نشر بتاريخ: 21/08/2016 ( آخر تحديث: 21/08/2016 الساعة: 10:13 )
الكاتب: رائد محمد الدبعي
لم يتردد ديفيد بن غوريون أول رئيس لوزراء الكيان الصهيوني لحظة قبل إصدار أوامره لقوات " الهاجاناه" ، التي كانت تمثل الجيش الرسمي للكيان الناشىء بإغراق السفينة " التالينا " يوم الثلاثاء 22 يوليو 1948، والتي حاولت عصابة أرغون الصهيونية إدخالها إلى شواطىء فلسطين، لتحسين وضعهم القتالي مقابل الجيوش العربية، وللتمهيد لاحتلال القدس، وتحقيق أفضلية نوعية للعصابات الصهيونية في احتلالها لفلسطين، وعلى الرغم من أن السفينة كانت تحمل على ظهرها خمسة آلاف بندقية بريطانية، وما يزيد عن ثلاثة مليون طلقة بندقية، ومائتين وخمسين بندقية من طراز ستن، ومائة وخمسين بندقية آلية من طراز سبانداو، وخمسين مدفع مورتر، وخمسة آلاف قذيفة، وطنا من مادة ال" تي ان تي " شديدة التفجير، وتسعمائمة وأربعين متطوعا للقتال إلى جانب الحركة الصهيونية في احتلالها لفلسطين، إلا أن بنغوريون أصر على قصفها، وإغراقها في البحر، رافضا أي مساومة حول حمولة السفينة، بما في ذلك حصول قواته على 80% منها، أو حصولها على كامل الحمولة مقابل منح مقاتلي الأرغون الذين انضموا مؤخرا إلى جيش الاحتلال وضعا تفضيليا في توزيع الأسلحة، مما نتج عنه مقتل أربعة عشر يهوديا ممن كانوا على متنها، كان من الممكن أن يكون "مناحيم بيجن" أحدهم، لولا حسن حظه الذي أنقذه من القصف الذي تواصل على السفينة حتى غرقها بالكامل، وإصابة تسع وتسعين آخرين، ومقتل جنديين من قوات "الهاجاناه".
تُرى ما هو السبب الذي حذى ببن غوريون لإتخاذ هذا القرار الحاسم، في ظل حاجة قواته لكل رصاصة في معركتها ضد الجيوش العربية، واحتلالها لفلسطين، متخطيا كافة المحاذير الدينية والمواريث الثقافية التي تمجد العرق اليهودي، الم يكن يعلم جيدا أن إقدامه على اتخاذ هذا القرار سيقود لا محالة إلى مقارنة الدماء اليهودية التي أريقت بدماء ضحايا "المحرقة " من اليهود، ، والتي كان ضجيجها لا يزال ماثلا بكل ثقلها في حياة اليهود، بل وفي تجربة نسبة كبيرة منهم، مما قد يجعل منه هتلرا جديدا في الذاكرة اليهودية، وهل يمكن لشخص يمثل شبه إجماع من قبل يهود العالم على قيادته لهم، أن يغفل عن أهمية شق كيانه الجديد لخطواته الأولى في ظل وحدة داخلية، وتحاشي التورط في حرب أهلية، فيما كان العدو الممثل بالفلسطينيين والجيوش العربية على الأبواب ؟
أثبت التاريخ أن قرار بن غوريون كان صائبا، إذ أن تلك الحادثة قد طوت إلى الأبد، صفحة تعدد السلطات، وتجاوز الشرعيات، والصراع العنفي على الحكم، مما أسس لاستقرار حكومي في وسط غير متجانس، وقاد إلى حسم جدلية تقلد الحكم، وحصره بصندوق الاقتراع، ومهد لوضع أسس للعلاقة بين السلطات، يقوم على استقلالها، واحترام الحد الفاصل الذي يربط بين كل منها، على مبدأ الحقوق والواجبات.
أعادتني الأحداث في نابلس خلال الشهرين الماضيين إلى قصة السفينة " التالينا "، إذ أن السلطة الوطنية الفلسطينية، ومنذ تأسيسها عام 1994، تعاطت مع ملف الفلتان الأمني بأيدي رخوة، وبطريقة ضبابية، وأساليب قبلية، انتصر بها منطق " الطبطبة " على القانون، وأسلوب دفن الرأس بالرمال على الحسم والجدية، تحت حجج ومبررات واهية، إذ أن جميع المبررات الساذجة قد أثبتت سقوطها المدوي أمام عناد الحقائق، وها هو غول الفلتان الأمني ، والعسكرة، والبلطجة، يهدد أمننا الأهلي، ونسيجنا المجتمعي، وها هي نتائج العسكرة، وفوضى السلاح، وحماية المنفلتين، والتوسط لهم، وإمدادهم بالمال، والسطوة، والحماية، تطغى اليوم على المشهد العام، لتهدد أحلام أطفالنا، وحق مواطنينا بنوم هادىء، وحياة مستقرة، إذ لم يكن لحالة الانقسام الدامي في قطاع غزة أن تكون لو كانت سواعد من يطبق الأمن والقانون قابضة على زناد العزم والإصرار على وحدانية السلطة، ورفض تعدد الشرعيات، وما كان لما حدث في نابلس من أحداث مؤسفة أن يحدث لولا التراخي والمحاباة في تطبيق القانون، فكم من جريمة اقترفت في الوطن، ولا زال مقترفيها طلقاء على الرغم من معرفة المسؤولين عن تطبيق العدالة بهم.
وحتى نرى المشهد بصورة شمولية، فلا بد من أن نضع الأمور في نصابها الصحيح، فليس صحيحا أن المحتل وحده هو المحفز الوحيد للجريمة والداعم لها، إذ يجب علينا أن نعترف أن الفلتان، وانعدام الأمن هو نتاج تربية، ثقافة تقوم على العنف، والتمرد على القوانين، والقيم السليمة، وتتغذى على ضعفنا، وسلبيتنا، ونفاق فئات كبيرة منا للمنفلتين، - جرب بنفسك، وادخل إلى أحد صفحات رموز الفلتان الأمني في منطقتك، واجمع حجم النفاق الذي يحظى به، ثم قارنه بما يحظى به أحد الشخصيات الأكاديمية، من أصدقائك بذات الطريقة، ستجد بنفسك حجم الخلل الأخلاقي الذي يعتري مجتمعنا، وستصل إلى نتيجة مؤداها أن مجتمعنا بأكمله شريك في الجريمة.
ما آلت إليه أمور نابلس وغيرها من المدن، ما هو إلا نتيجة طبيعية لثقافة شاذة، بعيدة كل البعد عن قيم شعبنا، وطبيعة أهله الطيبين، وضع أسسها مجموعة من المنتفعين من حالة الفلتان، وانعدام الأمن، وهو الأمر الذي يستوجب منا جميعا، أن نتداعى لحوار أهلي شامل، يضم إلى جانب المؤسسة الرسمية، الشخصيات الاعتبارية، والإعلاميين، والمؤسسات التربوية، ورجال الدين، وكل القوى الفاعلة في المجتمع، لوضع خريطة طريق مجتمعية، واليات ضمان تطبيقها، من خلال الحسم والجدية من جهة، وتكامل دور قطاعات المجتمع الأهلي والمحلي، والعائلات المسؤولة عن تربية أبنائها من جهة أخرى، إذ أن جهود المؤسسة الأمنية على أهميتها، بحاجة إلى أن تسند بجهود مختلف قطاعات المجتمع الأخرى لكي تستطيع تحقيق أهدافها بشكل فاعل، فالفلتان والفوضى يواجهان بالامل، وتوفير فرص عمل مناسبة للشباب، والتوعية، وبناء النوادي الشبابية، وتوفير منح دراسية، وحدائق العامة، وملاعب الرياضية، ومحاربة الجهل، والتحزب، والعنصرية.