الأحد: 24/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

الضباع لا يمكن ترويضها

نشر بتاريخ: 03/11/2016 ( آخر تحديث: 03/11/2016 الساعة: 13:48 )

الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام

التأمل مرحلة من مراحل الفلسفة وفهم الحياة ، ومن دون التأمل تبقى وجهة نظرنا عن الاشياء والمخلوقات ودورة الحياة منقوصة ، مراقبة ظواهر الطبيعة سمة من سمات المفكرين والعلماء ، ولولا التأمل لما وصل العلم الى ما وصل اليه . ومن بين الامور التي تشد الانتباه مراقبة سلوك الحيوان والنباتات .

الانتحاء الطبيعي عند النباتات مذهل ، وترى كيف ان النبتة تميل بجذعها نحو النافذة تبحث عن الضوء ، فيما تذهب الخراف الى الزاوية المعتمة في الزريبة عند النوم بحثا عن الامان . ولو حاولنا ربط نظريات علم الاجتماع بأصل الانواع لوجدنا الكثير مما يلزمنا في حياتنا اليومية . ولعلمنا ان البقاء للاقوى مجرد فرضية وان الفرضية الأكثر دقة هي البقاء للأصلح . ولو كان البقاء للاقوى لبقيت الديناصورات الى يومنا هذا ولاختفى الناموس والجاموس والفراشات الجميلة .

في وقتنا كان كتاب تشارلز داروين " أصل الانواع" في المنهاج الدراسي ، اما اليوم فهو غير متوفر في المكتبات للقراءة والنقد اللازم للاجيال الجديدة " في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي - أو بقاء الأعراق المفضلة في أثناء الكفاح من أجل الحياة . وقد اثار الكتاب 1859 غضب الكنيسة لانه ناقض النظريات الدينية بفرضياته . ولكنه ظل وثيقة للبحث العلمي والجدل الذي لا ينتهي في فصول تطوّر الانواع وملوح التراب والتكاثر والاهمال والاستعمال وغيرها .

الخيول تضرب الماء بحوافرها قبل أن تشرب حتى تكف عن رؤية صورتها في الماء ، والفيل يمشي الى المقبرة بقوائمه الاربع حتى يجلس ويموت هناك ، وانواع من الضفادع تقوم بالتحوّل جنسيا فتكون ان أرادت أنثى وان ارادت ذكرا بحسب الحاجة حتى لا تنقرض وتحافظ على النوع ، والحرذون تلقفه الافعى بفكها الواسع لتأكله ، فيمسك بعصا في فمه ويبقى لساعات لا تستطيع ابتلاعه حتى تتركه وتيأس منه فيهرب ناجيا من موت محقق ، ونوع من الحيوانات ذات الفرو الابيض تحافظ على بياضها حتى الموت ، وحين يريد الصياد الايقاع بها يلف المنطقة بالوحل . فيبقى الحيوان صاحب الفرو الابيض واقفا حتى يموت ويرفض اتساخ فروه الابيض . وطائر حقير يضع بيضه في عش زوجين اخرين من الطيور ويرمي البيض الأصلي ، فيقوم زوج الطيور " المغفل " باطعامه حتى يصبح حجمه ضعف حجم الزوجين . وهو نوع حقير من البقاء نشاهده في السياسة كثيرا .
الفيلسوف بيدبا أبدع أكثر في كتابه كليلة ودمنة ، وهو وثيقة سياسية لا تقل قيمة عن كتاب الأمير لميكافيلي . ومن يقرأ كليلة ودمنة ويفهم بين السطور ، يصبح فيلسوفا سياسيا بلا منازع . وحين قام بيدبا وأنطق الحيوانات انما أراد ان يقول للشعوب الفارسية ما عجز او خشي عن كتابته بشكل مباشر في البقاء السياسي .
نعم يمكن ان نتعلم من الحيوانات أكثر مما نتعلم من كثير من السياسة .
والاغرب بين الحيوانات هي ذوات الدم البارد ، حباها الله بجلد سميك فلا تتأثر بتقلبات الطقس ولا بخدوش الدهر ، تبلع بلعا ، وتحطم عظام الطرائد بأسنانها دون رحمة ودون شفقة . لديها خبرة 80 مليون عام من التمسحة والجشع .
وفي هذا المضمار يقول علماء النفس ان الحيوان قد يمثل أحيانا ( الايجو ) لكل انسان . وان حيوانك المفضل او المكروه انما هو انت ولكن بطريقة او اخرى . وان كثرة النوع لا تعني أنه الاقوى ، فأكثر مخلوقات على وجه الارض هي الحشرات واقل الأنواع هي الاسود والنمور . ولا بد للقوة ان تكون ذكية والا فانها ستندثر وتتلاشى بلمح البصر . وان كثرة توالد الظلفيات والانعام وذوات القرون لم يعفها من ان تكون هي الضحية والوجبة الاسهل في الهرم الغذائي لنوع اخطر واقوى وأشد بأسا وهو الانسان .
نقطة اخرى شدّت انتباهي وأنا اجول في حديقة حيوانات المالحة بالقدس ، وهي الحيوانات الاليفة والحيوانات غير الاليفة . هناك حيوانات خلقها الله لتكون أليفة بطباعها وسلوكها وقدرة السيطرة عليها مهما بلغ حجمها ولو كانت الفيل او الجاموس ، وهناك حيوانات لا يمكن ترويضها مهما كانت قدرة المدرب مثل الضبع . وعلى اليابسة يكون الضبع من أخطر الحيوانات ولا ينصح بترويضه ، وفي البرمائيات فان التمساح وحش لا يمكن ترويضه .
وعودة الى الشاعر الذي وجد ذئبا صغيرا وليدا ضعيفا وضريرا ، فأخذه الى حظيرة الأغنام عند الشاة التي يربيها ، واسقاه الحلب وأطعمه حتى شبّ وصار وحشا . وفي ليلة ما قام الذئب وقتل الشاة التي شرب من لبنها وحليبها . فلما أفاق الشاعر ورأى ما جرى . قال للذئب :
يا ذئب
عقرت شويهتي وفجعت قلبي وكنت لشاتنا ولد ربيب
غذّيت بدرها وربيت فينا !!! فمن أنباك ان اباك ذيب ؟
اذا كانت الطباع طباع سوء فلا شعر نفع ولا أديب
اذا كانت الطباع طباع سوء فلا لبن نفع ولا حليب