نشر بتاريخ: 14/09/2016 ( آخر تحديث: 15/09/2016 الساعة: 00:17 )
الكاتب: د. وليد القططي
ظل الفكر السياسي العربي طوال القرن العشرين الماضي تتنازعه تيارات متناقضة كل منها يدعو إلى دولة ذات هوية مختلفة , توّزعت ما بين الهويات : الوطنية القطرية ، والقومية العربية , والدينية الإسلامية , والاشتراكية الماركسية . وتوّزعت معها مرجعيات الانتماء ما بين الوطن والقوم والدين والايديولوجيا . كما اختلفت معها الرؤى لأُسس الجنسية وفقاً لمفاهيم المواطنة والعروبة والعقيدة والطبقة .
ولقد تراجع التيار القومي العربي بعد فشل الوحدة المصرية السورية ونكسة حزيران وموت جمال عبدالناصر في ستينات القرن الماضي . وخبا بريق التيار الاشتراكي الماركسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي , وعدم انسجامه مع عقيدة العرب – مسلمين ومسيحيين - وانحساره في دوائر النخبة اليسارية المثقفة . فظل التنافس محصوراً بين التيارين الوطني والإسلامي , وإن كان قد طفا إلى السطح تيارات أخرى ارتكست إلى ما دون الوطنية وإلى ما قبل الإسلام , وأخرجت مارد الفتنة المذهبية والعرقية والمناطقية من قمقمه النتن , كإحدى الافرازات السيئة لثورات الخريف العربي الذي سُميَّ زوراً وبهتاناً بالربيع العربي .
التيار الوطني حسم أمره منذ البداية باتخاذه الهوية الوطنية القطرية الخاصة بكل دولة حتى وإن كانت حدودها من صنيعة الاستعمار , فها هو أحمد لطفي السيد مؤسس ( حزب الأمة ) المصري قد كتب في مجلة ( الجريدة ) " إن أول معنى للقومية المصرية هو تحديد القومية الوطنية والاحتفاظ بها والغيرة عليها غيرة التركي على وطنه والانجليزي على وطنه , لا أن نجعل بلادنا على المشاع وسط ما يُسمى بالجامعة الإسلامية . كما دعا المفكر المصري القبطي سلامة موسى إلى البحث عن معالم الشخصية الوطنية المصرية في جذورها الفرعونية , واعتبار الفرعونية هي الأساس في انتماء المصريين لوطنهم .
وهذان النموذجان موجودان في كل الأقطار العربية والإسلامية , فنجد تقديماً للانتماء للجماعة الوطنية على الانتماء للأمة العربية أمام القوميين , أو مقدم على الانتماء للأمة الإسلامية أمام الإسلاميين , متخذين شعارات : مصر أولاً , لبنان أولاً , تونس أولاً ... ومصر للمصريين ولبنان للبنانيين وتونس للتونسيين ... نهجاً وطريقاً للنزعة الوطنية . وإن كان بعض أنصار هذا التيار قد وضعوا الهوية والانتماء الوطني في إطار دوائر أكبر قومية وإسلامية وإنسانية . ولكن بعضهم ارتد إلى ما دون الوطنية لينادي بهويات وانتماءات مناطقية وعرقية ومذهبية يتخذها وطناً بديلاً عن الوطن الأوسع .
أما التيار الإسلامي فلم يحسم أمره بعد في أولوية الانتماء للوطن أم للأمة , ويمكن ملاحظة رؤيتين متمايزتين في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر , الأولى تقليدية تنتمي للآباء المؤسسين للحركة الإسلامية أو ما بات يُعرف بالإسلام السياسي , وهذه الرؤية لا تعترف بالحدود السياسية المصطنعة بين البلاد الإسلامية ولا بالهويات والانتماءات الوطنية الخاصة لها . وهذا ما يؤكده حسن البنا بقوله : " إننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة , فكل بقعة فيها مسلم يقول : لا إله إلا الله , محمد رسول الله وطن عندنا له حريته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيله " . وكما قال سيد قطب في كتابه ( معالم في الطريق ) فصل ( جنسية المسلم عقيدته ) " لا وطن للمسلم إلا الذي تُقام فيه شريعة الله , ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في الأمة الإسلامية " . ويذهب أبو الأعلى المودودي إلى أبعد من ذلك بقوله : " لو ثمة عدو لدعوة الإسلام بعد الكفر والشرك فهو شيطان القوم والوطن " .
والرؤية الأخرى للتيار الإسلامي لم تعد ترى تناقضاً بين الوطني والقومي والإسلامي , فالانتماء للجماعة الوطنية أو القومية لا يُلغي الانتماء للأمة الإسلامية , والإخلاص للوطن والقوم لا يعني عدم الإخلاص للإسلام , وهذه الرؤية يمثلها رموز في الحركة الإسلامية مثل محمد الغزالي وحسن الترابي وراشد الغنوشي وعبدالفتاح مور وغيرهم . ورغم أن هؤلاء المفكرين يتعاملون مع الدولة الوطنية القطرية كأمر واقع وليس ككيان كامل الشرعية تلك الشرعية التي لا زالت من نصيب دولة الخلافة الإسلامية , إلا أنهم وجدوا في العودة إلى ( صحيفة المدينة ) أو دستور المدينة الأول الذي وضعه الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم – ضالتهم لتأصيل رؤيتهم شرعياً , وهي الصحيفة التي تقر بإقامة مجتمع تعاقدي بين المسلمين وغير المسلمين ضمن أُطر عامة ونقاط اتفاق مجمع عليها في التعايش السلمي والدفاع المشترك واحترام الخصوصيات الدينية لكل فئة في هذا المجتمع . كما وجدوا في هذه الصحيفة مفهومين للأمة أحدهما على أساس الانتماء الديني " اليهود أمة والمسلمين أمة " أّمّة العقيدة ( الأمة الإسلامية ) والأخرى على أساس الانتماء الوطني " إن اليهود والمسلمين أمة " أمّة الوطن , ( الجماعة الوطنيـــة ) , أي أمة وطنية وشركاء في النظام السياسي لهم حقوق وعليهم واجبات متساوية .
وفلسطينياً تجلّى هذا الفهم وتلك الرؤية في فكر الدكتور فتحي الشقاقي مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الذي تمايز عن فكر جماعة الإخوان المسلمين التقليدي في هذا الموضوع , فأنهى انفصام النكد في فلسطين بين الوطنية والإسلام , فجمع بين الفكرتين في بوتقة واحدة تصهر بداخلها مفهومي الجماعة الوطنية والأمة الإسلامية , تضع الانتماء الوطني لفلسطين في إطار الانتماء القومي للوطن العربي والانتماء الديني للأمة الإسلامية , وتدمج بين الهويات الوطنية والقومية والدينية , مجسدّاً كل ذلك من خلال طرحه لشعار مركزية القضية الفلسطينية للحركة الإسلامية المعاصرة .
والخلاصة في إنهاء جدل أولوية الانتماء للوطن أم للأمة في الفكر السياسي العربي لا ينتهي إلا بإنهاء النظرة الإلغائية الإقصائية لكل تيار تجاه التيارات الأخرى , والتخلص من محاولة كل تيار فرض مفهومه الخاص للهوية والانتماء على الأخرين , وفك الارتباط بين مفهومي : الوطنية والعلمانية التي تحتكر الوطنية , وفك الارتباط بين مفهوم الأمة الإسلامية ومعاداة غير المسلمين وتشويه مفهوم ( أهل الذمة ) ... والخروج بفهم جديد ورؤية جديدة للموضوع تنظم العلاقة بين مفاهيم الجماعة الوطنية والأمة الإسلامية في إطار من احترام الخصوصية الوطنية والمحافظة على وحدة الأمة الإسلامية .