نشر بتاريخ: 21/08/2016 ( آخر تحديث: 21/08/2016 الساعة: 10:09 )
الكاتب: حيدر عيد
انتشر في الأسبوعين المنصرمين عملان دعائيان لحركة حماس، رسم كرتوني والآخر فيديو كليب، يُدّعى أنه من شباب غزة يشكرون به الحركة على إنجازاتها العديدة خلال فترة حكمها للقطاع المحاصر.
الرسم الكاريكاتيري لرسام تُنشر له رسومات أحياناً في بعض وسائل الاعلام المحسوبة على حركة حماس. وكانت بعض الرسومات السابقة له قد خلقت حالة من عدم الارتياح بين معظم أبناء الشعب الفلسطيني حيث كان قد رسم سيدة فلسطينية، تمثل الضفة الغربية، تتعرض لاعتداء جنسي من قبل جندي إسرائيلي وبدت مستسلمة له، بل مستمتعة، فيما يقوم الجندي بقتل أطفالها أمامها. وفي رسم آخر يظهر بعض المرابطين على حدود غزة، وباقي أبناء الشعب يشربون النرجيلة غير عابئين بما يحصل.فقط أبناء الحزب هم من يقاوم.
ثم يأتي الرسم الأخير الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ويسلط فيه الضوء على الانتخابات المحلية الفلسطينية المقبلة، و كان قد علق عليه: "الفلسطيني المسلم لا ينتخب العلمانيين الكفرة!" و يظهر شبان من أبناء حركة فتح، حيث يلبسون ملابس صفراء، ويصورهم كمجموعة من الشباب "الدشر" يقومون بملاحقة فتاة محجبة والتحرش بها، أحدهم يدخن النرجيلة، والثاني يجر حماراً ويدخن سيجارة ويرتدي بنطالاً ساحلاً، والثالث يقوم بتصوير الفتاة عبر جهازه المحمول. وقام الرسام بكتابة ما اعتبره موقف الشعب الفلسطيني الذي يمثله: "شعب فلسطين بريء من سبابين الرب و الدين."
أليست هذه الرسومات المسموح بها، و التي تأخذ عدداً هائلاً من اللايكات على صفحة الرسام، دليلاً على تسلط الفكر السلفي الوهابي على العقل المهيمن في غزة؟ ألا يوجد مزاج سائد معادٍ للفن والإبداع في غزة بالضبط كما يوجد في المملكة العربية الوهابية؟ هل يوجد أصلاً مشهد ثقافي في غزة؟ ألم يقم ابن غزة، الفائز بالمرتبة الأولى في برنامج محبوب العرب، بالتصريح أنه لن يسمح لأخته بالغناء كونها فتاة؟ ألم يُمنع هو نفسه من الغناء في غزة أكثر من مرة؟
إن تكرار النفي المطلق لأي آخر وطني هو السائد في رسومات هذا "الفنان". و لكن الحركة ادعت أن هذه الرسومات الإقصائية لا تعبر عن موقفها، وبالتالي يبرز سؤال محوري: هل كان يستطيع أي رسام كاريكاتير غير حمساوي، مثلا، استخدام نفس الأسلوب في القذف بحقها بنفس الطريقة؟
وفي إطار نفس الدعاية الانتخابية ظهر فيديو "شكراً حماس" الذي أظهر غزة الافتراضية تحت حكم الحركة وكأنها بالضبط ما سعت اتفاقيات أوسلو في بداية التسعينيات من القرن المنصرم لترويجه عن "سنغافورة الشرق الأوسط." غزة الافتراضية التي يتوجب شكر حماس عليها توفر لشعبها الشوارع النظيفة،ويعيش سكانها في بيوت وكأنها فنادق 5 نجوم، كل رجالها ونسائها يعيشون حالة من الفرح والتفاؤل لا تجدها حتى في النرويج!
والحقيقة أن هذا الفيديو هو التجسيد العملي للحياة في عالم افتراضي لا علاقة له بالواقع، ومن ثم الإيمان أنه الواقع الموضوعي المعاش. وبالتالي فإن أي نقد لهذا الخيال الافتراضي ما هو إلا تعبير عن "ضغينة" و "كره" للنجاحات الباهرة التي تم إنجازها خلال العشر سنوات الأخيرة. والحقيقة أن هذا الفيديو الترفيهيموجه بالذات للجيل الجديد وصغار السن، ويعمل على تخديره وابعاده عن اي محاولة لفهم الواقع المعيشي الصعب وطبيعةالاضطهاد المركب الذي يعاني منه ويتحتم عليه مواجهته.
وكانت بعض الأصوات النقدية قد حذرت منذ إطلاق هذا الفيديو كليب أنه هدية مجانية على طبق من ذهب للهسبراه الإسرائيلية (الدعاية المضادة.)كيف ندعي بعد اليوم أننا تحت حصار إبادي,، مروراً بثلاث حروب- أيضا إبادية,- قضت على البنية التحتية من ماء وكهرباء ومصانع.ريتشارد فولك مقرر الأمم المتحدة السابق في الأراضي المحتلة وصف الحصار عام ٢٠٠٧ بمقدمة لإبادة جماعية،وإلان بابيه، المؤرخ الاسرائيلي يسميه "إبادة بطيئة،"فيما تقرير هام للأمم المتحدة يؤكد بدلائل وقرائن ملموسة أن غزة ستصبح غير قابلة للحياة عام ٢٠٢٠، وان٨٠% من سكان القطاع يتلقون مساعدات من منظمات دولية.
وكما توقعت هذه الأصوات النقدية، اقتنصت الصحافة الاسرائيلية هذا الفرصة الذهبية وبدأت بالترويج لأكذوبة أنه لا يوجد حصار على غزة. أكبر الصحف اليمينية في إسرائيل، يديعوت أحرونوت قالت:
"هذا الاسبوع نشرت حماس شريطا تعرض فيه انجازاتها في قطاع غزة، بهدف تحسين مكانتها بين سكان القطاع وابراز قدراتها في مجال العمل البلدي امام سكان الضفة الغربية ولكن مشاهدة الشريط تظهر ان حماس قررت تسويق قطاع غزة كأحد الاماكن الاكثر ملائمة للسكن في الشرق الاوسط. ويعرض الشريط بوتيرة عالية قطاع غزة كمنطقة مزدهرة، مع مباني مثيرة للانطباع، واحياء جديدة ونامية ومتنزهات مترامية الاطراف، وساحات وبحيرات وشمس واناس يبتسمون في اماكن مختلفة في القطاع وهم يحملون لافتات كتب عليها "شكرا حماس"... يعتبر هذا الشريط شاذا ليس فقط بسبب الصورة التي يحاول خلقها، وانما في الأساس لأن الحركة دأبت حتى اليوم على عرض افلام عن القطاع كمنطقة خاضعة للحصار، او حسب تعريفها "اكبر سجن في العالم". ولكن في الشريط الجديد اختفت الاحياء التي تم ابرازها في افلام حماس في السنوات الاخيرة، كحي الشجاعية المدمر، وحي الزيتون الفقير ومخيمات اللاجئين المهملة، كالبريج وجباليا"
وهكذا وقعنا في فخ الديماغوجيا الدعائية، السائدة هذه الأيام، وهي مؤشر على الانحدار الفكري المختلط بانتهازية فئوية، الديماغوجيا التي جمّلت عالماً صنعته الأيديولوجيا الحزبية الضيقة، عالم يراه و يستمتع به أعضاء وأنصارالحزب وحدهم، عالم سوغ فيه الحزب العادات والتقاليد وشكل فيه الدين والعقيدة لتتماشى جميعاً ورغباته وتلبي احتياجاته ومصالحه. انه عالم لا يستطيع الإنسان العادي أن يراه أو يشعر به لأنه و بكل بساطه إما حاقد، أو "علماني كافر."
كل هذا من أجل الفوز في انتخابات بلديةتحت حراب الاحتلال الذي لن يمكن المجلس المنتخب من تنفيذ أي من وعوده الانتخابية. هذه الانتخابات التي تأتي تحت حصار خانق ضد سكان قطاع غزة، وبالتالي تأخذ طابعاً هزلياً يقرر الاحتلال إمكانية نجاح الفائزين بها، إذا لم يكونوا معارضين أومقاومين لسياساته. كما أنها تأخذ طابعا فصائليا لتوجهات سبق وأن أُعطيت عدة فرص أثبتت خلالها عدم مهنيتها وفشلها الذريع في تحقيق ما وعدت ناخبيها به، ناهيك عن تغليب الحزبي لدى البعض منها على الوطني.
فبدلاً من العمل، كحركة مقاومة لشعب يرزح تحت إحتلال عسكري ونظام أبارتهيد واستعمار استيطاني، على خلق برنامج يحقق التعايش بين جميع الوان الطيف السياسي على قدم المساواة بعيدا عن الثنائية الفصائلية الإقصائية، على أساس مهني بحت يأخذ المصلحة الوطنية العامة فقط كنبراس للعمل،وحكم يفتخر بالتنوع الفكري ويشجعه، تأتي هذه الأعمال "الفنية" الإقصائية لتعكس حالة جماعية تتسم بإنكار كامل للواقع المعاش،بارانويا مزمنة، هوس من كل ما هو آخر و إيمان يقيني بأن "فصيلي هو الأفضلكونه الأكثر إيماناً،بينما الآخرين كفرة علمانين!"