الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

غزة و بؤس الثقافة!

نشر بتاريخ: 01/11/2016 ( آخر تحديث: 01/11/2016 الساعة: 14:54 )

الكاتب: حيدر عيد

حذار منه، فهو لا يحب الموسيقى!
وليام شكسبير
ظاهرتان انتشرتا كالهشيم في النار: بروز أعمال (غير) فنية مغرقة في الهبوط من جميع النواحي, و في نفس الوقت إدانة أو تحريم أعمال فنية أو تراثية واعدة بحجة أنها لا تتماشى مع عاداتنا وتقاليدنا, مع جنوح فج نحو احتكار تعريف تلك العادات والتقاليد ضمن قوالب أيديولوجية جامدة, بل جعل هذا التعريف مهمة أمنية من ضمن مهام وزارة الداخلية. و قد صاحب هاتين الظاهرتين هجوم حاد على الثقافة الفلسطينية و رموزها البارزة.

في زمن الهزائم و التراجع الحضاري و غياب المشاريع القومية الكبرى و انحسار المقاومة يبرز الفن الهابط, بل ينتشر كالنار في الهشيم, و يصبح ملاذا,ً بالذات للجيل الصاعد الذي عادة ما يشكل القاعدة العريضة للترويج لهذا النوع من"الفن". مع هزيمة 67, وما تيعها من هزائم متلاحقة, ظهرت "سلامتها أم حسن" و "السح الدح إمبو"... وصولا إلى ظاهرة شعبولا! يتميز هذا النوع من "الفن" بغياب الكلمة ذات البعد الجمالي, يل يصبح "صف" الكلمات خالية المعنى بأي شكل كان إبداعاً يُحتفى به. و هكذا تصبح "البنطلون" و "الليدن" و "الخبيزة" و صولا إلى "يا إمي ألطمي" و "إت إز!" تحمل مضاميناً في أسوأ حالاتها مسلية للفيسبوكيين/ات المراهقين/ات, و كلها تتميز بقبح صوت المؤدي/ة, بل تحوله إلى صراخ مصحوب بموسيقى مزعجة و خط موسيقي واحد يسمى "لحناً ". و هكذا يختلط التهريج بالفن و يحاول التغلب عليه, و يتم قياس مدى "النجاح الفني" من خلال عدد اللايكات و التعليقات و صولا إلى مقابلات تلفزيونية على فضائيات تحمل أجندات واضحة تعمل على تغييب و تزييف الوعي الجمعي.

يتحدث المفكر الثوري فرانتز فانون في فصل كامل من كتابه الأشهر "المعذبون على الأرض" عن أهمية الثقافة الوطنية, كجزء من الثقافة الانسانية, في بناء وعي جمعي و فردي يمهد للحظات الحسم التحررية. كما تحدث المفكر إدوارد سعيد باسهاب عن العلاقة بين الثقافة و الإمبريالية, و قبله كتب غسان كنفاتي عن "أدب المقاومة".و قد فهمت دولة الأبارتهيد الاسرائيلي مدى أهمية الثقافة و الفنون في تعزيز و ترسيخ مكانتها بين الأمم كدولة "ديمقراطية" و "حداثية" "تحترم الفنون و الثقافة" في إطار ديمقراطي غير إقصائي! و لذلك قامت بحملة الهاسبراة الدعائية ووظفت لها الملايين من الدولارات و اعتبرت كل فنان و مثقف اسرائيلي "جندي" في هذه الحملة التي تعمل على تبييض وجهها الملطخ بدماء الأبرياء.

و الحقيقة أن أنجع وسائل التصدي للهاسبراة الاسرائيلية يكون من خلال نشر الفن الفلسطيني. الرقص و الغناء و الرسم و النحت...إلخ كيف يمكن التعبير عن الهوية الفلسطينية المركبة بدون اللجوء للفن؟ و إلا لماذا غادرتوزيرة الثقافة الاسرائيلية, ميري ريغيف, القاعة عندما قرئ شعر درويشأمامها؟!
و لكن لأننا نعيش مرحلة تصحر ثقافي غير مسبوقة فإننا لا يمكن أن نفهم هذه الظاهرةبدون الربط بين التعصب الفكري و التشدد من ناحيةو الضحالة الثقافية من ناحية أخرى.

و في هذا السياق الإقصائي برزت الظواهر التي تم الإشارة إليها فترى دعوات, بل تحريض, من أكاديمي في معسكر إعتقال كبير, يعاني من ظروف إضطهاد مركب نتيجة استعمار استيطاني, لإقرار "قانون زندقة" بملاحقة و معاقبة (بالموت غالباً) كل سجين ينظر للعالم بطريقة مختلفة, بالذات فكرية أو فنية.
ثم جاءت دعوة من محاضر جامعي آخر, في نفس السجن الكبير,يقترح عنواناً لرسائل ماجستير عن "الانحرافات الاعتقادية في الشعر الفلسطيني المعاصر: محمود درويش نموذجاً", ثم يذكر أنه يوجد شعراء آخرون لهم "تخبيصات"و يؤكد أنه موضوع يستحق الكتابه كون هؤلاء الشعراء تم تمجيدهم وتقديمهم على أنهم عظماء في أشعارهم مع أنها مليئة "بطامات مهلكات."

ثم برزت, ومن نفس السجن, إدانة حادة لأحد أبرز مكونات التراث الفلسطيني, الدحية البدوية, و اعتبارها "جعاراً" و "كلاماً أعجمياً" غير مفهوم!
كل ذلك يأتي ذلك في سياق ثقافة سائدة تحتقر الفنون بأشكالها المتعددة وتعتبرها نوعاً من أنواع "الخلاعة" و "المجون!"
إن الفنون, بالذات الغناء, كثيرا ماتكون أداة مقاومة فعالة. من لا يريد أن يفهم ذلك, فليقرأ عن دور ميريام مكيبا (ماما أفريكا) و عبدالله ابراهيم و هيو ماسيكيلا في الترويج للنضال ضد الأبارتهيد و ملاحقتهم و نفيهم نتيجة لذلك.

و لكن لماذا كل هذا الحقد الأعمى على الفن و الثقافة؟ هل فلسطين التي نريد و نستشهد من أجلها أفضل بلا درويش و سعيد و كنفاني؟! بلا دحية؟! و بقوانين زندقة؟ ما هو العالمبدون بابلو نيرودا و لا ماياكوفسكي, و لا شكسبير, أو توماس هاردي, و لا ناظم حكمت أو لوركا, أو فيرجينيا وولف, أو درويش,أو أم كلثوم و فيروز و الشيخ إمام! عالم بلا موسيقى أوفولوكلور و رقص شعبي؟
أذكر في هذا السياق تجربة شحصية من خلال حوار لي مع مثقف مرموق من جنوب أفريقيا حيث أراد استفزازي فقال "لدينا مانديلا, فمن عندكم؟". قلت : "لدينا إدوارد سعيد!" فرد قائلا: "أنحنى احتراما."كما أذكر ما قاله الرئيس الفرنسي شارل ديجول عندما اقترح عليه بعض أعوانه اعتقال سارتر, " هل تريدون مني اعتقال فرنسا؟"

لماذا إذا كل هذا العداء للثقافة و الفنون؟! ألأنهم لا يميزون بين "القطة" و "البنطلون" و الليدن" من ناحية و "أمي" و "ريتا" و "أحمد العربي"من ناحية أخرى؟!
ألأنه لا يوجد لديهم محمود درويش, ولا غسان كنفاني , و لا إدوارد سعيد, ولا ناجي العلي؟!أو لأن نظاراتهم الأيديولوجية لا تسمح لهم بفهم ما يقوله هؤلا العمالقة, ممن ساهموا في تشكيل العقل الفلسطيني المعاصر.