نشر بتاريخ: 16/10/2016 ( آخر تحديث: 16/10/2016 الساعة: 10:21 )
الكاتب: عطا الله شاهين
أراني أُولجُ في شوارعِها كل يوم، وأطوفُ في أزقّتها، أشمُّ في كل صباحٍ رائحة القهوة المُنبعثة من مقاه عريقة يرتادها أناس غلابة يقتلون وقتهم في لعبِ النّردِ، أو ورق الكوتشينا، أحاولُ أنْ لا ابتعدُ عن جسدِهاـ فأنا ولدتُ هنا، وعشقتها منذ صغري، وكانتْ جبالها شاهدةً على مخاضِ أُمِّي بين أشجار الزيتون المتشبث بحُبٍّ قرب سرّية رام الله الشّامخة.
كانتْ المدينة هادئة، حينما وضعتني أُمّي على عجلٍ.. وكانَ صُراخي المدوّي في الوديانِ يبعثُ لها حُبّاُ جديدا، وقالت لي أُمّي فيما بعد بأنها غسلتني من ماء البئر، ولفّتني ووضعتني تَحْتَ شجرةِ زيتونٍ كبيرة، وشكرتْ الله على سلامتها، وقبّلتْ الأرض المباركة.
أُحِبُّ رام الله كثيرا، وأزورها كلّ يومٍ، ولا أُفارقها إلا في ساعاتِ الليل، لأعودَ إلى حبيبتي الأخرى، وغالبا أُحبُّ التّململَ في شارع ركب، فأنا ترعرعتُ هناك على جوانبِ الرّصيف المليء بمحلاتٍ مزركشة، يغلبُ عليها الملل، وما زالت رائحة البوظة تسكنُ انفي، لأنّني أمرُّ من هناك، كلما أحببتُ التّسكعَ في ذاك الشّارع..
فأُمّي رحلتْ وتركتني لها، وقالتْ لي إيّاكَ أن تبتعدَ عن مدينةٍ حضنتكَ بدفئها، وتربّيتَ فيها، وتعلّمتَ منها معنى عشق الأرض والمكان، ولهذا أراني أُحبّها كثيرا رغم جراحي.. فأنا أُحبّها كما هي، فهي لم تعدْ كالسّابق خضراء، فالبنايات العالية تشغلُ شوارعها، وأرصفتها صارتْ مزدحمة، ولكنّني أُحبّها كما هي رغم ما أصابَها مِنْ تُخمةِ البناء.
أولج فيها كل يومٍ، وما زال جسدُها شامخاً على التّلالِ رغم أُنوف المحتلّين، إنّها رام الله حبيبتي، التي لمْ ولنْ أُفارقها منذ أنْ تدحرجت على أرصفتِها ولعبتُ في أزقّتها.
أقولُ لها : رام الله أنتِ حبيبتي، ولنْ ابتعدَ عنكِ، فأنتِ تسكنين داخلي، وأراني أسكنُ في شوارعكِ وجبالكِ، وأراني أولجُ كل يومٍ في جسدٍ مُحاصرٍ مِنْ أناسٍ لا يعترفون بالآخر الفلسطيني.
أنتِ يا رام الله شامخة بأُناسكِ الصّامدين، فهاجسك سيظلُّ يسكن كياني، فأنا ما زلتُ على العهدِ بأنْ لا أتركُكِ إلا في ساعاتِ الليل، لأرى حبيبتي الأخرى، فهي تغارُ منكِ لدرجة الجنون، مع أنّها هي الأخرى تحبُّك، ولكنْ بطريقة أخرى، أمّا أنا فاشعرُ بإحساسٍ غريبٍ وأنا أهبطُ على جسدكِ، ولكنني أُحبُّ المكوثَ هناك طويلا لأرتوي منكِ، لأنّكِ أنتِ السّاكنة في وجداني، رغم الهفوات التي تبعدني عنك، اذكر ذات مرة، حينما حاصروكِ وأنتِ كنتِ تنزفين، واقتربتُ منكِ لألعق دمَّكِ، لكيْ تشفي من الجراح، ققلتِ لي: لا تفارقني فأنا أُحبُّ دفءَ قلبكَ..
وها أنت شامخة على تلالكِ رغم أُنوف المحتلّين، فأنا لا أحبُّ سواك، فأنتِ من تجعلينني أُحبٌّ الحياة، رغم أنّكِ لا تغضبين من أناسٍ لا يرحمون جسدكِ المتعب من جنون الفوضى، في أزقّتكِ التي لا تنام.