د.غازي حمد (1) الزنازين المعتمة
هؤلاء الذين حبسوا أنفسهم في زنازين معتمة..
يكتبون, يحللون ,ويهاجمون ,بعيدا عن (شمس) المنهج العلمي ورحابة الفكر/الحس الوطني .
لم اجد اصدق تعبير للحالة الفلسطينية المتردية ,المتناقضة ,المتصارعة, مما يسطره بعض الشباب(الواعد) على صفحات التواصل الاجتماعي او مجموعات الحوار من تعليقات تشي بعقلية أحادية الاتجاه , تنضح بالكراهية وتضج بالعبثية السياسية.
هؤلاء (المعتقلون فكريا) لا يرون غير صورهم ..لا يسمعون سوى اصواتهم..لا يحدثون الا ذواتهم, يمجدون انفسهم وأعمالهم.. يكيلون العيب لغيرهم ,لكنهم أبدا لا يرون -ولا يريدون أن يروا- عيوب انفسهم .
انها العقلية الفصائلية التي بنت عقول الشباب على الفكر/المسار الاحادي !!
يستعرضون مهاراتهم الاعلامية والتحليلية/الهجومية على نظام الابيض والاسود .
كل خطأ أو فشل يتحمله الاخرون!!
كل ما يقوله الاخرون كذب وهراء وتشويه !!
كل ما يفعله الاخرون مؤامرة !!
أما نحن فلا غبار علينا ..
ومن يتجرأ فينتقد فهو( جلد للذات), ولا يجوز لنا ان نجلد أنفسنا بل من الواجب الوطني أن نجلد غيرنا !!
انهم يربون الاجيال على (الاحادية) التنظيمية التي تقول انك على الحق اما الاخرون فهم في ضلال مبين ..أنت الجيد وما دونك هو السيء . . لا يجب ان ترى الا لونا واحدا وراية واحدة.
وهكذا تظل (الدوارة) تدور على هذا المنوال صباح مساء, عام يخلف عاما , لا تنتج لنا الا الوهم, واعادة تدوير الافكار الاحادية بطريقة مملة.
(2) خارج التغطية الوطنية
فيما المنطقة تشتعل وتتفاقم الصراعات وتوضع المخططات لتقسيم دول وتحويلها الى كانتونات, وفيما المشروع الاسرائيلي يتسارع في التوسع والتعمق,لدرجة استسلام شركة (فيسبوك) العملاقة لشروط اسرائيل في مراقبة بيانات كل من يتعرض لها بسوء, يغرق هؤلاء(السجناء) في قضايا هامشية واستعراضات كرتونية التي لا تعني للمشروع الوطني شيئا ..
ويحسبه الظمآن – لمفاهيم الوطنية -ماء !!
بتنا نخدع عقولنا بأننا نخوض صراعا حقيقيا ضد الاحتلال, فيما نحن نصارع ذاتنا ..نقسو على انفسنا ..ننتصر على بعضنا ..نهزم قوتنا/صمودنا ..نسجل النقاط في شباكنا !!
انها معادلة البؤساء الذي يعيشون خارج التغطية الوطنية !!
البؤساء الذين لا ينتقون من القاموس الا لغة تمزق الوطن وتزرع الشوك والحنظل, لغة الشماتة ومصطلحات الكراهية والالفاظ الهابطة .
ان الانقسام /المسخ خلق ادمغة مشوهة وعقولا ملوثة والسنة حداد وافكارا مريضة ..
أنتج لنا ثقافة خداعة, رضع من حليبها الكثيرون واقتاتوا عليها ,واقنعوا انفسهم أنه (حليب الام).
لم يعد أحدنا يفكر الا بنفسه فقط : ان تكون قويا متماسكا منتصرا , اما الاخر فليذهب الى الجحيم .. لينته , ليقطع نسله او تنقطع ذريته السياسية ,او تهوي به الريح في مكان سحيق !!
(3) الحرب الوهمية
انها ثقافة مرعبة , اخطر من فيروسات الايدز والايبولا والزيكا .
تصيب عقول الشباب (الواعد) بحمى المواجهة (الوهمية) ..وتستنزف طاقتهم واوقاتهم في عالم افتراضي خادع , تدغدغ عواطفهم وتلهمهم انهم يخوضون حربا مقدسة !!
تجد من يخصب لها التربة ويسقيها بالماء ويتعهدها بالرعاية , وينشئ لها جيوشا وخبراء يحوطونها ويدافعون عنها دفاعة المستميت !!
ثم يقولون لك "هذا جزء من المشروع الوطني" !!
لقد امتد هذا المرض الفتاك الى اعماق القواعد والشباب المندفعين بقوة العاطفة لا برزانة العقل .. انهم يردون ماء عكرا, غير ثقافة الوطن , وينهلون من غير نبع الاسلام ,ويستقون من غير عيون المروءة العربية .
والادهى من ذلك أن يعتبر البعض ان من العبث ان تمارس دور المصلح , بل يجب ان تلعب دور المعري الفاضح , الذي يجب ان يلعن خصمه ويجتثه من جذوره .
كلما غلوت في التطرف فأنت الافضل ..وكلما هدر صوتك فانت الاصدق..!!
(4) بالتي هي أحسن
هؤلاء لا يعرفون الله جيدا ولا يعيشون تحت السماء .
الله لا يأمر بالفحشاء ,ولا يحب الشماتة, ولا يحض على السب والطعن , بل يأمر ب(وقولوا للناس حسنا) و(جادلهم بالتي هي احسن) و(ادفع بالتي هي احسن) ..انه قمة الحسن ..ذروة الادب ..انه روعة المخاطبة والجدل , شكلا ومضمونا.
يقول لك الله حتى خصمك ان أخطأ او تعثر فعليك الا تقف متفرجا او شامتا ,بل سارع الى مساعدته ,أنقذه من سقطته..لا تتمن له الفشل.. خالفه ,انتقده وعارض منهجه ,بل يحق لك اسقاط/استبدال مشروعه, لكن كل هذا ب(التي هي احسن)..
(بالتي هي أحسن) أي بالكلام الطيب والنصيحة والنقد البناء ..بعيدا عن التجريح والتشكيك والاساءة . انها (الفريضة الغائبة) التي نفتقدها اليوم في التصريحات الاعلامية والنقاشات الحوارية .
ما أعظم الله حين يقول (ولا تبخسوا الناس اشياءهم) ,والناس هنا مؤمنهم وكافرهم ,أي لا تبخسوهم تاريخهم ولا عطاءهم ولا نضالهم ولا شهداءهم ولا اسراهم .
ما أعظم رسول الله حين يقول (لا تعينوا الشيطان على أخيكم),وهو الذي لم يثبت أنه سب أو شتم أحدا من مخالفيه والمنكرين عليه بل عاملهم بالرفق, وروي عنه في الصحيح أنه( يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ، وَلا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ عَلَيْهِ إِلا حِلْمًا).
كأن هؤلاء – المغطى على قلوبهم -يقولون( لا) لربنا العظيم ,و(لا) لرسولنا الكريم!! .. بل نتبع ما ألفينا عليه هوانا ومزاجنا !!
ويصرون وينغضون اليك رؤوسهم, ويقولون لك ( انت حالم ..انت مثالي ..انت على نياتك ..هؤلاء لا ينفع معهم الا السوط والقمع .. لا تنفع الا لغة الهجوم والاعتقال والاستدعاء والتهديد) .
يصورون لك المكر شطارة ,والشماتة دهاء ,والوقيعة ذكاء!
انهم يغذون أنفسهم بالوهم الذي يسري في شرايينهم ويبني نسيج خلاياهم!!
يبنون نضالا وهميا ووطنا وهميا ونتائج موهومة مثل اقدام الاميبيا !!
لقد أرهقتنا هذه الثقافة البائسة عقودا من الزمن ولم تنتج لنا الا الازمات والنكبات والنكسات والعثرات.. جعلتنا شيعا واحزابا , نأكل لحوم بعضنا بتلذذ ومتعة..
(5) فرصة العمر ..فضائح !!
بتنا نفكر كيف نصطاد ثغرة هنا وسقطة هناك, وما أشِد فرحنا حينها !!
يقولون لك هلم ..أسرع لنستغلها.. لنوظفها , انها فرصة العمر!!
أصبحت الفضائح ونشر الغسيل الوسخ تشكل مغنما ومكسبا وطنيا ,ولا يدرون ان الجرح في الكف وان الفضيحة في النهاية هي في كف الشعب المجروح والموجوع !!
حتى الانتخابات التي حلمنا ان تمثل (ومضة) في هذا الواقع المظلم تحولت الى حرب تشويه وملاحقة واعتقال وبيانات مدسوسة وتهديد وفن في تسريب الاخبار المفبركة.
شعب تأكله الحرب الباردة !!.
كأنه لا يوجد احتلال او استيطان او شعب مشرد أو قضية مغيبة...
الاحتلال يجلس مسترخيا على كرسي هزاز ,يمضغ اللبان..يتفرج , يبتسم , يتمطى ,ويتثاءب من طول المسرحية !!
لنخجل من أنفسنا ..لنكسر اقلامنا ..لندفق حبرنا على الارض !!
يبدو أننا شعب لا يستحق أن يتقلد هذه (الجواهر) التي ترفل بها شعوب وأمم .
نعم ,لم ننضج/نكبر بعد لثوب الديمقراطية ..
انها (واسعة) علينا, لذا فإننا نتعثر بها وننتكس الى الارض !!
(6)أما آن الاوان ؟
أما آن الاوان أن يتحرر هؤلاء (السجناء) الذي يكتبون من الزنازين المعتمة ويخرجوا الى النور والسماء الفسيحة,ويستبدلوا روائح الزنازين بنسائم الفجر الشارحة للصدور ؟
اما آن الاوان أن يقتلعوا بذور الكراهية ويزرعوا بدلا منها ورودا وياسمين ؟
انني أحزن على الشباب (الواعد) ان يحرق حياته وسني عمره في زنزانة لا يرى فيها الا (سقف) التنظيم ,ولا يرى مظلة الوطن الكبيرة وساحات الالتقاء والمشاركة وتبادل الرأي والفكر بالحسنى وزينة القول .
ادعو هؤلاء الشباب –الذي لا اشك في اخلاصه – الى اعادة صياغة تفكيرهم وعقولهم بما يتوافق مع منهج الله وحب الوطن ومصلحته .. ادعوهم الى نبذ ثقافة الكراهية لانها موجعة, مقززة , منتنة ,باعثة على القيء ووجع القلوب , وهي التي ستقتلهم قبل أن تقتل غيرهم !!
قولوا كلمة الحق ,ولا يجرمنكم شنآن قوم على الا تعدلوا .
كما ادعو التنظيمات والفصائل الى مراقبة ما يكتب أفرادها وتوجيههم وجهة وطنية بعيدة عن التعصب والغلو ,ونشر ثقافة التسامح والمشاركة وابداء الرأي على قاعدة الاحترام وتقبل الاخر.
هكذا تبنون أنفسكم ..
هكذا تحررون الوطن ..