الكاتب: حيدر عيد
تمر هذه الأيام الذكرى ال23 لاتفاقيات أوسلو المشؤومة التي أوصلتنا لما نمر به من وضع يتفق الكثيرون على أنه الأسوأ في تاريخ القضية الفلسطيني بعد نكبة عام 1948. و هنا تبرز كلمات الراحل إدوارد سعيد النبوئية عن كون الاتفاقيات "نكبة ثانية!" و لكنها, أي أوسلو, لم تكن قطيعة مع التاريخ الذي سبقها, بل كانت تنبع من سياق معين ونهج محدد متبع منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة يبرز فيها عام 1993م كنقطة تحول نحو عملية تراكمية أدت في المحصلة النهائية إلى ما وصلنا اليه اليوم.
لقد كانت أهم نتائج مجازر غزة المتتالية (2209, 2012, 2104) التأييد الشعبي والدولي غير المسبوق الذي بدأت ترجمته على الأرض من خلال حملة مقاطعة متنامية بشكل ولا شك أنه قد أقلق إسرائيل بطريقة ملحوظة. مما لا شك فيه أن عودة شعارات التحرير بدلا من "الاستقلال" قد ساهمت في خلق معضلة ليست فقط لمثقفي وسياسيي أوسلو ولكن أيضا لما يسمى باليسار الذي كان قد أتم عملية "أسلوة" وأنجزة نجحت في إفراغه من مضمونه الثوري-الراديكالي التغييري.
ما نشهده منذ عام 1993هو نهج كان يتنامى بشكل متصاعد،نهج أود أن أطلق عليه "أسلوة". و هو يتميز بفساد مطلق، أنجزة، وتخلي عن الشعارات الثورية التغييرية التي كانت سائدة في مرحلة الستينات والسبعينات والثمانينات، بالاضافة لنمو خرافة ما يسمى حل الدولتين بأي ثمن كان. مما يثير القلق ومن خلال متابعة دقيقة لتصريحات الكثير من القيادات الفلسطينية الوطنية، الحمساوية, واليسارية فإن الهدف الرئيس للنضال الفلسطيني أصبح الان إقامة دولة فلسطينية "مستقلة" على 22% من ارض فلسطين التاريخية وبغض النظر عن شكل ومضمون هذه الدولة. ولكن التناقض الكبير من ناحية بين التأييد الدولي الشعبي الهائل وتنامي حركة المقاطعة, بي دي أس, والمطالبة الشعبية الدولية بمحاكمة قادة اسرائيل كمجرمي حرب ، ومن ناحية اخرى ،الاصرار على حل الدولتين -السجنين إنما يشير الى ضرورة إيجاد والعمل على تنفيذ بديل تكون اهم اولوياته هو مواجهة الفكر الأوسلوي المهيمن في فلسطين.
ولكي نفهم اتفاقيات أوسلو والخراب الهائل الذي سببته للقضية الفلسطينية وتحويلها من نضال من أجل التحرير وتقرير المصير إلى قضية إحسان مطروحة على موائد الرباعية الدولية, و نظيرتها العربية, و على أجندات البنك الدولي, فإنه يتحتم علينا أن نحاول فهم السياق الذي احاط بما يسمى "عملية السلام", أو ما أطلق عليه بعض المفكرين النقديين, مثل إدوارد سعيد و ناعوم تشومسكي, "صناعة السلام". إن هذا الفهم ولا شك يشكل خطوة في غاية الأهمية نحو فهم نقدي خلاق لعملية الأسلوة التي مرت بها فلسطين وتوجت بحالة انقسام أفقي و عامودي بين شطري "الوطن"-البانتوستان, و وضعتنا في موقف تاريخي غير مسبوق حيث تعمل الضحية على تبرئة الجاني من جريمته .
لقد تم الإدعاء أن اتفاقيات أوسلو ستكون الخطوة الأولى, بل الضرورية, نحو دولة فلسطينية مستقلة, وأن "القدس على مرمى حجر". ولكننا الان وفي الذكرة ال23 من الحفل الشهير في البيت الابيض أبعد ما نكون عن هذه الدولة لأن أوسلو ، بكل بساطة, وكما قال إدوارد سعيد ، أنكرت وجود الشعب الفلسطيني كشعب. بمعنى آخر ، أن هذه الاتفاقيات قد أسدت خدمة غير مسبوقة للصهيونية إذا تمت قراءتها في سياق مقولة جولدا مائير الشهيرة عن عدم وجود" شئ اسمه شعب فلسطيني".
إن السلام العادل الشامل كما يعرف دولياً،لم يخلق في واشنطن أو كامب ديفد أو أوسلو أو أنابوليس. على النقيض من ذلك ، ما تم صناعته وفبركته هو خطة أمريكية إسرائيلية لحل "الصراع" بعد تدمير العراق وسقوط الاتحاد السوفييتي، وفي محاولة لخلق ما أسماه شمعون بيريز وبعده كونداليزا رايس "الشرق الأوسط الجديد"، شرق أوسط يتميز بهيمنة امبريالية صهيونية مدعومة من قبل أنظمة استبدادية رجعية. ولكن اتفاقيات اوسلو كانت قد ولدت ميتة أصلاً لأنها وببساطة متناهية لم تضمن إحقاق الحد الادنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة. فطالما أن هناك لاجئين ، كانتونات ، معازل عرقية, معتقلين، إغلاقات ، مستوطنات ، إغتيالات ، مصادرة أراضي ، احتلال وتفرقة عنصرية، حصار قروسطي غير مسبوق, حروب متلاحقة تعمل على "جز العشب" المتنامي في غزة كل 2-4 سنوات في عملية "إبادة جماعية بطيئة", فإن إمكانية خلق البيئة المناسبة لسلام عادل في الشرق الأوسط ستظل غائبة. إن السلام الأوسلوي ما هو إلا خرافةعششت في عقول من وقعوا هذه الاتفاقيات التي كانت محصلتها حروب إبادة همجية على غزة, أكبر مخيم لاجئين على سطح الكرة الأرضية, كما تم وصفه من قبل العديد من منظمات حقوق الإنسان, لم يكن من الممكن أن تحصل لولا هذه الاتفاقيات التي أعطت الانطباع الخاطئ أن هناك طرفين متساويين في القوة, وحتى في الحق.
كانت اتفاقيات أوسلو قد أدت إلى تشكيل ما سمي" بالحكم الذاتي الإداري" في قطاع غزة وبعض من أجزاء من الضفة الغربية. و تم التصدق على "السكان المحليين" بمنحهم " سلطة" من الممكن تسميتها"وطنية". ولكن السؤال الذي لا بد من طرحه هو عن طبيعة هذه السلطة والسبب الذي يجعلها خارج المساءلة الوطنية حتى من قبل التيارات المحسوبة على ما كان يسمى باليسار الثوري، وقبول التيار الاسلامي الأكبر بالمشاركة في هذه السلطة! ان الاجابة وبكل بساطة تقودنا مرة أخرى إلى اتفاقيات أوسلو التي خلقت واقعاً، وبالتالي نهجاً جديداً لمفهومي التحرير وتقرير المصير.
ولكن أصبح الآن واضحاً أنه ، وعلى الرغم من الابتسامات والقبلات والاحتفالات أمام الكاميرات وانعقاد المؤتمرات والحديث عن التفاؤل بإقامة سلام دائم في الشرق الأوسط "الجديد", فإن الواقع يشير في اتجاهٍ آخر ألا وهو أن هذه الاتفاقيات وبسبب تناقضها مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية لم تؤدِ لا إلى إقامة دولة فلسطينية على 22% من أرض فلسطين التاريخية, كما وُعدنا, ولا لعودة اللاجئين الفلسطينيين "تبعا لقرار الأمم المتحدة 194,"ولا حتى لازالة المستعمرات الصهيونية, أولا تعويض المواطنين الفلسطينيين عما فقدوه ، ولا زالوا يفقدون من أراضيهم وبيوتهم، أو حتى تقليص عدد الحواجز العسكرية الاسرائيلية......الخ على الرغم من كل القبلات والابتسامات والسلامات فإن إسرائيل توجت هذه المسيرة بحصار لغزة أسماه المقرر الخاص المعني بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة ريشارد فولك "بمقدمة لإبادة جماعية" أتبعته بثلاث حروب همجية أدت إلى استشهاد الآلاف من المدنيين و الأطفال ، ودمرت ما لا يقل عن 100.000 مؤسسة وبيت ، وحرقت الأخضر واليابس بقنابل فسفورية لم تستخدم في التاريخ حتى ضد الحيوانات. ومن البديهي ان هذه المحصلة لم تذكر في اتفاقيات أوسلو ولكن أيضا لم يتم ذكر أي شئ يؤدي إلى منع حدوث مثل هذه المجازر أو الحصار الإبادي.
هذا هو الواقع السياسي الذي لا يرغب المسؤولون الفلسطينيون, و المثقفون الأوسلويون, الذين وقعوا ودافعوا عن هذه الاتفاقيات ان يتم تذكيرهم به. إن ما تم تصنيعه في بعض أجزاء الضفة الغربية وقطاع غزة ما هو إلا كيان غريب الشكل والمضمون ، كيان أبارتهيدي على نمط المعازل العرقية "البانتوستانات" الجنوبأفريقية ، ولكن بدعم واعتراف دولي هذه المرة!ولكل هذه الاسباب فإن غزة هي الصورة المرئية المعكوسة لأوسلو.علينا أيضاً أن نذكر في هذا السياق السياسي التاريخي ان 80% من سكان غزة عبارة عن لاجئين لم يتم التطرق لحقهم في العودة, المكفول شرعيا, على الإطلاق في إطار هذه الإتفاقيات ، مما يوضح سبب نتائج إنتخابات عام 2006"المفاجئة" ليس فقط في سياقها المعادي للكولونيولية الاحتلالية بل أيضاً في سياق سياسي إجتماعي. .إن ما خلفته هذه الاتفاقيات في الضفة وغزة هو في واقع الأمر عالمين مختلفين طبقياً, إن لم نقل متناقضين, يتميزان بمؤسسات لا ديمقراطية ،أجهزة أمنية عديدة بعضها ينسق أمنياً من الاحتلال، فساد ، سوء إدارة ، محاباة........إلخ. لاشك أن هذه الصفات بالإضافة لكونها نتاج احتلال كولونيالي تعبر أيضاً عن صفات نيوكولانيالية متنامية في العالم-الما-بعد-إستعماري .
لاشك وأن إنتصارات إسرائيل في عدة حروب "48م ،67م ،82م" وبعد حصولها على اعتراف فلسطيني وعربي ودولي "بحقها" في ممارسة سياستها كدولة استعمار استيطاني ،كانت قد رغبت بالدخول في مرحلة جديدة ،مرحلة تتميز بتشكيل وعي جديد لدى الشعب الفلسطيني المحتل. وهنا بالضبط يكمن خطر أوسلو "الوجودي" .
إن عملية الأسلوة، في هذا الإطار الصهيوني الجديد ، يعني خلق خطاب أيديولوجي جديد يؤدي إلى إزاحة كاملة لوعي “الآخر” الأصلاني , واستبداله بعقلية أحادية الجانب من خلال خلق خرافة أسطورية جديدة دائمة الانزلاق ولا يمكن تحقيقها ، على نمط حل الدولتين . هل من الغريب الآن أن حتى الوزير الفاشي أفيغدور ليبرمان يعزف لحن الدولتين ؟!.
إن العمل على خلق, ما أسماه رئيس وزراء السلطة الوطنية السابق, سلام فياض, ب" الفلسطيني الجديد " المدافع وباستماتة عن حل الدولتين هو في نفس الوقت محاولة لخلق وعي زائف يتم توجيهه من قبل "إنتلجنتسيا" تم تهجينها في إطار الخطاب الأوسلوي, انتلجنتسيا تتميز بسجلٍ و ماضٍ ثوري تم تطويعه في عملية متشابكة من الأسلوة و الأنجزة. وهكذا تصبح شعارات "حل الدولتين" و" دولتين لشعبين" و"العودة لحدود67", وحتى ما تطرحه حركة حماس الإسلاموية من "هدنة لمدة 10 أو 20 عام," عبارة تعبيراتٍ عن نهجٍ يضمن رضوخ وانصياع الفلسطينيين, أصحاب الأرض الأصلانيين. ما يتم غض الطرف عنه في حمى هذه "الشعارات" الزائفة التي تردد بطريقة روبوتية, ببغاوية هو حق عودة 7 مليون لاجئ وتعويضهم، والحقوق الثقافية والقومية لأكثر من 1.2 مليون فلسطيني يعاملون كمواطنين درجة ثالثة في إسرائيل . إن مجرد ذكر هاتين الفئتين جدير بإفساد أي حفلة عن "السلام و"الود" و"التعايش " واللغة السياسية "الجديدة" للإدارة الأمريكية ذات الوجه الأسود. ما تنساه هذه الأصوات هو أن الامبريالية الامريكية قد رغبت بوضع قناع أسود جديد على وجهها ليس له علاقة بأي تغيير جدي في مضمون سياستها تجاه القضية الفلسطينية .
ولكن هذه الرؤية الصهيوأمريكية لا تأخذ بعين الإعتبار النقيض الأساسي الذي تخلقه نتيجة الاضطهاد والقهر و الاستعمار الاستيطاني الذ ي ينفي وجود السعب الفلسطيني بالكامل. إنها ، وبمعنى آخر, تتجاهل الوعي الثوري التغييري واللذي تم تشكيله خلال المراحل التاريخية المختلفة للمعاناة الفلسطينية ، وهي أيضاً لا تأخذ بعين الإعتبار تراث النضال المدني والمقاومة الشعبية التي أصبحت علامة مميزة للنضال الفلسطيني .
ومن هنا فإن هناك ضرورة مُلحّة لإيجاد سياسة فلسطينية بديلة.
إن الوعيَ بمدى الفساد الذي وصلت إليه السلطة الوطنية الفلسطينية, والوعي بالفوارق الطبقية الهائلة التي خلقتها الاتفاقيات المذكورة, والطبيعة الوظيفية للسلطة نفسها والتي توجت بفشل دبلوماسي على الصعيد الدولي، و الانقسام حاد بين شطري الدولة الموعودة,, انما هي بجلها محصلة لعملية تحرير الانسان الفلسطيني من أوسلو. هذه العملية التراكمية بدأت تنضج من خلال هبات جماهيرية متلاحقة, مع الرسالة الواضحة لنتائج انتخابات 2006 التي كانت مؤشراً واضحاً لرفض شعبي لنهج أوسلو وليس بالضرورة تأييد لفصيل سياسي محدد. إن هذا الوعي اللاأوسلوي هو الوعي النقدي المعارض الذي يتجلى في معارضة السلطتين اليمينيتين المهيمنتين في شطري البانتوستان.
إن قادة القبائل الجنوبأفارقة ومن خلال اتفاقيات مع قادة النظام العنصري كانوا قد وصلوا لقناعة مطلقة بأنهم رؤساء دول مستقلة سميت كذلك"Independent Homelands", لكن حزب المؤتمر الوطني الافريقي, وعلى الرغم من التنازلات الهائلة التي قدمها لنظام الأبارتهيد العنصري, لم يساوم مطلقا على فكرة وحدة جنوب افريقيا و معارضته لنظام المعازل العرقية. لكن القيادة الفلسطينية وفي بداية القرن الواحد والعشرين, أي بعد زوال نظام البانتوستانات تتفاخر بأنها قد وضعت الأرضية الصلبة لبانتوستان جديد في الشرق الأوسط ، مدعية أنه مشروع "دولة مستقلة", قيادة أخرى "منتخبة من قبل ثلث الشعب الفلسطيني تعتبر أن سجن غزة قد تم "تحريره, و هو نواة لمشروع إسلامي أممي جديد!
و مما لا شك فيه أن الصهيونية ستناور على أساس أن اتفاقيات أوسلو , وتوابعها, هي أكبر "تضحية وتنازل" تم تقديمهما "للآخر الفلسطيني" بعد نفي وجوده لأكثر من قرن ، وبعد أن أثبت هذا الآخر أنه انسان جدير باعتراف السيد الأبيض. ولكن لضمان استمرارية المشروع الصهيوني في فلسطين يجب أن يتم احتواء هذا الاخر واستعباده بطريقة لا يعي فيها أنه مُستعبَد. وهذا ما يبرر منح مناطق حكم ذاتي إداري في أكثر المدن الفلسطينية اكتظاظا بالسكان الأصلانيين.
إن رفع العلم الفلسطيني وعزف النشيد الوطني،وفرش البساط الأحمر ،وتسمية الضفة الغربية المقسمة بأكثر من 600حاجز باسم فلسطين ،كلها تعني كلمة واحدة :أوسلو. لكن الرديف لهذه الكلمة هو العبودية. العبودية وبموافقة العبد وبمشاركته في الدفاع عن السيد الأبيض .
إن الوصول لما نحن فيه الان من تشتت هوياتي, و انقسام حاد, و فساد غير مسبوق ، و تنسيق أمنى مع اسرائيل، وحصار غزة بعد تحويلها إلى معسكر إعتقال أكبر من أوشفتز, بمباركة عربية ودولية ، و تطبيع مع الاحتلال, بل التباهي بذلك, هو السياق المنطقي الذي خلقته و مهدت له اتفاقيات أوسلو التطبيعية .و هكذا فان اسرائيل, كنظام الأبارتهيد العنصري, نجحت في توجيه ردة الفعل الرسمية الفلسطينية على جرائم ارتكبتها نهارا جهارا.
من المصادفات التاريخية "الغريبة" نوعاً ما أن هذا الفترة تشهد أيضا ذكرى استشهاد المناضل الجنوبأفريقي ستيف بيكو على أيدي مجموعة من المحققين العنصريين عام 1977. و مما قاله هذا المناضل الأيقونة الأسود و يتناسب مع الحالة الفلسطينية من أوسلو إلى الهبات الجماهيرية المتلاحقة و ما خلقته حركة المقاطعة بي دي أس كتكتيكٍ تحرري ما يلي:
لم يكن البيض فقط مذنبين بكونهم يهاجموننا ولكن أيضا ومن خلال مناورات ذكية تمكنوا من توجيه ردة فعل السود على جرائمهم. لم يرفسوا الأسود فقط في مؤخرته ، بل وجهوا ايضا ردة فعله للرفسة. ولكن و ببطئ مؤلم يتعلم الأسود أن يظهر إشارات مهمة أن من حقه بل ومن واجبه أن يرد على هذه الرفسات وبالطريقة التي يراها!