بعد موافقة الاحتلال على طلب جمع شمل الأسرة تقدمت به جدته عام 1986 إلى سلطات الاحتلال، وتلقت موافقة على الطلب. وصل الأردن عائداً من العراق، وتابع طريق عودته إلى بلدته طوباس التي تسكنه لتبدأ رحلة الكفاح. عقب أربعة شهور على عودته أعتقل أواخر حزيران1989 وحكم بالسجن الفعلي ثلاث سنوات ونصف، بتهمة التدرب على السلاح في معسكرات المقاومة، والعلاقة مع خلية عسكرية. قضى معظم سنوات سجنه في معتقل جنين شمال الضفة الغربية، وتحرر نهاية 1992 بعد قضاء سنوات محكوميته.
مع اندلاع انتفاضة القدس يوم 28 أيلول 2000 استأنف نشاطه الكفاحي، وبات طريداً لقوات الاحتلال، حتى أعتقل في التاسع عشر من أيار 2003 عقب قيام الاحتلال باجتياح الضفة الغربية. قبيل اعتقاله بشهرين تمكن من ترتيب أمر زواجه، وعاش مع زوجته في ظروف سرية معقدة. اعتقل، وحكم بالسجن الفعلي خمسة عشر عاماً، وتنقل في معظم السجون، وبعد خمس سنوات على اعتقاله، ترك لزوجته حرية الخيار: الانفصال أو مواصلة الدرب القاسي معه، فأختارت الطلاق واحترم خيارها، وانفصل الزوجان.
نوبات السعال
تعرض مطلع تموز 2004، بعد سنة وشهرين على اعتقاله، إلى عملية تنكيل ورش بالغاز في سجن جلبوع، شمال إسرائيل، وبدأ مشوار المرض مع تفاقم معاناته الصحية بالتدريج يوماً بعد يوم.
لم تعترف عيادات السجون باصابات خطيرة استهدفت رئتيه، وظلت تكرر أن الرئتين سليمتان وبلا أمراض، ومع تزايد نوبات السعال، أقدمت إدارة معتقل النقب على تصويره طبقياً سنة 2012، لكنها ادعت أن النتائج ضاعت ولن تعثر عليها. بدأ يتعرض لنوبات سعال شديدة تمتد خمس عشرة دقيقة على الأقل، وتهاجمه سبع مرات كل يوم، وأشد النوبات صعوبة يستدرجها الليل وساعات الفجر. لم يعد قادراً على النوم المنتظم في ظل إهمال طبي متعمد، فقرر المواجهة:
أعلن محمد يوم 15 آذار 2012 إضراباً مفتوحاً عن الطعام بدأ في سجن شطة، شمال إسرائيل، تحت عنوان معاملة المعتقلين كأسرى حرب وفق اتفاقيات جنيف وبخاصة الثالثة والرابعة، ذلك أن إدارة السجون تطبق على الأسرى القانون الجنائي.
نقل الأسير إلى سجن جلبوع، الجلمة والرملة، وفي اليوم الثاني والثلاثين لاضرابه، خاض الأسرى يوم 17 نيسان إضراباً مفتوحاً عن الطعام في كل سجون الاحتلال، لكنهم توصلوا لاتفاق مع إدارة السجون وأنهوا اضرابهم بعد 28 يوماً من الصمود. رفض الأسير التاج إنهاء الاضراب، وقرر مواصلته حتى الاستجابة لمطلبه. نُقل من الرملة إلى الجلمة، وحاولت إدارة السجون كسر إضرابه: أحضر ضابط السجن حليباً، وحاول إجباره على شربه، ضرب كاس الحليب بيده، فأغرق الملابس العسكرية. هجم أفراد الحراسة على الأسير المقيّد وانهالوا بضرب وحشي، ومزقوا كل ملابسه، وربطوه عارياً لمدة ثلاثة أيام في زنزانة معزولة، ودخل في غيبوبة فاق منها ليكتشف عبوة جلوكوز معلقة في ذراعه، سحبها على الفور، وعندها قررت إدارة معتقل الجلمة اعادته إلى الرملة، وخاطبته: إذهب وموت هناك في سجن الرملة. واصل اضرابه المفتوح سبعة أيام أخرى، وفي اليوم السابع والستين على الصمود الأسطوري وافقت إدارة السجون على مطلبين: حق الأسير التاج بارتداء ملابس مدنية عادية، وليس أردية السجن البنية الداكنة التي تحمل وسم (مصلحة السجون). والموافقة أيضاً على عدم الوقوف أثناء العدد عندما ينفذ ضابط السجن عملية تعداد الأسرى، وتتم عادة ثلاث مرات في اليوم يضطر فيها الأسرى إلى الوقوف في غرفهم وزنازينهم. قضى أسبوعين في مشفى الرملة لتلقي العلاج من آثار الاضراب، ونقل إلى سجن (هداريم) شرقي مدينة يافا الساحلية.
تلقى في عام اشتداد مرضه، واكتشاف تليّف الرئتين وتفشي السرطان فيهما، نبأ وفاة شقيقه الأكبر كامل (أبو رفيق) سنة 2012 قبل أن يتجاوز أواسط الأربعينات من العمر، ثم استشهد سنة 2015 الشاب رفيق كامل (22 سنة) نجل ابن شقيقه الراحل قرب مفرق بلدة بيتا على طريق حوارة نابلس، بذريعة محاولة طعن جنود الاحتلال، فيما لا زال وسيم كامل (20 سنة) شقيق الشهيد رفيق موقوفاً في سجون الاحتلال منذ مطلع 2015.
الخيارات القاسية
أفاد أطباء السجون أن نسبة تليّف رئتي الأسير محمد لا تقل نسبتها عن 85 بالمائة، وتضمنت الإفادة تقدير الأطباء بأن الخيارات المتاحة أمام الأسير باتت محدودة: زرع رئة أو الموت في غضون ثمانية أشهر، ولا تستطيع إدارة السجون إجراء عملية زرع للأسير التاج، لكن يمكنه التنقل بانتظام من غرف السجن إلى العيادات والمستشفيات بأجهزة أوكسجين طوال الليل والنهار!
بعد استشهاد الأسير مّيسرة أبو حمدية (64 سنة) من الخليل داخل سجون الاحتلال يوم 2 نيسان 2013 بسبب قلة الرعاية الطبية، وعدم الاكتراث بتفشي مرضه الخبيث، بدا يلوح في الأفق اندلاع انتفاضة شعبية جديدة عنوانها الأسرى. أوصى ضباط استخبارات الاحتلال بضرورة تخفيف الضغط لتنفيس الاحتقان في السجون، والافراج عن أسرى بظروف صحية قاسية. وقّع شمعون بيرس رئيس دولة إسرائيل وتسيفي ليفني وزيرة العدل في تل أبيب قرار الافراج عن الأسير التاج، وتحرر يوم 18 نيسان 2013 بظروف صحية متردية. تزوج للمرة الثانية في آذار 2014 واستقر في بلدة بيتونيا غربي رام الله.
غادر إلى جمهورية الهند مطلع حزيران2015 بعد أشهر على عودته من تلقي علاج في النمسا، تحسن وضعه الصحي لكنه ظل يكابد أوجاعه حتى قرر الأطباء ضرورة زراعة رئتين وقلب حفاظاً على حياته. وصل مستشفى أبولو في ولاية تشيناي الهندية برفقة والدته وإبن أخته الطبيب خليل التاج ورائد عامر مندوب نادي الأسير. تكتظ الولاية الهندية بهندوس يؤمنون بتناسخ الأرواح، ولديهم استعداد للتبرع بالأعضاء لانقاذ أرواح بشرية تظل تنبض بالحياة في الإنسان؛ بغض النظر عن لونه ودينه وعرقه في مفارقة راهنة تستقطب الاحترام والتقدير، وتثبت أن القيم الأخلاقية ليست حكراً على أحد، بل يتشارك بها كل الأنقياء من البشر المسالمين على هذه الأرض الممزقة بأدوات رأس المال المتوحش. انتظر أربعة أشهر ونصف حتى أخبره فريق الأطباء بموت سريري لشاب هندي ثلاثيني: لا يدخن، ولا يتناول الكحول، وقضى في حادث سيّر مروع، وقد أبدت عائلة الشاب الهندي رغبتها بالتبرع بقلبه ورئتيه، دون اعتبار لهوية المتلقي أو حتى السؤال عن جنسيته ودينه وقوميته.
شهد محمد خلال أشهر مكوثه في العناية المكثفة قصص فشل مجموعة عمليات زرع القلب، وأبرزها لمهندس سوري في الثلاثين من عمره يقيم في الكويت، وقد وصل مع زوجته وكريمته آية ونجله عمر، وكان المهندس السوري حريصاً على زيارة التاج في العناية المشددة لاسناده، لكن عمليته الجراحية فشلت. تمسك محمد بالحياة من أجل مولودته آية، وقد بلغه أن زوجته الحامل أنجبت رضيعة يوم 29 أيلول 2015، ليدخل العملية الجراحية في التاسع عشر من تشرين أول. مكث ساعات طويلة تحت جراحة معقدة، وفاق من التخدير بعد تسجيل نجاح العملية طوال أسبوع، لكنه دخل في غيبوبة طوال ثلاثة أيام، شاهد فيها ثقباً أسود، وناجى السماء لتنقذه من أجل رضيعته آية، لعله يشاهدها، ويحضنها، ويفرح بقدومها. تغلب على غيبوبته بمعجزة السماء من أجل صغيرة بريئة تبحث عنه في أحلامها الطاهرة. عندما فتح عينيه، بحث فوراً عن صورة قلبه المزروع في جهازه الخليوي، وأدرك أن آية كانت شفيعة لوالدها عند الخالق عز وجّل.
عاد إلى الضفة المحتلة يوم 29 كانون أول2015 بعد ستة أشهر على أسّرة الشفاء في مستشفيات الهند، ودقق في ملامح صغيرته الجميلة التي كانت تحتفل بثلاثة أشهر على ميلادها وعودة والدها سالماً منتصراً على أوجاعه.
جَدَد طائر الرعد الفلسطيني قلبه ورئتيه ليظل يطير نحو الحرية قابضاً على جمر الانتصار؛ من أجل أن يشهد استقلال الوطن، وتحرر الأسرى والأسيرات، وعودة اللاجئين إلى ديارهم، لعل والده المعلم الأمين الطاهر، وشقيقه الحبيب كامل، وابن أخيه الشهيد رفيق؛ يرتاحون قليلا فوق نجمات غيابهم.