نشر بتاريخ: 16/10/2016 ( آخر تحديث: 16/10/2016 الساعة: 10:18 )
الكاتب: رائد محمد الدبعي
مهلا، بالتأكيد لن أبحر في هذا الوهم ، فلست عضوا في مجلس شيوخ قسطنطينة، ولا مولعا بجدل اللاهوت الديني، إنما هي محاولة للعبور سويا نحو النجاة، عبر الغوص في مكنونات الذهنية الفلسطيني الجمعية، لسبر أغوارها، ومن ثم تفكيك مدخلاتها، نحو إحياء ثقافة مجتمعية تحتكم إلى العقلانية، والحكمة، والوعي، والقرارات المرتكزة إلى تحليل عميق للواقع، وما يحمله من فرص، ويعتريه من تحديات، استنادا إلى المعلومات الموثقة، المسندة بالأرقام والدلائل الحقائق الثابتة، مقابل عقلية الجدل البيزنطي المستشرية، والتي تعصف بوعينا، وتماسكنا، وقضيتنا، وقدرتنا على الصمود، في ظل رياح الجهل والقبلية والانقسام، التي تصفع مقومات وجودنا على الأرض، وتهدد مستقبل أجيالنا عليها، وهو الأمر الذي يتطلب تفكيك واع وممنهج للذهنية الغيبية، والعقلية السطحية الجاهلية التي توجه سلوكنا الجمعي فلسطينيين وعرب، وإعادة بناء ثقافة جديدة، تعلي من شأن العقل، والمنطق، والتفكير النقدي البنّاء.
قبل أيام، مر خبر قرار الاحتلال تسليم أهالي قرية جالود، الواقعة جنوب شرق نابلس، إخطارا بمصادرة ما يزيد عن400 دونم من أراضي القرية، بهدف بناء مستوطنة صهيونية جديدة مرورا عابرا في وسائل الإعلام المحلية، فيما لم تلتفت القوى والفصائل لهذه الجريمة التي تشكل مجزرة حقيقية بحق الآلاف من أشجار الزيتون التي زرعت قبل مئات السنين، بالإضافة إلى أنها ستلوث البيئة، وتضاعف نسب البطالة، وتقود نحو فصل شمال الضفة الغربية عن الوسط والجنوب، مما سيراكم من مأساة الفلسطيني، ويضاعف من تعقيدات حياته اليومية، بينما اعترى الصمت المخجل موقف الكتّاب، والمحللون، ومؤسسات المجتمع المدني، وكأننا ضيوفا عابرين على هذه الأرض، أو أنها لا تحمل تاريخنا، وتراثنا، وذكريات الأجيال المتعاقبة عليها، ومستقبل أجيالنا، أو أن ما يحيق بها من أخطار لن يصيبنا فرادى ومجموعات.
جالود بأرضها، وزيتونها، ومواطنيها، وتاريخها، ليست سوى الضحية الجديدة على قائمة فاتورة حسابنا الطويل مع المحتلين، تضاف لشقيقاتها في القدس، والخليل، وبيت لحم، وسلفيت، وكل زاوية من فلسطين، في مشهد مأساوي، وبرنامج مدروس ومنظم من قبل الإحتلال، منذ قيام الحركة الصهيونية حتى الآن، فيما وللأسف يتصدر الجدل حول خطبة فنان، أو تصريح صبياني لوزير سابق ضد التراث، أو رفض مشاركة فلسطينية ارتداء ملابس البحر في عرض لملكات الجمال، أو إقامة حفل فني لمطرب عربي في فلسطين، صدر صفحات وسائل الإعلام الاجتماعي، ورؤوس الأخبار، في مشهد لا يختلف عن جدال مجلس شيوخ قسطنطينية أثناء حصار محمد الفاتح لها، إن كانت الملائكة من الذكور أم الإناث، وإن كان إبليس كبير بحيث لا يسعه أي مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة.
ما يؤسف بحق، أكثر من حالة الانحدار الثقافي، والتراجع الفكري، واضمحلال آفاق الوعي المجتمعي، وانعدام الشعور الجمعي بالأخطار التي تعصف بنا، هو حالة التغييب الممنهج، أو الغياب الطوعي للمثقفين عن المشهد العام، وعن صياغة السياسات العامة، والتأثير بالرأي العام، قيادة، وتوجيها، وتنويرا، إذ أن العلة لا تكمن بمن يرتئي أن إنجاز رسائل ماجستير حول الانحرافات الإعتقادية في شعر محمود درويش هي واجب شرعي، أو بمن يرى أن الدحيّة هي صوت نشاز، إنما تكمن قبل هذا وذاك، في البيئة المجتمعية، التي مهدت الأجواء لأصحاب تلك الدعوات بان يكونوا من موجهي الرأي العام، وأن يتقلدوا مواقع قيادية في المجتمع، كما أننا كنا نستطيع تجنب جميع الأخطاء الجسيمة التي واكبت الطبعة التجريبية من المنهاج الفلسطيني الجديد، لو تم عرضه على عدد أوسع من المختصين، وأصحاب الرأي والمشورة، ومن الممكن للمسجد والكنيسة أن يقوموا بدورهم الحقيقي، ورسالتهم النبيلة بحث الناس على المحبة، والتسامح، والقراءة، والوعي، والتفكير النقدي، والتحلي بأخلاق الأنبياء، لو كان هناك اهتماما أوسع بتأهيل الخطباء، والوعاظ، والعاملين في هذا القطاع، وكم سيكون لجامعاتنا دور أعمق لو أضيفت مواد تتعلق بالحق العربي في القدس، والفلسفة، والأخلاق، على قائمة المساقات الإجبارية، وكم سنوفر من صراعات بينية لو وجهت الفصائل أبنائها، والناطقين باسمها نحو ثقافة تقبل الآخر، والحوار، والتماس الأعذار لبعضنا قبل إشهار سيوف التكفير والتخوين، وكم سيكون الجيل القادم أكثر حصانة، وقدرة على مواجهة التحديات، لو أضفنا لما نقدمه لأطفالنا من لقاح ضد المرض، لقاح آخر ضد الجهل، والعنصرية، والانغلاق، والتعصب، يحقن العقل، والقلب، والضمير، عن طريق القراءة، والإطلاع، والتربية الصالحة للأبناء، وكم سيكون حالنا أفضل لو شرعت الأبواب لكل النخب الفكرية التقدمية للتعبير عما تختزنه من أفكار، ومبادرات، دون خوف من سياط المجتمع، أو مقص الرقيب .
إن ما يمر به الوعي الجمعي لشعبنا من تغييب ممنهج على يد الاحتلال، ومن تتواطأ مصالحهم معه لهو الخطر الأكبر الذي يعتري الفلسطينيين، وما اقتباسنا لأخطاء الماضي إلا انعكاس لحالة التراجع المضطرد التي نعانيه، وما من حلول لذلك إلا بالحكمة، والوعي، والعقلانية، والتبصر، وتقديم المفكرين، والمثقفين، وأصحاب الرأي للصفوف الأولى في المجتمع، حتى لا يأتي يوما نبكي فيه ما تبقى من فلسطين، ونقف على أطلالها ، كما بكينا الأندلس