الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ابو احمد " لمعة " امام البوابة الحديدية في مخيم الدهيشة

نشر بتاريخ: 18/07/2016 ( آخر تحديث: 18/07/2016 الساعة: 10:57 )

الكاتب: عيسى قراقع

توفي مؤخرا ابو احمد الجعفري الملقب لمعة زوج المناضلة فاطمة الجعفري شقيقة الشهيد الاسير علي الجعفري، هذا العجوز ابن مخيم الدهيشة الذي يختصر كل الحكايات في نظراته الحادة وخطواته الواسعات، وهو يتخطى الزمن من نكبة الى أخرى حيث الموت والجوع والانتظار.

كان يجلس دائما على حصيرته امام البيت، دخلت اليه جنازة الشهيد علي الجعفري بعد خمسة عشرة عاما من احتجازها في مقابر الارقام ، الجثة لها رائحة اضراب سجن نفحة التاريخي، مليئة بالدم والسعال و الاشارات الابدية، ودخل اليه جنود الاحتلال وضباط المخابرات مئات المرات، اعتقلوه واعتقلوا زوجته، اعتقلوا اولاده واولاد الجيران ، ليتحول بيت ابو احمد الى ثكنة عسكرية مفتوحة دائما لجنود الاحتلال.

ابو احمد لمعة اللاجيء من قرية رافات، يحك الذكريات ويرفض النسيان، رفع علم فلسطين قبل علم وكالة الغوث، مزق الخرقة البيضاء ، ونصب كمينا من الحجارة فوق سطح البيت باتجاه القدس، مشيرا الى قبور الشهداء عبد الله تايه ، ومحمد ابو عكر والقائد المصري احمد عبد العزيز ، مسح الغبار والصدأ، وسرد الرواية الف مرة على الاطفال.

من بيت لمعة اشتعل غضب اللاجئين مظاهرات ومظاهرات، احرقت الاطارات، قذفت الزجاجات الحارقة، ومرّ منه ومن حوله المطاردين والمطلوبين ، اختبأ في حوش البيت المنتفضون، وسال دم وسقط جرحى وشهداء ، ومنه انطلقت الاناشيد والاغاني وطيارات الورق في السماء، وعلى مصطبته القى خليل زقطان قصيدته الغاضبة :

قسما بجوع اللاجئين وعري سكان الخيام
لنصارعن الموت من اجل الوصول الى المرام

ابو أحمد لمعة ودع مئات الشهداء من المخيم ، كانوا معه قبل قليل، شربوا الشاي بالميرمية، حملوا الحجارة واشتعلوا في الشوارع والازقة، جنازات المخيم تتوالد جنازات، ارواح الشهداء تتحرك في كل الكائنات ، يقول ابو احمد ذلك وهو يبتسم للحياة المتجددة.

يستقبل ابو احمد لمعة الاسرى المحررين من السجون، القادمين من معسكرات الفارعة والظاهرية وعتصيون والنقب، جيل يخرج من السجون وجيل يدخل اليه، وقد قال لي يوما: لقد وجدت مخيم الدهيشة جميعه قد انتقل الى سجن كتسعوت، لم يبق في المخيم سوى النساء، خوفي على ام احمد الآن.

يستمع ابو احمد لمعة الى صلاح عبد ربه المفرج عنه من سجن النقب ، عاد بقصيدته الانتفاضية التي سطرها في تلك الصحراء:
يا نقب كوني ارادة
كوني مجدا وريادة
كوني درسا
من دروس الانتفاضة

وأمام بيته الفقير يلقي محمد ابو لبن العائد من اضراب سجن عسقلان والذي استمر 45 يوما قصيدته الجوعى للحرية:

عسقلان عسقلان عسقلان
سطر التاريخ قل يا عسقلان
عن رجال عن جباه لا تهان

ابو احمد لمعة يخرج مع الناس لمواجهة (الحاخام ليفنغر) الذي عسكر امام المخيم في الانتفاضة الاولى، ويخرج مع الموج الهادر من البشر الى السياج الذي احاط بالمخيم وحوله الى سجن كبير، يقتلع سكان مخيم الدهيشة السياج، يمزق لمعة باصابعه النحيفات قضبان واسلاك الحديد، يهدمه ويلعنه، وقد امتلأت رئتيه بالغاز المسيل للدموع، وقدميه بالرصاصات الحية والمعدنية، ومنذ ذلك الوقت تعلم ان يبقى حيا ويزحف واثقا من عافية الروح.

ابو احمد لمعة يرفض المرور من بين اسنان البوابة الحديدية الالكترونية (المعاطة) والتي اقامها المحتلون كممر وحيد للداخل والخارج من سكان المخيم ، فنادى على الناس من كل الحارات ، حارة العجاجرة وحارة الجراشية وحارة العطابية، وحارة السفالوة، وحارة الزكاروة، وحارة الراسية، وحارة الولجية، وحارة البريجية، وحارة الدياربة، وحارة المزاهرة، حملت البلعاوية حجارة السناسل كلها، وبدأ الناس بتقطيع الاسلاك والمواسير الغليظة، صوت الشيخ ابو لبن يهدر من سماعة الجامع، القرى المهجرة تحز القضبان بمفاتيحها العتيقة.

كلمة السرّ في كل المواجهات في المخيم كانت لمعة ، هي التعليمات والايماءات والاشارات ، الى درجة ان المخابرات الاسرائيلية اعتقدت ان لمعة هو تنظيم سري او اسم حركي، وقد لمع لمعة برقا في ذلك الزمن الاصفر، زمن مخيم الدهيشة الذي لم يخضع ولا مرة لسلطة الاحتلال، لمعة صار حزبا او شعبا او يقين.

ابو احمد لمعة امام البوابة الحديدية في مخيم الدهيشة، يمنع ( ابو الفهد) ضابط الادارة المدنية الاسرائيلية، و(كريم) ضابط المخابرات الاسرائيلي من دخول المخيم، يظل صاحيا يلمع في تلك الليالي شديدة السواد، يسمع عن بعد دبيب بساطير الجنود وحركة سياراتهم العسكرية، يلمع كزيت مشتعل في بحر اللاجئين الفقراء.

ابو احمد لمعة توفي محمولا على اشتباكات كل المراحل، وقد وجدت تحت وسادته كلمات للشاعر التلحمي خليل توما يقول فيها:

الكبار يصيرون طعاما للارض
والصغار يحصدون
على لحم الرجال
يستطيل الشجر النابت في الغور
ليلقي ظله فوق الجبال