الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

العاطفة في ديوان لاجئة في وطن الحداد

نشر بتاريخ: 27/07/2016 ( آخر تحديث: 27/07/2016 الساعة: 15:34 )

الكاتب: عبد الله دعيس

ما أن يشرع القارئ بتصفّح ديوان (لاجئة في وطن الحداد) للشاعرة سلمى جبران، والذي قسّمته إلى أربع مجموعات، ووصفته أنّه سيرة شعرية، حتّى يدور مع الشاعرة في دائرة الفقدان، والتي تظهر معالمها في كل قصيدة من قصائد الديوان، وعندما يهمّ بالحلم خارج الدائرة تجذبه متاهة الحبّ، ويقف يتأمّل حوار الشاعرة لذاتها، ليعود ويدور في نفس الدائرة، ويجد نفسه يصاحب الشاعرة بكامل أحاسيسه ومشاعره في رحلة اللجوء في وطن الحداد. 

هناك يجد امرأة تحمل أحلام الطفولة وعشق الصبا، تتلوّع بمرارة فقدان المحبّ، وتتلقّى سهام الحقد والحسد والشكّ ممّن يحيط بها، لتواجهها بروح المحبّة والإيمان، وتبقى متعالية على أدران الحقد مهما لحقها الأذى، ولتكون أمّا لأطفال فقدوا الأب، وتتحلّى بوفاء وإخلاص قلّ نظيره. سيرة رائعة لامرأة، عنوانها الحبّ والإخلاص وسلاحها الأيمان والصلاة، ورحلة مثيرة على أجنحة انفعالات الشاعرة وأحاسيسها وعواطفها الصادقة التي لا تخبو عبر قصائد الديوان العديدة.

تظهر العاطفة قويّة جليّة منذ أولى قصائد الديوان، وتستمرّ العاطفة بنفس القوّة حتى نهاية أجزائه الأربعة. تحيك الشاعرة دائرة الفقدان منذ قصائدها الأولى، فتشير إلى مواطن الحبّ في هذه الطريق وإلى دروب الآلام فيها، فيبدو حب الأرض والبساتين والهوى الذي عشش في فؤادها مذ كانت طفلة سعيدة به، ثم حياة ملؤها السعادة والعطاء، لتؤول إلى دروب الحياة الوعرة التي سلبتها حبيبها، لكنّها لم تسلبها الحبّ الكبير الذي تحمله في قلبها، ويبدأ البكاء، وتطغى عاطفة الألم والحزن، لكنّها لا تلبث أن تعود إلى ذكريات الطفولة وإلى ينابيع الوفاء والحبّ الكبير الذي يلبث في الفؤاد حتى ولو غاب جسد الحبيب، وتعود لتستقي من ينابيع الحبّ وتدور في هذه الدائرة قويّة مستعصية على الألم، مستمدّة القوة من ماضيها وإخلاصها وحبها وإيمانها بخالقها. 

فتخاطب حبيبها الذي غيّبه الموت فتقول:
يا حبيبي أنا لم أبقَ
وحيدة
أنت نور في فؤادي
أنت دمع وحياة
وقصيدة
أنت حلم لم يمت
أنت لحن يُطرب القلب
يغنّيه نشيده

فالعاطفة في ديوان سلمى جبران هي العنصر الأبرز والأكثر طغيانا على قصائدها، وأهمها عاطفة الحبّ: حبّ الزوج الراحل، وحب الأطفال، كما حبّ الوطن ورائحة ترابه بعد أمطار الخريف، وحبّها للحريّة والحياة، وحبّ الإله الخالق الذي يصاحبها ويعطيها القوّة والمحبّة التي تدفع بها الحقد. أما العاطفة الغائبة عن قصائدها فهي الكراهيّة، فبالرغم مما وصفته الشاعرة من إحاطة الحاقدين بها، وانتقادهم لها ولأسلوب حياتها، وتعرّضهم لها، إلا أنّها تواجههم دائما بالمحبّة، ولا يتسلل ولو في كلمة من كلماتها معنى يشي بكراهيتها أو يدفع القارئ إلى الكراهية؛ فكلماتها عنوانها المحبّة التي دائما ما تهزم الحقد والحاقدين.

أما عاطفة الحزن فهي حاضرة بارزة بقوّة في أنحاء الديوان، تنطق بها أحاسيس الشاعرة عندما تعبّر عمّا يجول في خاطرها، وتتدفّق مع انفعالاتها وكلماتها، لكنّ هذا الحزن لا تصاحبه نظرة سوداويّة، ولا يدعو إلى اليأس والقنوط. ومع أنّ سلمى جبران فاقت الخنساء في بكائها صخرا، إلا أنّ حزنها لم يكن رثاء بقدر ما كان ترسيخا لمعنى الحبّ والوفاء والتعالي على الحقد والتعلّق بالخالق. فعاطفة الحزن عند سلمى جبران مستوحاة من معاناة صادقة حقيقيّة.

يعود لي عشقي
فتنهض الأوجاع
من جديد
وأكتم الدموع
فدورة الحياة في
عواطفي قاسية
ودمعتي احتضارها أليم

والشاعرة قادرة على إثارة العاطفة في نفس القارئ بشكل جليّ، فهي تنقله إلى عالم مليء بالعواطف التي تتميّز بالصدق، حيث يشعر المتلقي بالعاطفة تتدفق مع كل كلمة من كلمات القصيدة ويعيشها بمشاعره ووجدانه. والعاطفة قويّة واضحة جليّة، حتّى أنها تطغى على النصّ الشعريّ وتسيطر على مشاعر السامع أو القارئ، وهي ثابتة تتكرّر في قصائدها، مع أنّ عدد القصائد كبير جدا، ولا تخبو في نفس القارئ حتّى بعد أن يقرأ عددا كبيرا من النصوص التي تدور حول نفس الموضوع وفي نفس الدائرة، لكنّها تبقى تثير نفس العاطفة بنفس القوة والاشتعال. والعاطفة في قصائد سلمى جبران تتصف بالسموّ، فهي تبثّ العواطف الإيجابيّة وتتعالى على العواطف السلبيّة، فهي تترفع عن الكراهيّة والحقد وحب الانتقام.

محبّتي للناس قد زرعتها
في داخلي فأورقت
فلن تقتلها الأحقادُ
لن يهلكها الزمان

وعاطفة الأمومة لديها قويّة متأجّجة، فتشتعل قصائدها بحنوّها على الأبناء، والذين تهبهم حنان الأمّ وحنان الأبّ الذي واراه التراب. وتتميّز قصائد سلمى جبران بالعاطفة الدينيّة الجيّاشة، فهي تلجأ إلى الله في كل حين، وعند كل خطب، وتستمدّ قوّتها منه، وعندما تتفاقم الخطوب تعود إلى "بذرة حب تحميها أيد ربّانية." 

وانبرت القبيلةُ
من كؤوس السم تسقيني
ولكنّي أحس بأن
في قلبي محبة خالقي
تمتص من نفسي
سمومهم وتحييني

والشاعرة تركّز على مشاعرها الذاتية وترى العالم من خلال نفسها. أما المتلقي فلا يجد مشقّة في متابعة معاني الشاعرة والتأثر بعواطفها والدخول إلى أعماقها من خلال كلماتها البسيطة، ولغتها العذبة الرقراقة التي تبتعد عن الصور الشعريّة المركبة المعقّدة وتنساب بعفويّة وبموسيقى ممتعة للأذن والروح.