نشر بتاريخ: 28/08/2016 ( آخر تحديث: 28/08/2016 الساعة: 10:36 )
الكاتب: رائد محمد الدبعي
تحن نابلس اليوم التي تضرب جذورها عميقا في قلب التاريخ لما يزيد عن 5600 عام، إلى حقب العز التي سطرها مواطنوها خلال مختلف العصور، والتي جعلت منها منارة للمقاومة والنضال والمعرفة والأدب، يهتدي بها كل الباحثين عن الحرية، إذ استبسل أهلها الكنعانيون في مقاومة الغزاة الذين تواتروا على احتلالها من الفراعنة، والقبائل العبرية، والآشوريين، والاَبليين، والفارسيين، واليونانيين، والرومان، والفرنجة، كما أنهم شقوا عصا الطاعة على سياسات إبراهيم باشا، حينما فرض على أهلها التجنيد الإجباري، والضرائب الباهظة، وفي واديها سقط جيش نابليون الغازي، واندحر مهزوما، إذ قال المؤرخ الفرنسي " ادوارد لوكرو" عنها " وأخيرا فشل نابليون بسبب بطولة وصمود أبناءها" كما تصدى أهل نابلس للعديد من السياسات العثمانية القائمة على المركزية، وتهميش دور المواطنين في اتخاذ القرار.
كان لنابلس السبق في تأسيس الجمعيات الإسلامية المسيحية، التي تصدت للمشروع الصهيوني التوسعي في فلسطين، بعد سقوط الدولة العثمانية، ووقوعها تحت الإحتلال البريطاني، وبها تأسست جمعية مكافحة الصهيونية عام 1913 ، وهي من أوائل الجمعيات التي قاومت المشروع الصهيوني التوسعي، الذي بدأت ملامحه بالتشكل في تلك الحقبة، كما أن جمعية نابلس التي غيرت اسمها للجمعية الوطنية العربية لاحقا، كانت من طلائع المؤسسات الوطنية التي تشكلت بعد الإحتلال البريطاني مباشرة، وقد كانت من أكثر الجمعيات نشاطا، وتعبئة للجماهير حول مخططات الحركة الصهيونية في فلسطين، ورفضا لتعيين "هربرت صموئيل" مندوباً سامياً، من خلال تنظيم الفعاليات الجماهيرية، ونشر المقالات التي تعبر عن الإرادة الجمعية للمواطنين بالصحف والمجلات، وعندما عقد المؤتمر الفلسطيني العربي الأول في القدس عام 1919، إنتخب محمد عزت دروزة سكرتيرا عاما له، كما عقد الإجتماع الثاني له في نابلس بعد ثلاثة أشهر، ومنها وجهت رسائل باسم الشعب الفلسطيني إلى مختلف الدول للمطالبة باستقلال فلسطين، ونابلس هي التي استضافت المؤتمر الفلسطيني الخامس عام 1922 في مبنى المنشية، الذي هو اليوم مكتبة المدينة العامة، الذي تم فيه انتخاب توفيق حماد نائبا لموسى كاظم الحسيني الذي انتخب رئيسا للمؤتمر، وفيه تقرر رفض الإنتداب والدستور، ومقاطعة انتخابات المجلس التشريعي، وعدم الاشتراك في مشروع روتنبرغ للكهرباء، والمطالبة بإصدار طوابع عليها شعارات فلسطينية، ومقاطعة الصهاينة في البيع والشراء، وبه تشكلت لجنة تنفيذية للعمل على تنفيذ القرارات، ومن نابلس انطلقت كبرى المظاهرات الإحتجاجية على بيع أراض في سهل بيسان للمشروع الصهيوني عام 1911، كما شاركت قيادات نابلس في إرسال أول وفد إلى لندن بتاريخ 25 حزيران سنة 1921 للمطالبة باستقلال فلسطين ووقف الهجرة اليهودية، وقد دفعت نابلس في سفرهم 1000 جنيه، وحينما تم اعتقال أكرم زعيتر عام 1936، هب الريف النابلسي مهاجما مراكز الإنجليز في كل مكان، مما جعل نابلس وأخبارها في صدر الصحف العربية، التي وصفتها " ببلد الوطنية " ، لما عرف عن أهلها من التمرد على الظلم والعدوان.
وللحركة النسوية النابلسية باع طويل في مسيرة النضال، إذ تأسست " الجمعية النسائية" ، في مدينة نابلس سنة 1921، برئاسة مريم عبد الغني هاشم، وكان لها بصمة جلية إبان ثورة 1929، من خلال إمداد المجاهدين بالمال والأسلحة، وتبني الإشراف على أسر الشهداء، والوقوف إلى جانب الرجال في قيادة الأنشطة النضالية، والمطالبة بالإستقلال، كما تـأسس "الإتحاد النسائي" في مدينة نابلس وسجل في سجل الجمعيات عام 1945 برئاسة عندليب العمد.
وكان لشباب نابلس وطلبتها دورا قياديا في توجيه النضال الوطني، إذ عقد المؤتمر الثاني لطلبة فلسطين في نابلس عام 1931، بمشاركة آلاف الطلبة من مختلف مناطق الوطن، وفيه تم التأكيد على عروبة فلسطين، ورفض المشروع الصهيوني التوسعي العنصري.
كما أن العديد من الوثائق ومنها وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية لأكرم زعيتر، تشي بحجم الدور النضالي لنابلس في توجيه الرأي العام، وقيادة الشارع الفلسطيني بأكمله، إذ يشير بأن قرار إنشاء اللجنة القومية للإشراف على سير الحركة الوطنية عام 1936، وإعلان الإضراب العام اتخذ في نابلس، وتوسع ليشمل باقي الوطن، وهو الأمر الذي تنبهت له قوات الإحتلال البريطاني، التي ركزت قمعها في نابلس ويافا والقدس، كونها شكلت موجها، ورافعة للحركة الوطنية الفلسطينية.
وقد كان لنابلس دورا محوريا في الكثير من القرارات الحاسمة التي اتخذت بعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس في حزيران عام 1967، فمنها صدر قرار استئناف الدراسة، بعد أن توقفت بسبب الإحتلال، مما ساهم في عودة عشرات الاَلاَف من الأسر إلى الوطن، بعد أن انتقلوا للدول المجاورة لتعليم أولادهم، وبوعي رئيس بلديتها حمدي كنعان، ومجلسها البلدي، تم تثبيت المواطنين في نابلس، وأوقف مشروع المحتل بتهجير شعبنا، بالاضافة إلى أن بقاء قلقيلية حتى اليوم بوجهها الكنعاني الفلسطيني، يعود لهؤلاء الرجال، ووعيهم ، إذ أن مخطط الإحتلال كان يقوم على ضم قلقيلية بعد أن فجر ما يزيد عن 90% من مبانيها، إلا ان قرار بلدية نابلس بإعادة إصلاح شبكتي المياه والكهرباء، وعودة المواطنين إلى بيوتهم ساهم في الحفاظ على المدينة وتثبيت المواطنين في الوطن.
كما أن لنابلس ببلدتها القديمة، وريفها الصامد حكايا وذكريات في تأسيس الخلايا الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة، ولعل حوش العطعوط في البلدة القديمة، وقرية بيت فوريك، وكهوفها، شاهدة على ذلك، هذا بالإضافة إلى الدور الكبير الذي لعبته نابلس، ومخيماتها على وجه الخصوص، في إطلاق الإنتفاضة الشعبية عام 1987، إذ ساهم مخيم بلاطة في تغيير صورة المخيم من رمز للشقاء، إلى قلعة للصمود والمقاومة، وهو الأمر الذي تكرر في انتفاضة الأقصى عام 2000، والتي دفعت بها محافظة نابلس ضريبة قاسية، من خيرة أبنائها، ومركزها الإقتصادي، وأمنها المجتمعي.
ولنابلس رصيدها الذي تفخر به في ميادين العلم والثقافة والاقتصاد، وجامعة النجاح الوطنية، التي تشكل قصة نجاح حقيقي للوطن،أحد الأدلة على ذلك، فهي تستحق بكل جدارة واقتدار لقب " عش العلماء" وملكة فلسطين غير المتوجة، وعاصمة جبل النار.
ويبقى الحديث حول نابلس منقوصا دون استحضار قاماتها الثقافية والأكاديمية الباسقة، يتقدمهم ابراهيم طوقان مؤلف موطني، وشقيقته فدوى طوقان، ومحمد عزة دروزة، وعادل زعيتر، وحلمي الزواتي، وغيرهم العشرات من قاد الفكر والثقافة، الذين أثروا مسيرة الفكر والحضارة العربية والعالمية بشكل عام .
نابلس اليوم للأسف لا تشبه أبدا نابلس الأمس، وما يعتريها من تحديات هو مدعاة للقلق الشديد، وغياب الطبقة الوسطى المثقفة والحكيمة والواعية عن صدارة المشهد والمشاركة في القرار، يثير في النفس نوازع الخوف من المستقبل، ويبرر التساؤل الشرعي حول أي مستقبل ينتظر الأجيال القادمة، كما أن هجرة رأس المال، والإستثمار خارج المحافظة نظرا لتجارب مظلمة واجهت المستثمرين سابقا، ليس فقط بسبب سياسات الاحتلال، إنما لما اعترى المدينة من فترات عصيبة، كان رأس المال المحلي هو ضحيتها الأولى، بسبب استشراء حالة الفلتان، وانعدام الأمن ، وغياب رادع حقيقي للمعتدين، وهو الأمر الذي يقض مضاجع أهلها، ويشي بسيناريوهات مرعبة في المستقبل لا سمح الله، وما شهدته المحافظة مؤخرا من أحداث جسام، راح ضحيتها عدد من أبناء المؤسسة الأمنية والمواطنين، لهو مدعاة للأسى والتحسر على ما وصلت له أمور نابلس من تراجع خطير، كما أن غياب أي تأثير لمؤسسات المجتمع المدني، والأكاديميين، والمثقفين، وانحسار القرار داخل المدينة بأقلية يسهم بلا شك في تأجيج الحالة التي تعتري المحافظة، ويؤسس لمزيد من تفاقم الوضع بها.
بكل الأحوال، وعلى الرغم من أهمية دور المؤسسة الأمنية في حفظ الأمن ضمن الضوابط والأسس القانونية التي تحدد عملها، وعلى أهمية مسائلة كل المتجاوزين، من مواطنين وأفراد أجهزة أمنية، ومسؤولين، إلا أن الخروج من أزمة المحافظة يتعدى حدود الاجراءات الأمنية، إلى ما هو أعمق من ذلك ،فعلى أهمية محاسبة المعتدين على الأمن المجتمعي، والأملاك العامة، والخارجين عن القانون، إلا أنه من الهام للغاية، وقبل كل شيء، التنبه إلى قطاع الشباب، فهم رأس مالنا الوطني، وحصاد المجتمع، ومهمتنا جميعا، أكاديميين، ومثقفين، وموجهين للرأي العام، التعاطي معهم بكل جدية، ومسؤولية، والاستماع لهم، وتلمس حاجاتهم، وخلق فرص حقيقية لهم، وإتاحة مساحات كافية لكي يعبروا بها عن طاقاتهم وتوجيهها للطريق السليم، من خلال تأسيس مراكز شبابية، وحدائق عامة، ومكتبات، وإسكانات للشباب، بأسعار مناسبة، وتوفير فرص عمل لهم، والحصول على حقهم بالتعليم الجامعي، والمشاركة في القرار، لكي نقيهم الوقوع في شراك المغرضين المتربصين بالوطن، ممن يوجهون هؤلاء الشباب، ويمولوهم، ويستخدمونهم كحطب يحرق ويحترق لتحقيق مآرب شخصية، وأجندات مشوهة، وهو الأمر الذي يتطلب من مؤسسات نابلس، دون تلكؤ أو تأخير، الدعوة الفورية إلى لقاءات عميقة، يشترك بها صناع القرار، والمؤسسات التعليمية، وموجهي الرأي العام، ورجال الدين، والشباب، للاستماع لهم، وصياغة ميثاق شرف مجتمعي، يقوم على عودة نابلس لسابق عهدها عاصمة جبل النار، وعروس فلسطين .