الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

فلسطين في وجدان الجزائر:الدين والقومية والمسئولية التاريخية

نشر بتاريخ: 06/11/2016 ( آخر تحديث: 06/11/2016 الساعة: 16:16 )

الكاتب: د.احمد يوسف

إن التجربة النضالية التي عاشتها الجزائر منذ انطلاق ثورتها التحريرية في الفاتح من نوفمبر 1954، والحماس العربي والإسلامي في التفاعل معها، والتسابق لتقديم الدعم المادي واللوجستي لقياداتها، والاحتضان الأمين لهم في مصر والمغرب وتونس وسوريا على كافة المستويات الرسمية والشعبية، والمساعدات العسكرية التي لم تنقطع لجيش التحرير الوطني، كل ذلك جعل الجزائر - بعد استقلالها- ترد الجميل لأمتها العربية؛ للدول والشعوب التي وقفت خلف ثورتها بأحسن منها، وكانت مواقفها وعطاياها خير شاهد على وقفتها الكريمة التي تستحق كل الشكر والثناء.
لقد عملت الجزائر - بعد رحيل المستعمر الفرنسي عن أراضيها - على فتح خزائنها وثكناتها العسكرية، ليس فقط لكل الذين أسدوا لها المعروف إبان ثورتها المجيدة، ولكن توسع جودها ووصل خيرها إلى كل صاحب ضائقة اقتصادية أو محنة سياسية من دول وشعوب أمتها، فكانت الجزائر حاتمية الجود والغيث والعطاء.

لقد شاءت الأقدار أن تكون نكبة الشعب الفلسطيني في إيقاعات آلامه وقسوة أوجاعه وظروف كفاحه القاسي قريبة من معاناة الشعب الجزائري قبل استقلاله، بل قد تكون تجربة الشعبين متماثلة حيث عاشا فترة تجاوزت ما ألفته الشعوب من كفاح ضد الاستعمار، حيث كان استعماراً دموياً استئصالياً حاول أن ينتزع هوية الجزائر وثقافتها وخير أرضها، وهي التجربة الشبيهة بالتجربة الاستيطانية الاحتلالية الصهيونية في مستوى دمويتها وعمقها وشراستها ضد الشعب الفلسطيني.

لقد ارتبطت فلسطين في الوجدان الجزائري - بالإضافة عن مكانتها الروحية والدينية - بعلائق ووشائج واعتبارات قومية ساهمت في تعميق مشاعر الحب والولاء لفلسطين وأهلها، وكانت الجزائر واحدةً من أكثر الدول العربية والإسلامية احتضاناً للفلسطينيين، وأظهرت اهتماماً بارزًا بقضيتهم، وسعت للتخفيف من مصابهم وغربتهم بالرغم من بعدها الجغرافي عن أماكن تواجدهم؛ سواء في الوطن المحتل أو المهاجر والشتات، ولم تحاول الحكومات الجزائرية المتعاقبة منذ الاستقلال سنة 1962 في الاستحواذ على الفصائل الفلسطينية للمتاجرة بها وصناعة الأمجاد، بل كانت تحرص – دائماً- على أن تكون الحاضن الأمين لها، وتسعى بأبوة صادقة على تجميع صفوفها، وتوحيد مواقفها، وإعلاء صفحات كفاحها، ولطالما فتحت لهم ذراعيها وأراضيها لاستقبال مقاتليهم، وأقامت لهم المعسكرات لإيوائهم وتدريبهم، والتخذيل عنهم كلما خذلتهم دول الطوق، وسدت عليهم أبواب المواجهة مع العدو الصهيوني. فكم هي المرات التي وجد فيها الفلسطينيون في محنتهم، وملاحقة الأنظمة العربية لهم، أن الجزائر هي المثابة الآمنة والصدر الحنون الذي خفف من معاناتهم؟ وكم كانت الجزائر وشعبها هي اليد الحانية التي مسحت عن المآقي حسرة الدموع، وجددت فيهم العزم والأمل باستمرار ثورتهم حتى يتحقق النصر والاستقلال؟ وكم وكم؟؟ ولذلك كان أبو عمار - كما يروي سفيرنا السابق عدلي سابق - يستبشر خيراً بالجزائر، وكلما كانت تضيق به ألاعيب السياسة وأخاديع المتواطئين، يجد نفسه متجهاً الى الجزائر لغير ذي غاية محددة، وحين يُسأل عن طلبه، يقول: "لا شيء، إنني أتفاءل بالجزائر"!

الجزائر قلعة الدفاع عن المظلومين
قطع الجزائريون على أنفسهم - بعد انتصار ثورتهم على المستعمر الفرنسي - عهدًا بالا يتركوا شبرًا محتلاً في الأرض إلا ساهموا في تحريره، ولذلك نشأ داخل الحزب الحاكم الجديد قسم لرعاية حركات التحرر في العالم، وأسندت إلى السيد جلول ملايكة (رحمه الله) مهمة الإشراف عليه.
لقد بدأت الجزائر في التعبير عن دعمها ومواقفها المساندة للشعب والقضية الفلسطينية بفتح مناصب التدريس للفلسطينيين، واستقبلت الجزائر في مدارسها ما بين 400 – 500 معلماً، وتمَّ تقديم منحاً دراسية لحوالي 150 طالباً من فلسطين، ثم أخذت هذه الأعداد في التزايد بشكل طردي مع السنين حتى تجاوزت أعداد المدرسين والطلاب الآلاف، ومازالت الجزائر - حتى يومنا هذا - تقدم المنح والمساعدات للطلبة الفلسطينيين في جامعاتها، وتوفر لهم الرعاية والقبول على مستوى الدراسات الجامعية العليا.

وإذا ما حاولنا القيام بمراجعة لتلك المواقف والسياسات، التي ميزت الجزائر عن غيرها من الدول العربية والإسلامية، فإننا نلمس بأن البعد القومي في شخصية كل من الرئيسين احمد بن بلة وهواري بومدين (رحمهم الله) قد لعب دوراً هاماً في صياغة هذه المواقف والسياسات.
ويمكننا ملاحظة ذلك من خلال الموقف الذي دعا إليه الرئيس أحمد بن بلة - وبوضوح لم يسبقه إليه أحد - في القمة الطارئة التي عقدت في القاهرة في الثالث عشر من يناير 1964، بضرورة تحرير الفلسطينيين من ضغوطات الأنظمة العربية، والسماح لهم بتحرير بلادهم دون وصاية عليهم، وكذلك من خلال الانضمام السريع للجزائر إلى لجنة المقاطعة العربية لإسرائيل، بل والترحيب بعقد اجتماع رسمي لها في 15 يونيه 1964 بعنابة.. ويمكننا هنا تسجيل شهادة للتاريخ بأن بعض كوادر حركة فتح قبل انطلاقتها الرسمية في يناير 1965 كانت قد تلقت تدريبها العسكري إلى جانب متطوعي منظمة التحرير، التي كان يرأسها أحمد الشقيري في معسكرات بالمدّية وشرشال.
كما أن هناك روايات تتحدث بأن الرصاصات الأولى التي أطلقتها حركة فتح مع فجر انطلاقتها جاءت من مخزن أسلحة لحساب الثورة الجزائرية، كان موجودًا في منطقة اللاذقية بسوريا، وكانت وزارة الدفاع الجزائرية قد تبرعت به لحركة فتح.

إن دلالات هذه المواقف ومعانيها تعكس مدى تجذر البعد القومي الأصيل في وجدان قيادات حركة التحرير الوطني الجزائري، والذين لم تنسهم شهوة المناصب والجاه بعد الاستقلال من تحسس صادق وأمين لمعاناة قضايا أمتهم، وخاصة قضية فلسطين، وما تستلزمه هذه المشاعر والأحاسيس من تحركات وتضحيات لرفع الظلم عن إخوانهم في قيادات الثورة الفلسطينية الوليدة.. وكما هو معروف، فإن معظم القيادات الفلسطينية كانت تعيش في مخيمات اللاجئين ولا تمتلك إلا بطاقات التموين، ومن فتح الله عليه بالعمل في إحدى دول الخليج كان لديه وثيقة سفر مصرية أو سورية تسمع له بالسفر إلى بلد العمل والعودة منه، ولا تتيح له التنقل بسهولة حتى داخل الأقطار العربية، فضلا عن إمكانيات السفر لخارج العالم العربي في أوروبا أو آسيا.

وحيث إن القيادات الفلسطينية التي ظهرت بعد انطلاق حركة فتح كانت حديثة العهد بالنضال والعمل السياسي، وكانت تفتقر إلى العلاقات الدبلوماسية وصعوبة القدرة على التحرك في الفضاءات الدولية، بسبب وضعية اللاجئ الفلسطيني والحرمان من التمتع بالمواطنة في دول الطوق؛ لاعتبارات سياسية كان هدفها – آنذاك - إبقاء الفلسطينيين مرتبطين ببلادهم الأصلية، وهذه الحالة شكلت عائقاً أمام إمكانيات التحرك النشط لحشد الدعم والتأييد للقضية، وامكانات الحصول على أسلحة ومعدات عسكرية من الدول التي تدعم حق الشعب الفلسطيني في المقاومة لتحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي.. من هنا، كانت الجزائر سباقة في تقديم جوازات سفر جزائرية للعديد من الشخصيات والقيادات الفلسطينية مثل ياسر عرفات وأبو جهاد رحمهما الله، وكذلك في شراء السلاح من الصين ودول اشتراكية أخرى، وتسهيل وصوله -على مسؤوليتهم - إلى معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد كانت مواقف القيادة الجزائرية تتسم بالمروءة والجرأة السياسية بشكل متميز وفريد، حيث منحت كافة التسهيلات التي تتيح لهم التحرك والعمل، وقدمت لهم ثمن السلاح والمعدات العسكرية، وهيأت لكوادرهم ومتطوعيهم المعسكرات للتدريب وتطوير الخبرات القتالية، ولم تبخل عليهم بالمال والرعاية والنصيحة، وحملت قضيتهم إلى كافة المنابر والمحافل الدولية، وكانت فلسطين هي القضية الأهم على جدول نشاطهم السياسي الخارجي.

نكسة 1967: وجادت الجزائر بكل ما تملك
عندما وقعت حرب 1967، وانتهت بهزيمة عسكرية من العيار الثقيل، حيث خسرت مصر - بشكل مفاجئ وغير متوقع - كل طائراتها الحربية، ودمرت معظم معداتها ومواقعها العسكرية في سيناء، وأسرت إسرائيل الآلاف من الجنود المصريين، كانت الجزائر والرئيس هواري بومدين (رحمه الله) أول من تحرك لإغاثة مصر عسكريًا، حيث قام – آنذاك - بإرسال كل أسراب الطائرات التي كانت تمتلكها الجزائر، وكانت كلها مكونة من مقاتلات الميغ 17 (سرب مكون من 14 طائرة) والميغ 21 (سرب حديث الوصول من 15 طائرة) ثم اليوشن 28 (عددها 12 قاذفة)، كما قام الجيش بإرسال الكتيبة المدرعة الثامنة والتي كانت من أقوى كتائبه.
وقد أرسل الرئيس بومدين (رحمه الله) خطابًا إلى عبدا لناصر يعلن فيه أن الجزائر ستدفع للاتحاد السوفيتي ثمن شراء 60 طائرة مقاتلة، و150 سيارة مصفحة إضافة إلى 100 دبابة، وقد قامت الجزائر كذلك بتقديم دفعة أولى من مساعدتها المالية لكل من سوريا والأردن في 15 يونيه 1967 تعادل 20 مليون فرنك فرنسي لكل بلد منها، وقد اشرف قايد احمد وزير المالية - آنذاك - على تسليمها للطرفين.

كانت الجزائر في عهد الرئيس بومدين (رحمه الله) تعيش حقيقة الهمِّ العربي وتتجرع بألم مرارته، وكان بومدين يتحرك في كل اتجاه، وينتقل من مكان إلى مكان لتوحيد الصف العربي وتكاتفه، ويسعى للجمع بين الفصائل الفلسطينية، ويعمل ليوم كان يحلم أن يكون فيه فاتحاً لعاصمة هذا الكيان المارق، ليرد عن العرب عار الهزيمة، ويعيد للفلسطينيين وطنهم السليب.
لم يكن بومدين الثائر المقاتل ليستسلم لمنطق الهزيمة التي وقعت لمصر وسوريا والأردن من دولة لم تكن بالمقاييس العسكرية والجغرافية والديمغرافية أهلاً لهذا الانتصار.

إن الجزائر التي قاتلت الجيش الفرنسي، الذي يعتبر أقوى رابع جيش في العالم، وهزمته لا يمكنها أن تتخيل أن تستسلم الأمة العربية وترضخ لإسرائيل، ولذلك ظل الرئيس بومدين يحرض عبد الناصر للاستعداد والحشد لمعركة قادمة.
لقد كانت روحية بومدين هي روحية المقاتل الذي لا ينكسر ولا يستسلم، ولذلك ظل يعتقد أن بمقدور الأمة أن تقاوم وتنتصر، وأنه إذا خسر العرب معركة فهذا لا يعني أنها خسرت الحرب، وظل رحمه الله يؤمن بضرورة الحشد والعمل للمواجهة القادمة والاستعداد لها.
إن بومدين كان يرى بأن المعركة مع إسرائيل هي معركة الأمة، ولذلك حتى وأن وصل الجيش الإسرائيلي للقاهرة، فإن بإمكان عبد الناصر اعتبار الجزائر عاصمة لدولته. لله درك يا بومدين.. لم أشاهد في حياتي وطنياً بهذه النخوة والمروءة، وبهذا المستوى من التضحية والإيثار من أجل أمته.

بومدين: عاش لفلسطين كما عاش للجزائر
يشهد الجزائريون لعهد بومدين بالكثير من الإنجازات، كما يحمل بعض الإسلاميين على عهده بأنه وقع في خطأ في العديد من الاجتهادات التي تتعلق بثوراته الثلاث الزراعية والصناعية والثقافية، ولكن يبقى بومدين من وجهة نظر أمته العربية والإسلامية القائد الذي قدَّم لفلسطين وثورتها دعماً بلا حدود، رغم أن بلاده لا تجمعها مع فلسطين حدود.. ويبقى بومدين الرئيس الذي كانت له مع كل الفصائل الفلسطينية علاقات طيبة ووثيقة، ولكنه لم يوظفها لتصفية أية حسابات، كما كان سائدًا لدى غيره من الزعماء العرب.
لقد كانت الجزائر استثناءً في تعاملها مع الفلسطينيين، إذ أخلصت النصيحة لهم، وجادت بسخاء عليهم، ولم تمارس عليهم ضغطًا للتأثير على مواقفهم وقراراتهم، ولم تدفع إلى شحن الخلافات وتغذيتها بين فصائلهم كما كان يعمل زعماء دول الطوق والمواجهة، وظل بومدين (رحمه الله) على وفائه وكرمه الواسع مع المقاومة الفلسطينية، واضحًا معهم كل الوضوح لم يعاملهم بوجهين أو يكيل لهم بمكيالين.

لقد كان بومدين (رحمه الله) تواقاً لغسل عار هذه الأمة بتحقيق انتصار على إسرائيل أو على الأقل عدم الاستجداء والاستسلام لها، ولذلك عاتب البعض وقاطع البعض الآخر من زعماء العرب عندما كان يشتم من مواقفهم التراجع والخذلان عن نصرة الفلسطينيين، وكان مستعدًا لمناصبة العداء لكل الدول التي تتعرض لهم بالسوء، ولعل هذا هو الذي جعله يقاطع الملك الأردني حسين في العديد من المناسبات، وهذا هو الذي جعله يلوم جمال عبد الناصر على التسرع بقبول وقف إطلاق النار في صيف 1967، ثم الموافقة بعد ثلاث سنوات على مشروع روجرز. وقد تحرك لعزل "المطبّعين" الذين قبلوا باسترجاع أراضيهم على حساب شعب ضعيف مغلوب على أمره، وقام بعدة جولات عربية وغربية لتوسيع التأييد للفلسطينيين بعد أن وضعهم السادات – آنذاك - في مأزق حقيقي بكلامه عن السلام الشامل في الشرق الأوسط.

لقد كان بومدين من أكثر الساعين وأنشطهم إلى فتح كل الأبواب للفلسطينيين، فقام بتقريبهم من الثوار الفيتناميين منذ أن كان وزيرًا للدفاع، كما فعل مع الصينيين والسوفييت قبل أن يفعل الرئيس عبد الناصر، وبفضل الجهود والعلاقات القوية مع الفيتناميين، فإن حكومتهم بعد أن دخلت سايجون في 20 يونيه 1975 قامت بتحويل مقر السفارة الإسرائيلية إلى مقر ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية.

كما أن الجزائر سهلت في مساعدة السيد ياسر عرفات(رحمه الله) في الوصول إلى الجمعية العامة، وشرح وجهة النظر الفلسطينية أمام هذا المحفل الدولي، وذلك بإلقاء عرفات لخطابه الشهير "لا تجعلوني أُلقي غصن الزيتون من يدي.." في 13 نوفمبر 1974، ثم حصول الفلسطينيين على عدة قرارات منصفة، مثل حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واستعادة حقوقه بكل الوسائل، وكذلك في منح منظمة التحرير الفلسطينية صفة المراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة.. وإن كل تلك الإنجازات تحققت للفلسطينيين بفضل الجهود التي بذلها – آنذاك - السيد عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية الجزائري، حينما كان رئيساً لدورة الجمعية العامة للأمم المتحدة وبتوجيه من الرئيس هواري بومدين (رحمه الله).

إن هذا الجهد السياسي والعطاء السخي وغير المسبوق الذي قدمته الجزائر ورئيسها بومدين، توجب على الفلسطينيين أن ينظروا إلى الجزائر ليس فقط كوطن ثانٍ لهم، بل كبلد عايش قضيتهم وتحمّل معهم الهمّ، وعانى معهم من خذلان العرب لهم، وعليهم أن يتذكروا كذلك أن رجلاً بوزن بومدين - الثائر والمقاتل - لم يتخل عنهم يوماً واحداً، بل سخّر كل إمكانيات بلاده لنجدتهم وانتصار قضيتهم، وكانت العروبة مسكونة في قلبه؛ فلسطين تاجها، وصقرها مكسور الجناح، عمل لتحريرها بكل تفانٍ وإخلاص ووطنية، وكان فلسطيني الهوى، نافس - بعاطفته ووجدانه وعمله ومثابرته - الفلسطينيين في فلسطينيتهم، ويحق له أن يتصدر - كما الشيخ عز الدين القسَّام السوري الأصل - أروع صفحات النضال الفلسطيني، ويتكلل بأكاليل الغار والشكر والعرفان، وإذا كان للعروبة أن تفخر برجالاتها، فإن بومدين (رحمه الله) كان واحداً من بين الذين أكدوا أن انتماءهم لهذه الأمة لا يرقي إليه الشك.
إن مقولته الشهيرة في السبعينيات "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة" تجري على ألسنة الجزائريين وتدور في أعماقهم، ولعل هذه المقولة قد عززت مع الأبعاد الدينية الأخرى علاقة الحب والدفء والمساندة التي يكنها الجزائريون بشكل عام لفلسطين والشعب الفلسطيني.

لقد كانت الجزائر هي من أول الدول التي حثت الفلسطينيين لإعلان دولتهم محاكاة لتجربتهم، حيث إن قيادة جبهة التحرير الوطني قد أنشأت حكومة مؤقتة لها في المنفى، وكانت هناك لها أراض محررة لا يستطيع الجيش الفرنسي الوصول إليها، وهذا الوضع ساهم في إيصال كلمتهم للعالم، باعتبارهم دولة تسعى للحصول على استقلالها عن دولة أجنبية تحتل أرضهم، وكان الرئيس بومدين يحاول التمهيد لهذه المسألة، ويراها ضرورية بالنسبة للقضية الفلسطينية، وكان يأمل أن يسجل التاريخ للجزائر أنها الأرض التي احتضنت هذه الدولة.. ولكن للأسف فإن القيادة الفلسطينية كانت مشتتة في ارتباطاتها، وكانت تخضع في سياساتها ومواقفها لعدة اعتبارات عربية ودولية.

الشاذلي بن جديد: البقاء على العهد
حرص الشاذلي بن جديد الذي اختاره الجيش خليفة للرئيس بومدين في بداية عام 1979 على أن يواصل النهج الذي اتخذه سلفه الراحل بومدين (رحمه الله) تجاه قضية الشعب الفلسطيني، وقد نجح حيناً واخفق أحياناً أخرى.. ومما لا شك فيه أن الكثير من المعطيات السياسية قد تغيرت بعدما وقع الطرف الفلسطيني في شراك التوقيع على اتفاقية أوسلو عام 1993، حيث أصبحت القضية الفلسطينية تخضع بشكل كبير لتأثيرات القوى الإقليمية والدولية، الأمر الذي دفع بالكثير من الأنظمة العربية للهرولة في اتجاه التطبيع مع إسرائيل، وشرعوا في التسويق لمقولة: "لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم"، وعلى القاعدة التبريرية المسخة "لن نكون ملكيين أكثر من الملك".

برغم الظروف الصعبة التي عاشتها الجزائر إبان محنتها الوطنية الكبرى طوال التسعينيات، إلا أنها لم تتخل أو تبخل أو تتردد في تقديم الدعم للسلطة الفلسطينية، حيث قامت الجزائر بتزويد مناضلي الثورة الفلسطينية العائدين إلى وطنهم بكافة الأسلحة والتجهيزات اللازمة لهم، وأعلنت الجزائر عن تقديم مبلغ عشرة ملايين دولار للفلسطينيين، وهي مساهمة كانت كبيرة بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الصعب الذي كانت تمر به الجزائر بسبب تراجع أسعار النفط، ولاعتبارات الحالة المضطربة التي سادت خلال العشرية الدموية وساهمت في إضعاف المكانة الإقليمية والدولية للجزائر.

وحتى بعد فوز حركة حماس في الانتخابات عام 2006، لم تتأخر الجزائر عن تقديم ما عليها من استحقاقات مالية تخص الفلسطينيين لدى الجامعة العربية، بل أنها جادت بالكثير لدعم شعبنا عبر تشجيع الجزائريين للمشاركة في وفود كسر الحصار عن قطاع غزة، وتشهد الأرقام بأن حجم المشاركة من نشطاء الجزائر كان هي الأكبر، سواء من الرجال أو النساء.
وعليه؛ فيمكننا القول: إن الجزائر كانت من الدول العربية القليلة التي ظلت ملتزمة بالقرارات المالية التي أقرتها القمم العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي لدعم الفلسطينيين، وأيضاً كان شعبها وما زال من بين أكثر الشعوب انتماءً ودعماً وحباً لفلسطين وأهلها، ولعل في ذلك ما يعكس حجم الولاء الديني والانتماء القومي والعشق الوجداني الأصيل لدى الجزائريين للأرض المباركة، حيث المسجد الأقصى؛ أولى القبلتين ومعراج النبي الأمين.

الأزمة الدموية: سنوات الجمر والفتور
بعد توقيع اتفاقية اوسلو عام 1993، ظهرت بعض مظاهر الفتور في العلاقة الرسمية مع السلطة الفلسطينية، ربما يتحمل مسؤوليتها الطرف الفلسطيني، حيث شعر الجزائريون بأن الزعامة الفلسطينية قد هجرتهم، بعد أن كانت الجزائر قبلتهم الأولى، وفي موقع "هذه الكعبة كنا طائفيها.."، فهي كانت قريبة دوماً للفلسطينيين في كل مشاهد ومفاصل القضية وتداعياتها.
ولقد سمعت بعض مظاهر العتب الجزائري على القيادة الفلسطينية من الأمين العام لجبهة التحرير عبد الحميد مهري في لقاءٍ جمعني به في بيته عام 2005، وسبب ذلك هو أن تلك القيادة ذهبت إلى أوسلو ولم تحاول الانتفاع من تجربة الجزائر التفاوضية مع فرنسا، ولذلك وقعت في الأخطاء الجسيمة، وتمَّ استدراجها إلى توقيع اتفاق واضح فيه حجم الظلم الذي لحق بالفلسطينيين وقضيتهم. ولعل هذا الجفاء في العلاقة على المستوى السياسي هو بسبب تلك الاتفاقية، التي أثبتت الأيام والسنين أن كل من عارضها أو وقف ضد توقيعها كان على صواب.

جزائر بوتفليقة: عودة الدفء للعلاقة من جديد
لا شك بأن إسرائيل حاولت وستظل تحاول عبر وسطاء كثر في فرنسا والولايات المتحدة اختراق الساحة الجزائرية، بهدف كسر حاجز العداء المستحكم لها في الشارع الجزائري المسلم، ولكن المؤشرات تفيد أن الرسميّة الجزائرية لن تقدم على التطبيع مع اسرائيل قبل التوصل إلى حل سياسي نهائي مع الفلسطينيين، وهذا ما عبر عنه الرئيس بوتفليقة في أكثر من مناسبة، حيث قال في أول مؤتمر صحفي يعقده بعد انتخابه في إبريل 1999: "لا تطبيع قبل استعادة الجولان، وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف..".

وبالرغم من بعض الأخطاء البروتوكولية في مصافحة بعض الشخصيات الإسرائيلية في ملتقيات دولية، إلا أن الرئيس بوتفليقة لم يسمح لقمة الجزائر (عام 2004) أن تكون قمةً للتطبيع مع العدو الإسرائيلي، بالرغم من المحاولات المستميتة التي بذلتها بعض الأطراف العربية الحليفة والصديقة لواشنطن وتل أبيب، وخرجت الجزائر بكلمتها القوية على لسان السيد عبد القادر حجار بأن الجزائر لن تكون مكاناً للتطبيع، ومن أراد أن يطبّع فليطبّع في بلده.
وعندما شنت إسرائيل حربها على قطاع غزة في ديسمبر 2008، دعت قطر لعقد قمة عربية بالدوحة، فتعذر بعض القادة العرب وتهرب البعض الآخر عن المشاركة؛ نظراً لأن خالد مشعل سيكون بين القادة الحضور، فما كان من الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلا القول لسمو الأمير حمد بكل قوة ووضوح: اعقدها ولو لم يحضرها أحدٌ غيري.

إن بإمكاننا أن نقول الكثير عن الجزائر من باب الشكر والثناء والتميز في الكلمة والموقف والعطاء، ولكن كل ذلك لن يكافئ الجزائر؛ الدولة والحكومة والشعب، حقها وهي التي عقدت العزم أن تبقى مع فلسطين "ظالمة أو مظلومة".
وتاريخياً، قد سجلت الجزائر مواقفها التي تعكس عمق انتمائها الديني لفلسطين، وليس أدل على ذلك من قول شيخ الثورة البشير الإبراهيمي (رحمه الله) في كلمته المعبرة بعد النكبة: "أيها العرب، أيها المسلمون.. إن فلسطين وديعة محمدٍ عندنا، وأمانةُ عمر في ذمتنا، وعهدُ الإسلام في أعناقنا".. وقبله بعقدين من الزمن عام 1931، كانت كلمة الشيخ العقبي من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حيث دعا أمة العرب والمسلمين لنصرة أهل فلسطين ونجدتهم، قائلاً: "لبيك.. لبيك يا فلسطين، فما أنت لأهلك فقط، ولكنك للعرب كلهم وللمسلمين".
هذه هي الجزائر، التي نبرق لها اليوم التهاني في الذكرى 62 لانطلاق ثورتها المجيدة؛ أيقونة الثورات العربية المعاصرة.