نشر بتاريخ: 20/10/2016 ( آخر تحديث: 20/10/2016 الساعة: 11:53 )
الكاتب: رائد محمد الدبعي
تشكل داعش انعكاس للعلاقة الآثمة بين الثالوث المدنس، المتمثل بالعدوان، والاستبداد، والفكر الظلامي الديني المتعصب، إذ لم يكن لهذا التنظيم أن يرخي بظلامه على مناطق واسعة في العراق، وسوريا، وليبيا، وسيناء، واليمن، والصومال، وشمال شرق نيجيريا، وباكستان، لولا تضافر تلك العوامل التي مهدت له الأجواء لكي يطغى، ويقترف من الجرائم ما يرجع بالذاكرة الإنسانية إلى عصور الظلام والاستبداد، التي انتهكت بموجبها كل الموبقات، تحت ستار ديني، وغطاء خدمة الرب، سواء كان ذلك لتبرير إبادة الهنود الحمر، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، أو لإبقاء مصير المواطنين تحت حراب رجال الدين، كما كانت أوروبا العصور الوسطى، أو لاستخدام نقاء الدين لحسم صراعات سياسية، وفرض قراءة أحادية ظلامية لأنماط التدين، كما فعل الخوارج، وغيرهم من الحركات الأصولية الإسلاموية المتطرفة، أو لتبرير العنصرية والجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد أبناء الشعب الفلسطيني عبر إسباغها بعد ديني، وتغليفها بشعارات دينية، كما يفعل العديد من أنصار الكنائس المتصهينة في الولايات المتحدة الأمريكية، أو المتطرفين من رجال الدين اليهودي.
عودة إلى الثالوث المدنس، ومع بداية ما يطلق عليه " بحملة تحرير الموصل من سيطرة داعش، فلا بد من التذكير أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقود اليوم تحالفا دوليا يحمل شعار محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، هي السبب الرئيسي في تأسيس التنظيم، وتوفير البيئة المثالية لتوسعه، وتجنيده للأنصار، والمقاتلين، والشباب المستعد لتفجير نفسه في مسجد، أو حي سكني، أو مجمع تجاري، متوهما أنها الطريق الأقرب للجنة، والخلاص الفردي النهائي، فقد شكل العدوان الأمريكي على أفغانستان، ومن ثم العراق، العامل الأهم، والشعار العريض الذي استطاع من خلاله أبو مصعب الزرقاوي، تجنيد الآلاف من الشباب العراقي، وغيرهم، تحت يافطة محاربة المحتلين، وتحرير العراق من براثنهم، فيما شكلت الجرائم، والانتهاكات الأمريكية اليومية، بحق المواطنين، والمعتقلين كما شاهدنا في معسكري أبو اغريب، وغوانتنامو عامل استفزاز إضافي لمشاعر الشباب المسلم، استطاعت داعش توظيفه بما يخدم مصالحها، ورؤاها .
يضاف إلى ذلك تشجيع الولايات المتحدة الأمريكية، ودعمها للسياسات الطائفية، والثأرية، والعصبوية التي انتهجها النظام العراقي الجديد، وما أفرزته من انقسام أفقي وعمودي حاد، في النسيج المجتمعي في العراق، ومن خلخلة في تركيبته الطائفية، الغنية بتعددها، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنظّر على حكومات دول العالم الثالث، بأهمية منح مواطنيها مساحات من الحرية، والتعددية، والديمقراطية، وعدم الاقتصار على الحلول الأمنية في مواجهة المعارضة، وضرورة البحث عن الأسباب المجتمعية للعنف، ودوافعه، لهي ذاتها التي تنتهج الخيار العسكري والأمني في مواجهة داعش، دون أي محاولة لسبر أغوار مصادر قوته، ونفوذه، كونها تعي تماما أن سياساتها على الصعيد الدولي، والإقليمي، تقف في مقدمة تلك الأسباب، وهو الأمر الذي ينطبق في الحالتين السورية، والليبية، إذ أن ما تؤول له الأمور من تدهور خطير، وتوسع لنفوذ القوى الإرهابية فيهما، هو نتيجة للسياسة الخارجية القائمة على مصالح القوى الكبرى، والتعاطي مع قشور الأزمة، دون النفوذ إلى عمقها، كما أن تلاشي كل الوعود التي قطعها قادة العراق الجديد، أبان وجودهم في المعارضة، بخلق عراق جديد متحضر، يحتكم لقيم المواطنة، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، وحسن الجوار، وانقيادهم شبه المطلق لإيران، التي أخذت تتوسع بشكل مضطرد في العراق، وتنشر نفوذها، القائم على رؤاها وأطماعها التوسعية في المنطقة، والتي تلتقي مع الرؤية الأمريكية، القائمة على خلق شرق أوسط جديد، يقوم على أسس طائفية، ويكون فيه لإيران نفوذ واسع، على حساب المعسكر السني في المنطقة، واضمحلال هوامش الحرية، والتعبير عن الرأي، كل ذلك أدى إلى تعبيد الطريق أمام داعش للتوسع والانتشار.
كما أن التنظيم لم يجد صعوبة في استحضار الفتاوى التي تتوائم ورؤيته الظلامية، وتبرر جرائمه، وتمنحها بعدا دينيا، وذلك من خلال استعارة النموذج السلطاني الذي يستند إلى فقه القوة والغلبة والشوكة ، واستعارة أطروحات أبو بكر الناجي التي تتجاوز مفاهيم حرب النكاية، نحو إدارة التوحش وتحقيق التمكين، والتي عبر عنها في كتابه" إدارة التوحش" وكذلك فتاوى ابن تيمية، بعد إخراجها من بعدها المكاني والزماني، وسيد قطب، صاحب فتوى جاهلية المجتمع، ووجوب التغيير العنفي، وأفكار أبو الأعلى المودودي، وكذلك أبو عبد الله المهاجر" الذي شكل المرجعية الفقهية الأولى للزرقاوي ومن ثم القاعدة، إذ أن المهاجر في كتابه "فقه الدماء" قد افترق عن فكر القاعدة، القائمة على أولوية محاربة العدو البعيد" المتمثل بالولايات المتحدة الأمريكية، واسرائيل، نحو أولوية قتال "العدو القريب"، المتمثل بمن يعتبرهم التنظيم بالمرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، وكذلك مسألة تكفير الشيعة عموما، ووجوب الهجرة من دار الحرب إلى درب السلام، ومعظم الفتاوى الفقهية المتعلقة بإباحة العمليات الانتحارية، وقتل المدنيين الأبرياء تحت غطاء مسألة التترس، والإعدام حرقا، وتكفير المجتمع عموما.
بناء على كل ذلك، يبقى التعويل على العملية العسكرية التي يشارك بها الحشد الشعبي القائم على أسس طائفية، والتي تحظى بدعم الولايات المتحدة، وتغطية طائراتها الحربية، ساذجا، وغير موضوعي، إذ أولا وقبل كل شيء، فإن العراق، الذي شكل عبر التاريخ، بمكتباته، بعلمائه، ومفكريه، وإنتاجه العلمي الغزير، مما جعله بوصلة، ووجهة كل الباحثين عن العلم والمعرفة من كل أصقاع الأرض، لا يتطلع إلى الانعتاق من مجرم متسلط منغلق ، ليقع في شرك مجرم باسم جديد، ووجه جديد، ولا يقاتل أهله ضد ظلم، وجبروت، وجرائم داعش، لكي يصبحوا ضحايا، ورهائن لحكم طائفي من جديد، إلا أن الأهم، أن داعش، ومن هم بحكمها، وفي معسكرها الفكري، والظلامي، لن تندثر وتنتهي طالما استمر ثالوث العدوان، والاستبداد، والقراءة الظلامية للدين، تنهش بمستقبل أجيالنا القادمة، وتصادر حق المواطن بالحرية، والكرامة، والقلم، والكتاب، والمياه النظيفة، والتعليم، والبيئة الصحية، وحقه بالتعبير عن رأيه بلا وجل من سوط الجلاد، ومقص الرقيب، ودون ذلك، فقد نحقق انتصارات وهمية، إلا أن بذور ميلاد دواعش أخرى، قد ترتدي أقنعة مختلفة، وتحمل أسماء جديدة، وتمتلك قدرة اكبر على التدمير، والخراب والإرهاب، ستنمو في تربة المنطقة، ما لم نزرعها نحن بالأمل، والحب، والتسامح، والمعرفة، والديمقراطية، والعقلانية، ونرويها بالعمل الجماعي المشترك، واحترام الآخر، لكي نحصد مجتمع حر كريم، متسلح بقيم المواطنة، والمساواة، والعدالة، وهو الامر الذي يتطلب أن ننظر للعالم من حولنا نظرة تقوم على احترام إنسانية البشر، دون أن ننّصب أنفسنا قضاة على تقوى الناس، وعمق إيمانهم، وعلاقتهم بالله فالمسلم ، والمسيحي، واليهودي، والبوذي، والهندوسي، والزرادشتي، والملحد، هم عيال الله، وعباده، وهو وحده من يحاسبهم على الإيمان .