نشر بتاريخ: 17/10/2016 ( آخر تحديث: 17/10/2016 الساعة: 10:24 )
الكاتب: فادي أبو بكر
امتلكت الهوية العقدية الفلسطينية رصانة ذاتية فعالة منذ بزوغها، إلا أنها مرت بمراحل أدت إلى تشتتها نظراً لتعدد المناخات الثقافية والسياسية التي تحيط بحياة الفلسطينيين، إضافة إلى أمد تهجيرهم الطويل، ولا يمكن الجزم بأنها تفتتت وتلاشت، لأن الهوية العقدية برأيي كالأرض و إذا ما انتزعت الغصن من الأرض فالأرض بمواصفاتها باقية تنبت أخضراً وتزهر ثمراً، ولكن يوم تمس الحرب العقيدة في النفس المُعتقدة وتنال منها تكون الخطورة بمقدار ما يتم لها وتجب دون ذلك. وعليه فإن هذه الورقة ستتبع المحطات التاريخية التي مرت بها الهوية العقدية الفلسطينية منذ نكبة العام 1948م وحتى الانقسام، في سبيل تقدير حجم المخاطر التي تحدق بالهوية الفلسطينية، إضافة إلى محاولة رسم إطار للحل أو المخرج من الأزمة الهوياتية الراهنة.
نكبة العام 1948
إذا ما أردنا الأخذ بمفهوم إدوارد سعيد للهوية، فإن الهوية العقدية الفلسطينية نشأت كهوية مضادة لهوية المُستعمِر الصهيوني، حيث يرى سعيد " أن بناء الهوية ... يتطلب بناء ما يتعارض معها وبناء الآخرين وهم في الحقيقة موضوع دائم للتفسير وإعادة التفسير المستمرين للاختلافات التي تميزهم عنا (نحن) " . وعلى ضوء ذلك فإن إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948م كانت المحفز لبناء الهوية العقدية الفلسطينية، وقد وصف عبد الرحيم الشيخ نكبة العام 1948م بلحظة "صفر الهوية"، حيث يقرأ الشيخ تشكل الهوية الفلسطينية عبر قراءة الوجود الفلسطيني المهدد من اغتصاب الأرض وتهجير الناس وكسر وحدتهم الثقافية .
الشتات
في شهر شباط من العام 1949 أصدر الأردن قرارً يقضي بموجبه اعتبار كل اللاجئين الفلسطينيين أردنيين يتمتعون بحقوق الأردنيين وواجباتهم كافة. وفي العام 1950 وبعد مؤتمر أريحا الذي أقر بضم الضفة الغربية إلى الأردن ، حصل 90% من الفلسطينيين (لاجئين وغير لاجئين) على الجنسية الأردنية. ولم يصادق الأردن على اتفاقية اللاجئين الدولية لسنة 1951 ولا على بروتوكول نيويورك للعام 1967 الخاص باللاجئين ، وذلك انطلاقاً من نظرته للاجئين على أرضه باعتبارهم مواطنين لا تنطبق عليهم مواصفات اللاجئ بالمفهوم الدولي. وحتى بعد فك الارتباط مع الضفة الغربية عام 1988م ، أكد الأردن أن شيئاً لم يتغير بالنسبة لأردنية الفلسطينيين اللاجئين .
في ظل حصول اللاجئ الفلسطيني على الجنسية الأردنية وعلى امتيازات وحقوق إلى جانب نفس الواجبات مثله مثل أي مواطن أردني ، فإن هذا أدى إلى تخبط اللاجئ الفلسطيني وعومه في بحر من التساؤلات حول هويته . ولم يتصرف الأردن إزاء الفلسطينيين من منطلق الأخوة ، وإنما من منطلق "الأردن أولاً" . فأكثر من نصف سكان الأردن هم من أصول فلسطينية ، وأي تقصير في حقهم سينعكس سلباً على أمن الأردن وأمن النظام الأردني . فلماذا الأردن لم تعطي اللاجئين الآخرين من سوريا والعراق وغيرهم نفس الامتيازات التي تُعطى للفلسطينيين؟ . سؤال يستحق الوقوف عنده ويؤكد أن النظرة الأردنية هي نظرة من منطلق المصلحة القطرية الأردنية وليس من منطلق الانتماء للكل العربي.
وفق التشريعات التي أصدرتها السلطات اللبنانية ، لا يسمح للفلسطينيين بالانتفاع من الضمان الاجتماعي أو الصحي ، وحرموا من العمل في مهن المحاماة، الهندسة، الطب والصيدلة وبلغ عدد المهن المُحرمة على اللاجئ الفلسطيني حوالي 73 مهنة . كما حرموا من حق التملك بالإضافة إلى تشديد قيود السفر والتنقل وتجديد وثائق السفر .
بعد عرض ما سبق من أوضاع للاجئين الفلسطينيين في كل من الأردن ولبنان ، وكيف يُعامل الفلسطيني من قبل النظام العربي في تلك البلدان ـ فإن الأمر الملاحظ أن وضع الفلسطيني في الأردن أفضل مما هو عليه في لبنان ولكن إن تعمقنا في الأمر نجد خلاف ذلك ، وأن لكل منطقة خصوصيتها.
ففي لبنان يعاني اللاجئ الفلسطيني من حرمانه من عدد من حقوقه المدنية بحجة منع توطينه، ولكن الحقيقة هي أن الفلسطيني نفسه لا يرغب أصلاً في التوطين ، وإنما لا يريد سوى معاملة إنسانية عادلة . وعلى الرغم من قسوة النظام اللبناني على اللاجئ الفلسطيني ، إلا أن هذه القسوة جعلت الفلسطيني يشعر بفلسطينيته ويتمسك بهويته ، و يشعر بأن إقامته في لبنان مؤقتة وبأنه سيعود يوماً إلى فلسطين.
أما الأردن ، فبالرغم من الامتيازات التي يحظى بها اللاجئ الفلسطيني ، إلا أن إعطاءه الجنسية والتمهيد لتوطينه في الأردن ، من أجل إرضاء الطموح الأردني ببقاء الأردن آمناً وتحت الحكم الملكي الهاشمي، لم يجعل الفلسطيني في صورة أحسن من اللاجئ الفلسطيني في لبنان ، بل جعله متخبط ومُعوم حول مفهوم هويته وفلسطينيته ، وكأن حاله انتهت به كمواطن أردني يعيش على أطلال فلسطين.
الكفاح المسلح
بعد سنة 1948 كان النشاط السياسي الفلسطيني غير مركز ويعمل على المستوى الشعبي، وموجهاً في الغالب نحو الأحزاب العربية ذات البرامج المختلفة ( القومية والدينية والاجتماعية والراديكالية وغيرها)، وبقيت الأمور على هذا المنوال حتى انهيار الوحدة المصرية – السورية عام 1961، وتجدد الحرب العربية الباردة. حيث استفزت هذه العوامل الفلسطينيون وجعلت أملهم يتركز في إنشاء كيان خاص بهم يدعم طموحاتهم ومتطلبات هويتهم العقدية والذي تمثل في منظمة التحرير الفلسطينية.
أعاد قادة الحركة الوطنية الفلسطينية إحياء الهوية الفلسطينية وإرادة المجتمع الفلسطيني الذاتية بعد شن الكفاح المسلح عام 1965م، وقد قيم القائد خليل الوزير (أبو جهاد ) مرحلة الكفاح المسلح بقوله " أنها عملية مركزية، شاملة، متعددة الجوانب .. وأنها الطريق لإعادة بناء شعبنا وإبراز هويته الوطنية من أجل تحقيق أهدافه في العودة وتحرير الأرض ".
النكسة
سارعت الدول العربية بعد النكسة إلى إعادة بناء أنظمتها للسيطرة على السكان، وفي الوقت نفسه، عززت التغيرات الجارية في المجتمعات والنظم الاقتصادية المحلية نظام الدولة العربية، وخفضت الاستجابة الشعبية لنداءات فلسطين والوحدة العربية. والنظام الأردني كان خير مثال على ذلك حينما ضرب الحركة الوطنية الفلسطينية في أحداث عُرفت بأيلول الأسود عام 1970م مما أدى إلى قصـور الكفـاح المسـلح الفلسـطيني بشكل واضح .
يمكن القول أن هزيمة 1967 أضرت بأهم عامل من العوامل الساندة للهوية الفلسطينية العقدية، ألا وهو الهوية القومية، إلى جانب أن الظروف التي تبعتها أدت إلى قصور الكفاح المسلح الفلسطيني والذي كان يشكل العنصر الأساسي في إبراز الهوية الفلسطينية.
الانتفاضة الأولى عام 1987
أسهم إخراج منظمة التحرير من لبنان عام 1982 إلى جانب الانشقاق الذي شهدته حركة فتح عام 1983 بدعم من النظامين السوري والليبي، والخلاف بين فصائل منظمة التحرير حول التوجهات السياسية في إضعاف القدرة التعبوية للمنظمة . إلا أن الانتفاضة الأولى والتي هندسها خليل الوزير ( أبو جهاد ) كانت بمثابة المُنقذ للمنظمة فقد أعادت الاعتبار لدورها السياسي وظهر هذا في فك الأردن ارتباطه بالضفة الغربية. كما أن إعلان الاستقلال في العام 1988 والذي تم بتأثير الانتفاضة نقل مركز ثقل النضال الوطني إلى الأراضي المحتلة عام 1967، وطرح شكلاً جديداً لهذا النضال من خلال صيغ تُشرك مختلف فئات الشعب في مواجهة الاحتلال عبر اللجان الشعبية والمختصة.
لكن الانتفاضة الأولى شهدت تطوراً آخراً تمثل في اقتحام التيار الإسلامي ممثلاً بحركة حماس الحقل السياسي الفلسطيني، حيث طرحت حركة حماس خطاباً وبرنامجاً مغايراً لبرنامج منظمة التحرير الأمر الذي أدى إلى تشتت الهوية العقدية الفلسطينية.
شاعت في المسرح الفلسطيني ثنائية القوى الوطنية والقوى الإسلامية، وشاع التنظير لهوية وطنية منفصلة عن الهوية الإسلامية. وقد جاءت هذه الثنائية نتيجة للصراع السياسي في العالم العربي في حقبة الدولة القطرية المستقلة، بين التيارات القومية، كالناصرية والبعثية والقوميين العرب، وبين الإخوان المسلمين وحزب التحرير . ويمكن القول أن هذه الثنائية كانت من أهم الأخطاء المنهجية الكبيرة في العمل الوطني الفلسطيني والتي جعلت الهوية الفلسطينية في حالة توهان، فالإسلامي رفض الوطني واعتبره علماني فاسد، والوطني اعتبر الإسلامي خارج السياق الوطني، فكانت الثنائية هذه مقدمة احتراب فلسطيني داخلي أدى في نهاية المطاف إلى انقسام أسود عام 2007.
الرجوع الجزئي ضمن مشروع أوسلو وتحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى سلطة فلسطينية
شهدت الفترة ما بين 1989 و1993 انهيار تحالفات منظمة التحرير الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي بعد حرب الخليج عام 1990 تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، وفي تعرض المنظمة لعزلة مالية وسياسية من دول عربية، وبدء مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، ومعه مفاوضات ثنائية سرية مع إسرائيل تمخض عنها اتفاق أوسلو واعتراف المنظمة، عام 1993، بإسرائيل مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني .
نموذج أوسلو هو نموذج قديم متجدد، فقد أورد فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" كيف يضرب الاستعمار الثقافة والوحدة الوطنية للشعب المُستًعمر، فالاستعمار يختار من بين الأحزاب الوطنية التي شاركت في التحرير وأشكال ذلك الاختيار كلاسيكية معروفة -حسب فانون- فهو حزب الأغلبية المختار بالإجماع، ومن ثم يقوم الاستعمار بتفتيت مطالب هذا الحزب أو الفوز من قياداته بإبعاد العناصر المتطرفة، والإبقاء على العناصر الأكثر تعقلًا واعتدالًا، وحين تستنكر الأحزاب الأخرى ما يفعله الحزب المفاوض، يخشى الحزب الذي تسلم السلطة من خصمه فيقوم باتهامه بعدم الشرعية، وهذا الأسلوب نفسه تستعمله المعارضة الوطنية فيما بعد .
جسدت أوسلو بكل تفاصيلها وتبعاتها فكرة فانون فيما يتعلق بالاستعمار، فقد نجح الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي بجر المنظمة إلى الدائرة التي رسمها له، بعد أن أخرج العناصر "المتطرفة" من الصورة أمثال خليل الوزير "أبو جهاد"، صلاح خلف وآخرون. كما ثبتت نظرية فانون فيما يتعلق بالمعارضة، فها هي حركة حماس تتفتت مطالبها شيئاً فشيئاً، وعوضاً عن التسوية تتصرف بنوع من البراغماتية تحت عباءة مفهوم الهدنة إلى جانب الانغلاق على الذات، ورفض المخالفين، وغياب التفكير النقدي.
الانقسام
تحدثنا سابقاً حول بذور الاحتراب الداخلي الفلسطيني، ومع حلول شهر حزيران من العام 2007 عام أصبح الاحتراب انقسام وحرب، ودخلت القضية الفلسطينية مرحلة جديدة، وتشتتت الهوية العقدية الفلسطينية بطريقة أسوأ مما كانت عليه بعد أوسلو، وأصبحت الهوية الفلسطينية تعيش مأزقاً حقيقياً، فضاعت ما بين أزمة بناء الدولة في ظل وجود حكومتين في الضفة وغزة، وأزمة الشرعية وممثلها الذي يفترض به أن يتولى مهمة إبراز الهوية وتعبئة الجمهور الفلسطيني.
مرّ ما يقارب العقد على الانقسام الفلسطيني، انقساماً أسهم في كتابة سيناريو جديد للخارطة الفلسطينية، وفكك مكونات المجتمع الفلسطيني في مختلف المجالات. وعليه فإن الهوية الفلسطينية تعيش حالياً كارثة حقيقة في ظل الانقسام الأسود والو لاءات الحزبية والشخصية أو الولاء لأجندات خارجية.
خاتمة
ظل الفكر السياسي العربي طوال القرن العشرين الماضي تتنازعه تيارات متناقضة كل منها يدعو إلى دولة ذات هوية مختلفة، وقد ألقت هذه النزاعات بظلالها على المسرح الفلسطيني بكافة تفاصيله الفكرية، الثقافية، الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي جعل الهوية الفلسطينية تعيش حالة من التخبط والضبابية.
من جانب آخر جنت مختلف الفصائل الفلسطينية على الهوية العقدية الفلسطينية، وأسهمت في تشتتها. ولا سبيل نحو تحقيق التطلعات الشعبية وإعادة توجيه الهوية العقدية الفلسطينية إلا ببناء أدوات النضال بناء ديمقراطي كفاحي وأن تعمل الفصائل بشكل جدي لإعادة صياغة عقيدة فلسطينية لا يتدخل فيها لا "دايتون" ولا نفط سعودي ولا حدود أردنية، وسوى ذلك فإن قادة هذه الفصائل سيكونون أقرب إلى موظفين بنك دولي وليسوا مناضلين، فكما يقول المناضل الفيتنامي هوشي منّه "ليس المهم أن تكون مناضلاً بل المهم أن تنتهي مناضلاً..".
ترى إسرائيل في الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني هدية قدمت لها على طبق من فضة، فهي مستمرة في تنفيذ مخططها الاستعماري الاستيطاني دون حسيب ورقيب، أو مقاومة وتعليق. وشيئاً لن يتغير إذا ما بقي الحال على ما هو عليه. وعليه فإن إسرائيل لن تتزعزع أو تستشعر الخطر من الفلسطينيين إلا إذا أعادوا بلورة هوية عقدية فلسطينية تجمع الإسلامي بالوطني وتكون جامعة للفلسطينيين وواضحة الشكل والمضمون.
التجربة الوطنية الفلسطينية غنية بالأحداث والمحطات، ولهذا كانت الهوية الفلسطينية تعيش حالة تذبذب كبيرة فتراها في صعود تارة وفي هبوط تارة أخرى، إلا أن وجود الاحتلال الاستيطاني جعل الهوية العقدية ثابتة على الرغم من تشتتها، فكما ذكرنا سابقاً الهوية كالأرض والأرض بمواصفاتها باقية تنبت أخضراً وتزهر ثمراً. في الختام وبكل بساطة فإن الهوية العقدية الفلسطينية بحاجة إلى وحدة وطنية، صياغة فلسطينية، ووضوح في الشكل والمضمون تماماً كما تحتاج الأرض للشمس والماء والسماد.