الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

فلسفة "باولو فريري"التعليميةوالثقافيةتحضرفي تجربةالمعتقلين الفلسطينيين

نشر بتاريخ: 13/10/2016 ( آخر تحديث: 03/04/2020 الساعة: 05:10 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

التجربة التعليمية والثقافية للمعتقلين الفلسطينيين، لم تأخذ حقها من التأريخ والتوثيق والتحليل، وكل ما كتب عنها ظل يلامس السطح، دون أن يطال العمق، مع أن ما تحقق كان عظيماً ومدهشاً، من حيث الأبعاد الوطنية والفلسفية للتجربة، وكذلك الأهداف والانجازات التي تم تحقيقها على مدى بضعة عقود من الزمن.

أما السؤال الرئيس الذي نطرحه في هذه المقالة:- لماذا أقدم المعتقل الفلسطيني على تعليم وتثقيف نفسه؟
سؤال كبير، تتطلب الاجابة عنه الانطلاق من توضيح "فلسفتين" تلخصان الاعتقال:-الأولى احتلالية والثانية الرد عليها بفلسفة أخرى نقيضة.
حينما زج ويزج الاحتلال بهذه الأعداد من المعتقلين منذ العام 67 وحتى الآن، لتصل نسبة الاعتقال إلى أعلى نسبة في التاريخ البشري، حيث وصلت ما يقارب اعتقال مليون فلسطيني، وبمقارنة هذا العدد بالتعداد السكاني الكلي في الضفة والقطاع، نجد أن الرقم صادم، لكن السؤال الفرعي الذي يطرح نفسه في هذا السياق:- ما الذي أراد ويريد الاحتلال تحقيقه من هذه العملية؟
هناك هدف مرحلي واستراتيجي مركبّ يكمن خلف ذلك، فالاعتقال يعني العزل، والعزل يتمثل في اقصاء النشطاء والفاعلين وابعادهم من مجتمعهم، لتحييدهم أو النقل لجعل هذا الدور يتقلص تدريجياً مع امتداد سنوات الاعتقال، فلذلك تم حرمانهم في بداية الاعتقال من حقهم في الدفتر والتعلم والكتاب، في محاولة لتحويل الإنسان المعتقل إلى "جسم" لا حول له ولا قوة، أو إلى هيكل آدمي مفرغ ومتآكل، وفي ذلك تقريب من الموت، أي قتل روح الوعي الوطني والإنساني.

• باولو فريري عالم تربوي برازيلي، مبدع نظرية التعليم الحواري المناقضة للتعليم التقليدي "البنكي".
لتقابل هذه الفلسفة التفريغية، بردود المعتقلين التي أخذت أشكالاً نضالية، لانتزاع الحق في القلم والدفتر والكتاب، ليتسنى لهم انتزاع بعض حقوقهم التعليمية والثقافية، كأساس للبناء على ذلك، رافقها بروز مبادرات تعليمية وثقافية وصحافية، كدورات محو الأمية، والتركيز على المنهاج التعليمي الابتدائي والاعدادي والثانوي، إلى جانب تبلور مواهب كتابية وإبداعية أخذت تعبر عمَا يعتمل في مكنوناتها من شعر وقصة ونصوص مسرحية، وفي فترة لاحقة من خلال الرواية والبحث واللوحة التشكيلية.

تدرجت التجربة وتطورت من عام إلى آخر، بفعل آليات تعليمية وثقافية أنتجت وأثمرت من خلال فعل جماعي منظم، وبطرق إبداعية، لا اكراه فيها ولا تلقين، فالجماعة تحتضن الفرد، والفرد يتفاعل مع الجماعة تطويراً وتمكيناً. وغاب من العملية المعلم التقليدي "صاحب المعرفة المطلقة"، وتكاملت الجماعة في أدوراها، فالتعليم والتثقيف استند إلى التجربة الجماعية الحوارية الديمقرطاية، من يعرف في مجال يعلم ثم ينتقل المعلم إلى حلقة تعليمية أخرى ويأخذ دور التلميذ لدى تلميذه السابق في ميدان مختلف، حسب التخصص والقدرات والامكانات، والطلبة في الحلقة هم معلمون أيضاً يقترحون ويناقشون، يرفضون ويقبلون. وكأنهم كانوا يطبقون فلسفة"باولو فريري التعليمية" المناقضة للتعليم "البنكي" التي تكتفي بايداع المعلومات وحشوها في ذهن الطالب، وربما قبل أن يطلعوا على هذه الفلسفة، وإنما توصلوا إليها انطلاقاً من الحاجة وخصوصية الظروف.

استمرت التجربة في تطورها لتنتج متخصصين وتحديداً في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في حقول الأدب والاقتصاد والفلسفة والعلوم واللغات والصحافة، وتتحول المعتقلات من ساحات مغلقة للتفريغ إلى "مدارس وجامعات" تخرج أفواج الأدباء والباحثين والنقاد والضليعيين في الترجمة، ولو أردنا من خلال مقالة أو بحث أن نرصد أسماء الكتاب والمترجمين والباحثين، لاصطدمنا بصعوبة العملية، نظراً لتعددها وتنوعها واتساع مجالاتها، حيث تبوأ معتقلون سابقون مواقع مهمة في المجتمع الفلسطيني، في اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين، وفي مؤسسات حكومية وأهلية وخاصة، إضافة إلى إصدارهم عشرات دواوين الشعر والقصص القصيرة والروايات والنصوص المسرحية والبحوث، التي كُتبت مخطوطاتها الأولى في الاعتقال، بالتزامن مع تخريج الأكاديمين بعد أن تسنى للمعتقلين باصرارهم ونضالاتهم تحقيق مطلب الانتساب التعليمي للجامعات المفتوحة، حيث تشرف الكفاءات الأكاديمية في المعتقلات على بحوث ودراسات المنتسبين، وهذه الكفاءات هي منتدبة رسمياً للاشراف على الطلبة من جامعات فلسطينية، بإدارة ومتابعة المناضل والأكاديمي المعتقل الدكتور مروان البرغوتي.

لقد رصد الجزء الأول والثاني من موسوعة الأسرى الصادرة عن مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة جوانب من التجربة، لكن في رأيي أن ما تحقق خلف القضبان تعليمياً وثقافياً وإبداعياً، بحاجة إلى مزيد من الدراسات الأكاديمية المتخصصة، التي تعتمد منهجيات علمية، وتناقش فرضيات وأسئلة وتخلص إلى نتائج، فالتجربة هي مزيج من نضال وإرادة وتنظيم جماعي وطموح فردي، فهي تجربة من عظم ولحم وأعصاب وفكر، تجلت فيها العلاقة الجدلية بين الفرد والجماعة في تكامل وتناغم أثمر ما أثمره حتى الآن، وتجربة المناضل الفلسطيني فهد أبو الحاج وحدها تتطلب قراءة ودراسة خاصة "من الأمية إلى الدكتوراة"، حيث تخرج من التجربة بعد أن تعلم القراءة والكتابة وتدرج في المنهاج المدرسي، إلى المناهج الجامعية، وتحرر وأسس متحف أبو جهاد "لشؤون الحركة الأسيرة" وهو المتحف الأول في فلسطين على هذا الصعيد ويحوي آلاف المخطوطات الثقافية والإبداعية التي كتبتها أقلام انتصرت على القيد. إنها واحدة من نماذج ما تمخضت عنه العملية التعليمية والثقافية في الأسر.