الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

خوارزمية الفساد

نشر بتاريخ: 19/07/2016 ( آخر تحديث: 19/07/2016 الساعة: 17:41 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض

لأني اكره البلاغة، هذه البلاغة الفارغة ذات الضجيج العالي، ذات القعقعة والقرقعة، التي ليست تحتها من شيء سوى اكوام الرداءة والخيبة والفشل، تلك البلاغة التي تقفز عن التفاصيل وتتفادى الاسئلة وتغطي على الاحراج والارتباك والافلاس، ولأني اكره هذه البلاغة التي هي مجرد رد لغوي طفولي على تحديات حقيقية يتم الالتفات عليها ولفلفتها، فانني اذهب رأساً إلى لغتي المتقشفة والفقيرة والعارية، لأقول أنني وقبل واحد وعشرين عاما كتبت مقالا بعنوان "كائن الفساد" في مجلة الميلاد، وكنت يومها سكرتير تحريرها، وكانت تصدر عن مكتب المؤسسات الوطنية، وحققت سمعة طيبة في حينه، واذكر أنني "مدحت" الفساد جدا في ذلك المقال، وقلت إنه كائن خفيف وناعم ومطلوب ولا يمكن الاستغناء عنه باعتباره جزءاً من الحياة الثقافية التي نحياها، فهو يخفف ويرمم ويسوي ويلطف ويدمج ويخفض التوتر ويقيس القوى الاجتماعية ويعبر عن التوجهات والتيارات ونوعية الشخصيات، الفساد بهذا المفهوم هو الطريقة التي يتم بها عرقلة الدولة أو المؤسسة، ويتم من خلاله احباط الحياة المدنية الحداثية ويحول المؤسسة الوطنية الى اضحوكة بيد القوى الخفية والعلنية وما بينهما.

الفساد الجميل لا يهدر المال أو الجهد أو الكفاءة بل هو يحفظ للمجتمع الزراعي والاقطاعي والحربي قواه الكامنة التي لا يستغلها في التنمية أو التحرير بل في اثبات الذات والحضور وقتل الناس بالمجان ليصبح ذلك مناسبة لشرب القهوة المرة. الفساد قبيلة من العصي والمصالح والتيارات، لتذهب الدولة أو المؤسسة إلى الجحيم. ليذهب مبدأ التنافس والكفاءة الى وادي ويل، هذا الوادي الذي تتعوذ منه الشياطين. ولأن هذه القضية شغلتني منذ زمن بعيد، فقد كتبت روايتين حول هذا الكائن الخفيف الذي تحتمل خفته وتستطاب روائحه ويستعذب جماله وانامله الطويلة والرفيعة والذكية والخفية.

كانت روايتي الاولى سنة 1997 بعنوان "مقامات العشاق والتجار" أما الثانية كانت سنة 1999 بعنوان "اخر القرن" ولكن صرخة المثقف في مجتمع مثل مجتمعنا تضيع ما دام هذا المثقف بدون قوة اجتماعية أو سياسية أو مالية أو غير ذلك من القوى التي تلعب بمجتمعنا كما تريد وكيف تريد وتحت كل المسميات التي تتوقعها ولا تتوقعها. ليس هناك من مثقف في مجتمعنا على طريقة مثقف غرامشي "المندمج" بل هو المستخدم، أو المثقف الماركسي "الثوري" بل هو مدجن، ولا على طريقة ادوارد سعيد "الرسولي" بل هو موظف، ولهذا فقد المثقف سلطته وادوات سلطته، فقد تخلى عن الاشتباك أو النقد أو التضحية، وحتى لا يفهم من كلامي انني اريد مثقفين شهداء أو انتحاريين، فانني اقول بعالي الصوت لا نريد اقامة الدين لا في مالطة ولا في غيرها، بل اريد أنا شخصياً - وهذا يلزمني فقط - أن اقيم الدين في قلبي، أن احفظ لحمي وشحمي من الحرام ما استطعت الى ذلك سبيلا.

ما مناسبة هذا الكلام؟! وما مناسبة هذا الغضب؟! لا شيء ابداً، ولكني مررت وما ازال بتجربة شخصية لمست فيها حجم هذا الفساد الجميل والناعم والخفي، لمست فيها كيف تستخدم الصيغة القانونية لتعطيل القانون ذاته، وكيف يتم استبعاد الكفاءة من اجل مؤخرة رجراجة، وكيف يتم اهدار الجهد والوقت والانجاز من اجل ارضاء شخصٍ ذي "حيثية"، وحتى اكون دقيقاً هنا فإن الحيثية هذه تعني كل شيء في زمن تداخلت فيه الالوان والخنادق والقلوب والجيوب وحتى الثقوب الحيثية هنا لا تعرف بالضبط معناها، فهي القبيلة إن شئت، وهي الحزب إن شئت، وهي المال إن شئت، وهي "غير ذلك" إن شئت. في ظرف تاريخي مثل تاريخنا، تاريخ سائل ومضطرب ضاعت فيه السقوف والنماذج والمثل، فإن شخصيات هذا التاريخ هي شخصيات سائلة ايضا، تحب الاواني المستطرقة أو قل هي صانعتها أيضا.

مناسبة هذا الكلام انني رغبت في اختراع خوارزمية الفساد الدائمة والابدية، حتى يقيس كل فرد منّا نفسه حسب كمياتها المتصلة والمنفصلة. خوازمية تحول الخفي الى علني، والمجرد الى محسوس، والمنفصل الى متصل، وقد فتح الله لي بأن اصل الى هذه النتيجة "ف = معامل الفساد (م/2 ق/ج 3د 10ض)"
حيث ف هو الفساد، و(م) هي المصلحة مقسومة على طرفي الفساد، و(ق) هي قلة الدين والاخلاق مقسومة على (ج) وهي المجتمع بأكمله وحيث (د) هي الدولة مضروبة بالسلطات الثلاث الغائبة وحيث (ض) الضعف والشهوة والخوف مضروبا بعشرة لان كل ذلك مما تنتجه الاوهام والخيالات المريضة،
اما معامل الفساد فهو متغير حسب المجتمعات والجماعات والشعوب، فهو يزيد لدى المجتمعات الذكية والفهلوية والشكاكة المتوجسة والشاطرة والمشطورة، ويقل لدى الشعوب الغبية الفقيرة التي تضع الطيارات وحاملاتها والموبايلات وشاحناتها والصواريخ ومنصاتها.. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.