الأربعاء: 27/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

وداعا بان

نشر بتاريخ: 06/10/2016 ( آخر تحديث: 06/10/2016 الساعة: 18:03 )

الكاتب: ميساء جيوسي

يرحل السكرتير العام للأمم المتحدة بان كي مون عن منصبه بعد أن أكمل مدة العشر سنوات في ولايته كثامن أمين عام للأمم المتحدة. "بان" يرحل من منصبه تاركا العالم محملا بثقيل الحروب، وكثير الويلات وتفاقم أزمات العالم في شرقه وغربه، شماله والجنوب. قطعا لا يتوقع المرء العاقل منا أن هذا الرجل أو أي سابق أو لاحق له في هذا المنصب والذي يعد أعلى هرم الدبلوماسية عالميا، بأن يمتلك عصا سحرية يحول بها العالم إلى مكان فاضل ينعم به قاطنوه بأساس ما قامت عليه تلك المنظمة العالمية من إعلاء لحقوق الإنسان والتنمية والحد من الفقر والمرض ونشر السلم والأمن الدوليين. بل على العكس أثبتت هذه المؤسسة الدولية إخفاقها بجدارة في التصدي لمئات الأزمات الدولية والكيل بمكيالين في عديد من القضايا التي تتعقد بمرور الزمن. فما بنيت عليه المنظمة لا يعدو حبرا على ورق والإنسان لا يتمتع بأبسط حقوقه في كثير من بقاع الأرض.
على الصعيد الشخصي في العام 2008 حظيت بلقاء الرجل كجزء من وفد صحفيين فلسطينيين تلقينا دورة تدريبية في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وكان على جدولنا لقاء السكرتير العام. قبل يوم اللقاء قيل لنا ما هي ترتيبات اللقاء وكيف انه لقاء سريع قد لا يتعدى العشرة دقائق. ثم طلب منا منظم البرنامج أن نختار من ضهرانينا ممثلا للوفد يتحدث للامين العام عن وضع الأراضي المحتلة. فكان من كرم زملائي وثقتهم أن رشحوني لهذه المهمة ليلة اللقاء، فلم اعلم ماذا سأقول له؟ أأقول له وطني مصلوب على جدران الاحتلال منذ الأزل؟ ااقول له أن لنا حقا غفت منظمته ودولها عنه؟ أأقول له انك ومنظمتك تكيلون بمكيالين، تقفون مع القوي وتغضون الطرف عن الضعيف؟ أأقول له أن كل دولار وساعة عمل في هذه المؤسسة هي هدر للموارد وذر للرماد في العيون...طبعا لا! كيف أجرؤ أن أكون بهذه الفجاجة والمواجهة.. ورحت أجيء وأغدو في ممر شقة مانهاتن ليلة اللقاء محاولة إيجاد المدخل الأمثل لأقول لبان أننا شعب يستحق الحياة بأمن وسلام؟
جلست على الانترنت وحاولت أن أتعرف على بان على المستوى الشخصي، من هو؟ كم طفل لديه؟ من هو كانسان لا كسياسي في منصب "حساس" ، لعل مدخلي لحديثي معه يكمن هنا... وفعلا كانت المفارقة. علمت من المعلومات الوفيرة حوله على الانترنت أن لديه بنتان وولد. وأغمضت عيني ليلتها وفي دماغي كم من المعلومات المنشورة عنه كإنسان لا كأمين عام.
قادنا مسئول البرنامج في أروقة طويلة في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك تشعرك بالملل والرتابة ، صعدنا بالمصعد إلى طوابق مرتفعة جدا ومررنا في بوابات محاطة برجال امن، الجميع كان في قمة الحماس لأنهم سيلتقون الرجل، أنا وحدي من كنت اشعر بالتوتر. استخرج الكلمات من حلقي؟ أم إني سأتلعثم لما يحيط بهذا الرجل من هالة يعطيها إياه كل ما يحيط به، المكان، الأشخاص، الأمن. دخلنا إلى غرفة كل ما فيها بني اللون كأنما رشقها احدهم بعلبة طلاء لم تخطئ أي جزء منها، فالأرض بنيه، الأثاث بني، الجدران بنيه. جلسنا وزملائي حول طاولة بيضاوية لوحدنا وفي طرفي الغرفة بابين نرتقب من أي منهما سيدخل الرجل الذي حفظنا شكله عبر شاشات التلفاز وصفحات الصحف الصفراء.
دخل بان ووقف الجميع بذهول، ثم قدمني مسئول الوفد على إنني المتحدثة فقلت له ولعل ذاكرتي لا تخونني هنا، قلت له سيادة الأمين العام لقد كتبت في صغرك رسالة للامين العام إبانها قائلا انك تحلم بلقائه، أنا محظوظة أكثر منك، فانا التقي بك اليوم دون أن اكتب لك رسالة. أيها الأمين العام، لك من الأبناء ثلاثة، تخيل أن يذهب احدهم إلى المدرسة فيعود محملا على أكتاف البشر ميتا من طلقة قناص محتل باغتته وهو يلهو بباحة المدرسة... لهثت بكلماتي ولم اعلم ما كان وقعها عليه وأنا اختم بأمنية لم تتحقق قائلة له، أتمنى أن تعمل الأمم المتحدة تحت قيادتك على إيجاد حل عادل وشامل لقضية فلسطين المحتلة.
عندما خرجت قال لي رئيس البرنامج أنني أبدعت بإيصال الرسالة وان الأمين العام بدا مشدودا متأثرا بما قلت. جميل أن شده كلامي للحظات قبل أن يخرج من باب الغرفة وقد التقطنا معه صورا تذكارية وينسى في جدول يومه المزدحم ما همسته بإذنه حول أطفال يموتون صرعى نزاعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل. في اليوم التالي كتبت الصحف عن اللقاء وقرأها الناس في فلسطين وهللوا للقائنا به، لكن الفرحة انتهت مع نهاية اليوم والبشر يلقون بالصحف وفيها صورنا مع الأمين العام وكلامنا له في سلات المهملات.
وداعا بان وأهلا لمن سيجلس مكانه حاملا ميزان العدل المختل لعشرة أعوام قادمة. ينظر للعالم من أعالي أبراج نيويورك ولا تصله صرخات الملايين من المتشردين والمقهورين المدحورين بفعل القوى العظمى في العالم.