الكاتب: د.احمد يوسف
لقد كانت مداخلة الأخ خالد مشعل "أبو الوليد" في مؤتمر "تحولات الحركات الإسلامية" في الدوحة بتاريخ 24 سبتمبر 2016، أشبه بخبطة على الرأس للكثير من شباب حركة حماس، حيث إن كلمة "أخطأنا" ليست في العادة ضمن مفردات خطابهم السياسي أو الحركي، إذ إن التربية الدينية ثم الحزبية قد منحتهم الثقة بأنهم منزَّهون عن الخطأ، وهذه الكلمة كبيرة في ارتداداتها ولا تعرف طريقها إليهم؛ فقياداتهم كما يرى الكثيرين منهم هم "ربَّانيون"، ومناهجهم الفكرية لا يأتيها باطل أو خلل ولا يصاحبها خلاف، وأنهم في كل ما يجتهدون مبرأون من كل عيب أو نقيصة، والحقيقة هم من يمتلكون نواصيها بامتياز، والآخرون هم العاقون ومن ضلوا السبيل!!
إن كلمات الأخ خالد مشعل ليست "ضربة مقفي"، وليست "خطاب مودع" كما يحاول البعض تفريغ هذا الموقف من قيمته السياسية والأخلاقية، فالرجل كما عرفناه على مدار ثلاث عقود ونصف العقد، لم نشهد له إلا بما علمنا، حيث كان صاحب الهمة الوطنية العالية، وهو وإن ترجل عن صهوة جواده كرئيس للمكتب السياسي للحركة، فإنما ليمتطي جواداً آخر في نفس الميدان، وفي دائرة رأس الهرم وأعمدة حكمته التي لا تتبدل، وربما في موقع أكثر أهمية للقضية الفلسطينية من الأول.. فلا داعي للخلط بين حكمة الرجل القائد واجتهاده في هذا القول، الذي كان يعمل له منذ زمن طويل، وقد واتت فكرة طرحه – الآن - في سياق مراجعات تمر بها كل الحركات الإسلامية في دول المنطقة.
في عام 2006 ومع تشكيل الحكومة، عندما كنا نتحدث عن الشراكة السياسية والتوافق الوطني، كان البعض يتهمنا – آنذاك - بأننا نغرد خارج السرب، وأن هؤلاء لا يمكن الالتقاء معهم بالشكل الذي ننادي به؛ لأنهم حسب تصنيف البعض "عملاء وجواسيس"!! ويجب أن يأتوا عن يدٍّ وهم صاغرون!!
كانت هذه المقولة "التغريد خارج السرب" تلاحقنا مع كل رأي أو موقفٍ اجتهدناه، حتى غدت لحناً يتغنى به البعض لسحب شرعيتنا، باعتبار أننا نأتي من القول بما لم يسمع بعضهم من آبائهم الأولين!!
شهادة لله، أن هذه الحركة هي وطنية في أهدافها وتطلعاتها، والكثير من رجالاتها وقادتها هم طلاب شهادة، وأن هناك الكثير الكثير من العقلاء الذين كانوا يباركون ما نكتب أو نتحدث به، ولكنهم للأسف لا يملكون الجرأة التي تؤهلهم للجهر بمثل هذه الآراء، بل إن بعضهم كان يهمس لي: يا دكتور نحن لا نمتلك شجاعتك ولا تاريخك، وأنت تمثل بالنسبة لنا خط الدفاع الأول عن هذه القناعات التي نشاركك فيها، فلا تتراجع أو تنهزم.. وكان يقدم لي باتصاله من الدعم المعنوي الكثير. نعم؛ لم يحظ بهذا التصنيف "التغريد خارج السرب" لعشر سنوات أحد غيري، ولكن – مؤخراً - بدأ البعض يصدح بما يرفعه لنيل شرف هذا الاتهام !!
لم تكن تصريحات الأخ خالد "أبو الوليد" مفاجأة لي، فالرجل أعرفه منذ بداية الثمانينيات، وفكره مألوف لديَّ بهذه المرونة والعقلانية والانفتاح، ولا تنقطع ابتسامته وسعيه على استيعاب الآخر واحتضانه، وهو مدرسة في كسب الأصدقاء والانصار، ويحسن التعامل - بأدبه الجم - مع الجميع، وقد سبق له أن وضع جزءاً من أفكاره في حديث مطول أجرته معه صحيفة السبيل في يوليو 2010، وتمَّ نشره في كراس كمذكرة توضح مواقفه السياسية، تمثل رؤية متقدمة عن خطابات الآخرين من قيادات الحركة في الداخل.
ومن الجدير ذكره، أن الأخ خالد "أبو الوليد" في كل مواقفه وتصريحاته كان حقيقةً يعكس هذه الروح التوافقية والمواقف الإيجابية تجاه الحالة الفلسطينية، وهو يتمتع بالكثير من الخصال الحميدة، التي كانت تميز شخصية الرئيس القائد ياسر عرفات (رحمه الله)، وخير سُراة القوم من قياداتنا الفلسطينية.
نعم؛ أخطأنا.. ربما لم يقلها أحد آخر من قيادات حركة حماس بهذه القوة التي نطق بها على الملأ الأخ خالد (أبو الوليد)، ولكنَّ آخرين قالوها في الجلسات المغلقة، وأيضاً حين تطلبت الصراحة ألا يكذب الرائد أهله.
لقد كان د. موسى أبو مرزوق والأخ د. غازي حمد والأخ سيد أبو مسامح، والأخ حسن الصيفي وآخرون من بين هؤلاء الذين أشاروا واعترفوا بوجود أخطاء، ولكن في سياقات لم تضعهم ضمن دائرة "التغريد خارج السرب"، وظل هذا المصطلح علامة مسجلة باسم "د. أحمد يوسف"!!
كنت أكثر من تعرض للمراجعة والاتهام، رغم أن أحاديثي كانت في الإطار الوطني العام، الذي يعزز وحدة شعبنا واجتماع شمل الكل الوطني، والدافع هو قناعتي بأن الحق فوق كل أحد، وأن الوطن قبل كل شيء، فنحن لم نأت لهذه الحركة ونترك ما كنا عليه من أيديولوجيات إلا من أجل عيون فلسطين وقرانا المهجرة، وأهلنا الذين ينتظرون أن نعيدهم من مخيمات اللجوء والشتات، لم نلتحق بدعاة المشروع الإسلامي إلا لأن القدس والأقصى كانت هي النداء، وكانت عنوان بوصلتنا الوطنية. لم نغادر محطة الناصرية إلا لأن الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) وعدنا أن يقدم لنا البديل، الذي يجتمع عليه شملنا أجمعين؛ مذكراً إيَّانا بعين جالوت وحطين، وأن الصهيونية كمشروع استعماري إلى زوال، وأنه الأمين على مستقبل هذا الشعب العظيم.
بهذه الأمانة والإحساس العالي بالمسئولية كان شرف انتسابنا لهذه الحركة الإسلامية، وكان العهد هو أن تتسع صدورنا لكل أهلنا، وأن نحتضنهم بالابتسامة والكلمة الطيبة، وأن مفاتيح الرشد في ذلك كانت تلك المعاني العظيمة التي طالما كنا نتواصى بها، مثل: (وقولوا للناس حسناً)، (والصلح خير)، (وأثابهم الله بما قالوا) ونحو ذلك.
وأنا أسمع أخي خالد (أبو الوليد) يقول: "لقد أخطأنا"، أدركت أننا قد أصبنا، وإن كانت الخطوة قد جاءت متأخرة عشر سنين، فالاعتراف بالخطأ هو بداية الوعي، وأول طريق الإصلاح والتغيير.
إنك بهذه الكلمة "لقد أخطأنا" أيها الأخ الكبير قد فتحت الباب للمراجعات داخل الحركة هذا من ناحية، وقد نقلت الكرة أيضاً لملعب الآخر لكي يمتلك الشجاعة ويقول نعم؛ ونحن كذلك أخطأنا.
أتذكر أنني تحدثت في أحد البرامج التلفزيونية في عام 2010، وقلت إن ما جرى في يونيه 2007، كان خطأ ويتحمل مسئوليته الجميع، وأن هذه الدماء الفلسطينية الغالية التي سالت تحتاج منا أن نعتذر لأصحابها، وقلت: أنا أول من يعتذر ويعترف بالخطأ الذي وقع، وبعد أسبوعين من ذلك الاعتذار خرج أيضاً محمد دحلان وقال: نعم؛ أخطأنا.
ولاكتمال المشهد، فنحن اليوم - أيضاً - نطالب الأخ الرئيس أبو مازن؛ كبير العائلة الفلسطينية، الجهر بالقول بأن السلطة الفلسطينية هي الأخرى قد أخطأت، وتتحمل - بشكل أو بآخر - جزءاً من المسئولية عما جرى، وكان سبباً في هذا الانقسام.
الشراكة السياسية: طريق الاتفاق والوفاق الوطني
في عام 2006، كان التوجه لدى حماس هو بناء نظام حكم يقوم على مبدأ الشراكة السياسية والتداول السلمي للسلطة، ولكن محاولتها لم يكتب لها النجاح في الحكومة العاشرة، ربما لأن سقف حماس كان عالياً، وخطابها واشتراطاتها لم تكن بالمستوى الذي يعطي المجال واسعاً لرؤية وتحركات الآخرين في فصائل العمل الوطني والاسلامي.
مضت سنوات الحكومة العاشرة مثقلة بطيئة، اختلطت فيها حسابات كثيرة، ونكأت جراحاً كنّا نظنها قد اندملت، فسال الدم أبطحاً، وتحركت نزوات وعصبيات هي أقرب لثقافة الجاهلية الأولى. وأخذ الكل يعمل بنعرات "يا للأوس.. يا للخزرج.." وبعقلية "وأحياناً على بكرٍ أخينا"..!!
ومع إعمال السيف والرصاص كلٌّ في جسد الآخر، عاد بعض الرشد إلى الرؤوس، وحطّ صوت العقل منطقه في جعبة هذا وذاك، فكان أن توسعت القناعة بضرورة العمل في إطار الشراكة السياسية، والتي تجلت ملامحها في حكومة الوحدة (الحكومة الحادية عشرة).
توافقنا على البرنامج السياسي، وتفاهمنا على نصيب كل واحد منّا في الوزارات من حيث العدد والشخصيات المرشحة لها، وكذلك حظوظ كوادرنا في الهيكليات، وتركنا مساحة لا بأس بها للتنظيمات خارج فتح وحماس، لتأخذ مقعدها الذي يؤكد على إثبات رغبتنا في تحقيق الشراكة السياسية.
السقوط في الوحل
لم يمضِ على الصيغة التي توافقنا عليها في مكة – فبراير 2007م - سوى ثلاثة شهور حتى انهار كل ما بنيناه، وأصبحنا "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا".. صحيح أن حماس حاولت أن تعض على جراحها وتنقذ مشروعها السياسي في الحكم، ولكن ظلت هناك أيادي تعبث في الظلام، وتتربص لتخريب كل ما تمّ التوافق أو التفاهم عليه وطنياً.
لاشك أن جهات التواطؤ والتآمر كثيرة، فالاحتلال لا يريحه مشاهدة شعبنا موحداً كالبنيان المرصوص، والإدارة الأمريكية التي أعلنت "الحرب على الإرهاب"، وأدرجت حركة حماس ضمن قوائمه، لا يمكنها تحمل رؤية الإسلاميين يحققون نجاحاً في الحكم أو كسباً في السياسة، والنظام العربي يتوجس – بطبعه - خيفة من التمكين لأصحاب المشروع الاسلامي الوطني الذي تقوده حماس.. من هنا، عمل الجميع لإجهاض تجربة حضور الإسلاميين في مشهد الحكم والسياسة.
لقد آثرت هذه الجهات المتآمرة، والمتهمة وطنياً، أن تسقط شعبنا في الوحل، ليقتل بعضنا بعضاً، وتتمرغ صورتنا الوضيئة في طين لازب، يُذهب إشراقة المشهد الفلسطيني وصفائه من حاضنة الوجدان العربي والاسلامي.
نعم لقد أنجزنا وثيقة الوفاق الوطني في يونيو 2006، وعلى هديها حاولنا أن نتحرك نحو شراكة سياسية حقيقة، ولكن الظروف خذلتنا، وجهلنا في معرفة ما كان يبيته الأعداء لنا، دفع كل واحد منا أن يضع خنجره في خاصرة الآخر!!
واليوم، وقد تجاوزت محنتنا أكثر من عقدٍ من الزمان، إلا أننا ما زلنا نتحرك على غير هدى، يتربص كلٌّ منّا بالآخر، ألسنتنا حادة في الطعن والسباب، بالرغم من توجهاتنا الصادقة، والتي أفضت - رسمياً - إلى المصالحة وإنهاء حالة الانقسام في أبريل 2014، ومراهنة كل منّا – آنذاك - على الانتخابات القادمة أن تشفي له الغليل، وأن تمنحه تفرداً يفري كبد خصمه العنيد، ويعيد له مجداً لم يحفظ طهارته فيما غبر من السنين.. للأسف، حتى هذا الحلم الجميل لم يتحقق، وما زلنا نراوح في نفس المكان حيث التلاحي والاتهام!!
طريق الحل والخلاص: الشراكة السياسية والتوافق الوطني
في الحالة المأساوية التي تمر بها قضيتنا، حيث إن شعبنا يعاني من كارثة ثلاثية الأبعاد؛ الاحتلال والحصار والانقسام، فليس أمام فصائل العمل الوطني والإسلامي إلا الاتفاق والتفاهم في إطار شراكة سياسية تحفظ جميع مكونات الكل الوطني، وتمنحه مساحة للتحرك في الحشد والتعبئة والفعل المقاوم.
إن وجود شعب تحت الاحتلال يستلزم تأكيد شراكة الجميع في وضع الرؤية الاستراتيجية للوطن.. إن كل ما حولنا يشي بحاجتنا إلى تفكيك كل بؤر التوتر ومضخات التصعيد، والسماح بانسياب الجهد الوطني والإسلامي في عملية تكاملية تعاظم من إمكانيات صمودنا في وجه مخططات الأعداء، الذين يمكرون بنا الليل والنهار.
إن الشراكة السياسية كمصطلح للتعايش وحل النزاعات الداخلية هو آلية تعاطت معها الكثير من شعوب العالم، التي مزقتها الحروب الطائفية والأثنية والدينية، حيث وجدت في الشراكة السياسية طوق النجاة الذي يحمي من الغرق.. ونحن وإن كنّا في مجتمعنا الفلسطيني أكثر انسجاماً وتجانساً في التركيبة الاجتماعية، إلا أن النبرة الحزبية والفصائلية قد نخرت عظام شعبنا، واستوطنت نخاعنا الشوكي بشكل يهدد أساسات مشروعنا الوطني، ومستقبليات نسيجنا الاجتماعي وفعلنا المقاوم.
لذلك، ونحن نتحرك في اتجاه المصالحة الوطنية وانهاء حالة الانقسام علينا أن نؤسس لمرتكزات استمرار الوفاق والاتفاق فيما بيننا، والابتعاد عن لغة الاتهام والتجريح الذي يتجرع شعبنا غثائياتها على الفضائيات صبح مساء. إن على الجميع أن يفهم أننا شعب يحتاج إلى من يمد لنا يد العون الإنساني والسياسي والمعنوي، وهذا يستدعي أن نكون صفاً واحداً يخاطبنا الأخرون بالقول: "إنك شعب جئت على قدر"، فينتصر لمظلوميتنا كل حرٍّ في هذا العالم. وعلينا أن نتذكر جميعاً أنه لا يمكن بناء وطن على قاعدة من الخلاف والتحريض والخصومة.
إن الطريق للتعايش والحفاظ على مقدرات شعبنا، وقوى الفعل المقاوم فيه، تتطلب أن نبني نظاماً سياسياً قائماً على مفهوم الشراكة، يتمثل فيه الجميع كلّ بحسب حجمه وقاعدته العامة، ولا يتفرد فيه طرف دون الآخر، وأمهات المسائل يجب أن تؤخذ في مثل وضعيتنا بالإجماع، وينطبق على حالة التعامل فيما بيننا مقولة أبي بكر للأنصار في اجتماع السقيفة: "لا تفتاتون بمشورة ولا تقضى دونكم الأمور".. شركاء في الدم شركاء في القرار، هذا الوطن نحرره معاً ونبنيه معاً.
إن الشراكة السياسية تعني إشراك جميع مكونات الشعب السياسية في صنع القرار، بنية الوصول إلى المصلحة العامة وإلى الهدف المشترك، دون استئثار أي طرف من الأطراف بحق الهيمنة أو الفيتو الذي من شأنه أن يُخرج الشراكة من مفهومها الحقيقي إلى مفهوم المحاصصة، مع مراعاة أن تأخذ الأغلبية بنظر الاعتبار وجهة نظر الأقلية (الحزبية) كي لا يصل الأمر إلى الاستبداد من قبل الأكثرية.
أتمنى بعد تجربتنا الدامية، وهوان أحوالنا ودموعنا على الناس من شعوب أمتنا، وبعد عشر سنوات عجاف لم نحقق فيها ما كنا نتطلع لإنجازه، أن نسعى مجتمعين لتكييف علاقاتنا للتعايش مع بعضنا البعض، وأن نعمل بروح أن الوطن هو ساحة التدافع وبذل الجهد، وهو سقف الجميع وملاذهم الآمن.
وفي الختام أتمنى أن نستثمر تلك التعابير الإيجابية التي أطلقها كل من الأخ خالد مشعل والرئيس ابو مازن، وحتى محمد دحلان بكل ما عليه من تحفظات؛ جهة الرئيس وحركة حماس، فقد كان في بيانه الكثير من موجبات العفو والانفتاح لرأب الصدع وتوحيد ساحات الوطن.
أخي أبا الوليد أهلاً بك لمزاحمتي شرف الاتهام، وإن كان "التغريد خارج السرب" ليس عيباً أو منقصة، بل هو قوة دافعة لطاقات الأقوياء، بهدف سرعة الوصول إلى الأهداف.. يقول المكر الإسلامي خالص جلبي: "لا تنضج الروح بأفضل من جو المعاناة والمواجهة، وليس مثل الوعي نوراً، وأن أعظم مؤشر على الحكمة هو تقبل النقد وتحمله، وشكر صاحبه والاستفادة من الملاحظة، فليس من إنسان فوق الخطأ، ودون الزلة والحيد عن جادة الصدق.."، ويضيف قائلاً: "لا يمكن للعقل أن ينضج إلا بالتأمل والمراجعة".