نشر بتاريخ: 09/10/2016 ( آخر تحديث: 09/10/2016 الساعة: 10:42 )
الكاتب: نعيم الأشهب
في كلمته التأبينية لشمعون بيرس، قارن الرئيس اﻷميركي أوباما، المتوفي بنلسون منديلا ! إن هذه المقارنة اﻹستفزازية الصارخة في زيفها ،تستدعي الى اﻷذهان ، ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي، في هذا الصدد:
أما ترى أن السيف ينقص قدره ، إذا قيل إن السيف خير من العصا؟!
أليس مجرد جمع إسم عملاق التضحية والفداء في سبيل الحرية ، نيلسون مانديلا، بإسم قزم قاتل مثل شمعون بيرس إهانة مدوية لكل القيم اﻹنسانية ؟ منديلا ، الذي أمضى في سجون نظام الفصل العنصري الوحشي ، قرابة ثلاثة عقود ، قدّمها بقناعة ، من عمره ، قربانا على مذبح حرية شعبه ، للخلاص من ذلك النظام الهمجي ، الذي بقي حتى لحظاته اﻷخيرة يحظى بدعم وعطف الوﻻيات المتحدة ، والعلاقات المتميزة مع إسرائيل ، في مختلف المجاﻻت الإقتصادية والسياسية والعسكرية ، بما في ذلك في المجال النووي .. أما بيرس ، فهو الذي أدخل السلاح النووي الى الشرق اﻷوسط وهو مهندس العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام ١٩٥٦، مع معلمه بن غوريون، وهو المبادر للإستيطان الكولونيالي في اﻷراضي الفلسطينية التي احتلت في حزيران ١٩٦٧، وهو جزار مذبحة قانا عام١٩٩٦، وهو باختصارذلك "الدساس الذي ﻻ يكلّ" كما وصفه زميله اسحق رابين ( وأتى عليها الصحفي اﻹسرائيلي أوري أفنيري في مقال له عن بيرس ، عقب إصابته بالجلطة الدماغية التي أدت الى وفاته)، فهل تستقيم المقارنة بين الرجلين يا أوباما؟!.
ولم يكتف أوباما بهذا الرياء المندلق في وصف شمعون بيرس ، بل راح يتغزّل ب "أمجاد" الحركة الصهيونية ، مقدّرا لبيرس تعريفه بها، حيث تقع قيم "العدل واﻷمل" في مركز القلب منها- على حدّ زعمه . لكن أوباما في هذا التزييف الصارخ للحقيقة والتاريخ يواصل مسيرة كل من سبقه من الرؤساء اﻷميركيين ، منذ قيام دولة إسرائيل ، بتأكيد القيم المشتركة اﻷميركية - اﻹسرائيلية . فوفقا لهذه القيم المشتركة فإن غزو أفغانستان والعراق وليبيا ، وشن الحروب بالوكالة على سورية واليمن وغيرهما ؛ ومن الجانب اﻵخر، احتلال إسرائيل لبقية اﻷرض الفلسطينية ومصادرة المزيد منها ، لإقامة المزيد من المستوطنات الكولونيالية الصهيونية فوقها ، وفرض نظام اﻷربارتهاياد المشين على الشعب الفلسطيني الواقع تحت اﻹحتلال اﻹسرائيلي .. هذه كلها تقع في إطار" الدفاع" عن الحرية ونشر الديموقراطية! لكن حجر اﻷساس في هذه القيم المشتركة هو ممارسة التطهير العرقي بأبشع أشكاله الدموية ، هذا التطهير العرقي الذي يمثل العلامة الفارقة، في التاريخين اﻷميركي واﻹسرائيلي . وباﻹستناد الى هذا التطابق في القيم اﻹسرائيلية - اﻷميركية فإن نتنياهو، الذي يقف فوق أرض جرت فوقها عملية تطهير عرقي ضد شعب بأسره يعتبر، اليوم ، المطالبة بتصفية اﻹستيطان اﻹسرائيلي في اﻷراضي التي احتلت عام ١٩٦٧ ، والمدان من المجتمع الدولية كله ، يعتبرهذه المطالبة تطهيرا عرقيا ضد اليهود!
هذه نماذج من القيم المشتركة اﻷميركية - اﻹسرائيلية ، والتي ألهمت أوباما بمقارنة بيرس بمنديلا، وانطلاقا أيضا من تطابق فهم الطرفين لمفهوم الديموقراطية والحرية. دعى الكاتب اﻹيرلندي الساخر، برنارد شو، عقب الحرب العالمية الثانية، لزيارة الوﻻيات المتحدة ، فعقب في رفضه لهذه الدعوة بما يلي:" يقولون انني كاتب ساخر، لكن لم تبلغ بي السخرية حدا أن أذهب الى أميركا واشاهد تمثال الحرية على بابها"!.( وهذا التمثال، القائم في مدخل نيويورك ، هو هدية الثورة الفرنسية الكبرى١٧٨٩، الى الشعب اﻷميركي الذي ثار على الحكم البريطاني).
على صعيد آخر، يبدو أن عدوى الخلط بين البطل والقاتل، و بين القزم والعملاق ، وبين المحتل وضحيته ، لم ننجو منها، نحن الفلسطينيين بكل أسف ، فالرئيس عباس تحدى إرادة شعبه وقواه الوطنية ليشارك ، وحتى دون دعوة من الطرف اﻹسرائيلي، ﻻ من لجنة التأبين الرسمية وﻻ من أية جهة رسمية إسرائيلية أخرى ، في جنازة بيرس، متجاهلا السجل اﻷسود والحافل لبيرس ضد الشعب الفلسطيني ، لكنه لم يتلقى على هذا الحضور إﻻّ التجاهل التام ، من جميع المسؤولين اﻹسرائيليين الذين تعاقبوا على منصة الخطابة ، وفي مقدمتهم نتنياهو، والذين حرصوا على ذكر كل من شارك في حفل التأبين ، حتى دولة لوكسمبرغ ، التي قد ﻻ تظهر على الخارطة ، عداه. أما اللقاء العرضي بينه وبين نتنياهو، فقد دام خمسين ثانية، أي أقل من دقيقة واحدة ، كما جاء في صحيفة هآرتس اﻹسرائيلية.
واستطرادا لهذا النهج في الخروج على إرادة شعبه ، بل وتحدّيه له ، حرص الرئيس عباس، في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أن يؤكد من جديد ، و دون أي مبرر أو سبب ، استمرار وقوفه الى جانب السعودية ، في حربها العدوانية الظالمة على الشعب اليمني الشقيق ، وما ترتكبه من جرائم مروّعة ضد السكان اﻷبرياء بما في ذلك اﻷطفال، بخاصة عبر الغارات الجوية. هذا، على الرغم من أن السعودية هي المحرّك اﻷساسي وراء اﻹنذار الذي وجهته الرباعية العربية مؤخرا للرئيس عباس ، والذي يحوي في طياته إنذارا له بالتغيير واﻹستبدال.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد ، الى متى هذا التصعيد في تحدي الرئيس عباس ﻹرادة شعبه .. الى متى؟ّ!