نشر بتاريخ: 16/10/2016 ( آخر تحديث: 16/10/2016 الساعة: 10:25 )
الكاتب: سري سمور
(7)استقواء صهيوني مع ارتباك عربي
صحيح أن الثورة الفلسطينية الكبرى قد استمرت حتى سنة 1939 أي حتى بداية الحرب العالمية الثانية التي كانت بريطانيا طرفا مركزيا فيها، وكانت معنية ببيع الوهم إلى العرب، ولكن الثورة لم تجد دعما عربيا كافيا لاستمرار اشتعال جذوتها، وذلك في ظل اختلال هائل في موازين القوى لصالح القوة العسكرية البريطانية الرهيبة مقارنة مع الثوار، والذين أبلوا بلاء حسنا، ولكن العدو امتص الضربات الموجعة، وراهن على عامل الزمن من جهة، وعلى الخيار العربي الذي لا يتبنى خيار المواجهة، وكسب الرهان للأسف.
بالتزامن مع انهاك بريطانيا في حربها مع دول المحور وخصوصا ألمانيا الهتلرية، فإن الحركة الصهيونية أدركت أنها لا بد لها من سند ومعين دولي قوي بدل بريطانيا، وكان الأمريكي هو البديل الجاهز وهذا البديل زاد في نوع أو ماهية الدعم عن بريطانيا وذلك بالسعي والعمل من أجل إقامة دولة يهودية في فلسطين، وليس فقط وطنا قوميا لهم حسب وعد بلفور البريطاني.
أما النظام العربي الرسمي وقتها فإنه غالبا تحالف أو تماهى في سياساته مع الإنجليز، والتزم هامش المناورة الذي أتيح له من قبلهم فقط، ولم يحاول بل لم يفكر -عبر الفلسطينيين- في إزعاجهم وخلخلة جبهتهم في المنطقة، ولكن هل كان يجب على العرب والفلسطينيين التحالف مع هتلر، وهل خطوة الحاج أمين الحسيني بالاجتماع مع هتلر صحيحة؟الصحيح أن هذا أمر يكثر الجدل واللغط حوله، ولكن المؤكد أن بريطانيا كافأت العرب على وقوفهم معها بتمكين اليهود الصهاينة من فلسطين، أما الحاج أمين فلم يبلور هوية فلسطينية مستقلة عن النظام العربي الرسمي حتى وهو يلتقي بهتلر، لأسباب ذكرتها في المقالين السابقين الموسومين بـ(فلسطين والمؤثرات العربية) و(سياسة عربية ثابتة).
ولكن هل حينما نتحدث عن دول عربية مستقلة وقتها نقول الحقيقة فعلا؟فالاستقلال العربي كان إلى حد بعيد بروتوكوليا صوريا نظرا للنفوذ بل الوجود الفعلي للإنجليز في تلك الدول وتأثيره على قرارها وخيارها، وإبقاء هامش تحركها تجاه القضية الفلسطينية محكوما بالمصلحة البريطانية وهي المصلحة الصهيونية بلا ريب، ولعل هذا كان سببا كافيا لتكوين حاضنة وطنية فلسطينية مستقلة ولو بحدها الأدنى عن معطيات الظرف الموضوعي للدول العربية شبه المستقلة...ولكن هذا لم يحصل للأسف الشديد.
(8)إرهاصات النكبة الكبرى
من الكوميديا السوداء أن الحركة الصهيونية كان بها مجموعات مسلحة إجرامية ترى في بريطانيا عدوا وخصما، أو على الأقل دولة لا يمكن التعويل عليها لتحقيق اغتصاب فلسطين؛ بريطانيا التي منحتهم وعد بلفور، وسهلت هجرتهم، وقدمت العديد من السكان الفلسطينيين إلى المشانق والسجون، وساعدتهم على تهجير مدن وقرى فلسطينية ليقيموا مستعمراتهم مكانها، وأمدتهم بالسلاح المتطور والعتاد، وسهلت لهم إحضار السلاح من وراء البحار، يراها هؤلاء مقصّرة في حقهم، بل حتى متحالفة مع العرب ضدهم...إنهم قوم بُهت!
وكان من أشهر هذه المجموعات عصابة (شتيرن) و(الإرغون) بل إن زعيم الأخيرة الذي سيصبح لاحقا رئيسا لوزراء الكيان العبري، ويوقع اتفاق كامب ديفيد وينال جائزة نوبل، القاتل المجرم (مناحيم بيغن) يتبجح في كتابه(التمرد،قصة الإرغون) ويهاجم بريطانيا، وينكر دعمها ووقوفها مع الصهيونية، بل حقيقة أن الصهيونية لولا بريطانيا لما كان لها ولو حتى جحر في أرض فلسطين...وبالطبع كان التنظيم المركزي الأكبر(الهاجاناه) بزعامة (دافيد بن غوريون) لا يتبنى ولو نظريا رؤية بيغن، لأنه يدرك أن تأسيس دولة يهودية لا يمكن أن يتم دون رعاية ودعم مطلق من القوى الكبرى وخاصة بريطانيا، ولكنه لم يقمع بيغن وسمح له بالعمل بحرية، حتى ولو اضطر إلى لجمه في بعض المواقف لضرورات استراتيجية...بل ما زال مصطلح(حرب الاستقلال) مستخدما ومحل اتفاق الأحزاب الصهيونية بمن في ذلك حلفاء بريطانيا المباشرين، وكأن بريطانيا كانت قوة مستعمرة ضد الوجود اليهودي في فلسطين، وهذا أحد وجوه الصفاقة والتزييف الصهيوني.
وجه الكوميديا أن الصورة المقابلة عربيا كانت تراهن على علاقتها التي تراها حسنة وطيبة مع بريطانيا، وثقة مستفزة بوعودها الكاذبة بإنصاف الشعب الفلسطيني، ولم يتكون جسم فلسطيني مستقل سياسيا عن النظام العربي الرسمي، ولو كردة فعل، أو ورقة يلوح بها هذا النظام ولو تكتيكيا، في ظل الحالة التي كانت عند اليهود الصهاينة.
(9)النكبة المتوقعة
نجح اليهود الصهاينة في التمدد داخل الساحل الفلسطيني، والجليل والنقب وغربي مدينة القدس، وصار لهم مؤسسات دولة تنتظر الإعلان؛ فلديهم ميليشيات يمكن أن تتحول إلى جيش نظامي-كما حصل فعلا- بورقة موقعة من كبرائهم، ولهم مؤسسات تعليمية متطورة و كيانات اقتصادية، ويأتيهم الدعم المالي، ناهيك عن البشري من الدول الأجنبية، وكما ذكرنا فإن الصهيونية صارت حركة لها حاضنة أمريكية، منذ عهد الرئيس (هاري ترومان) إضافة إلى نفوذ اليهود الروس في الاتحاد السوفياتي آنذاك، مما جعل المشروع الصهيوني مشروعا لكل القوى والدول الكبرى في العالم.
وفي ظل وضع عربي نعرف ضعفه، واختلاف قادته، واستراتيجيتهم بجعل المواجهة إما خيارا مستبعدا، أو تكتيكا هامشيا، فإن الكفة الصهيونية سترجح، وليس ثمة عاقل يرى غير ذلك، ولكن الحل الأمثل هو استنزاف هذا المشروع ومقاومته بأسلوب حرب العصابات التي تعرفها الشعوب العربية في خضم سعيها للتحرر من الاستعمار الأوروبي، وخبرت تمرّس ورباطة جأش الشعب الفلسطيني وقدرته أيضا على خوضها، في سنيّ الثورات ضد بريطانيا، وليس الحل خوض حرب نظامية موازين القوى فيها مختلة، والسماح بترديد فكرة (سبعة جيوش عربية) في مواجهة مع عصابات متفرقة؛ فهذه العصابات أكثر عددا وعدة وفي ظهرها عسكريا بريطانيا، والولايات المتحدة تتبناها فكريا وسياسيا وماليا!
كان الأجدى تزويد الشعب الفلسطيني بالسلاح، ونشر مجموعات صغيرة متفرقة تعمل على مقاومة المشروع الصهيوني واتباع النفس الطويل في ظل المعطيات المذكورة، وأهل الأرض أخبر وأعلم بكيفية المناورة، وأيضا توفير الدعم المالي للشعب الفلسطيني، مثلما هناك دعم لليهود من الخارج، وهذا الحل إذا لم يكن قادرا على منع وقوع النكبة، فقد كان قادرا على كبح جماح صانعيها، والحد من حجمها، وفرملة تداعياتها الكارثية...وفي المقال القادم بمشيئة الله سنتحدث عن مرحلة النكبة وما تلاها، وكيف أنها زادت وعمقت من ارتهان القضية الفلسطينية إلى الخيارات الرسمية العربية أكثر من كل المراحل السابقة.