نشر بتاريخ: 09/11/2016 ( آخر تحديث: 09/11/2016 الساعة: 15:47 )
الكاتب: حيدر عيد
الموقف الذي عبرت عنه تقريباً كل الإدارات الأمريكية من القضية الفلسطينية هو الانحيازه الكامل للإحتلال و الأبارتهيد و الاستعمار الاسرائيلي, فالشعب الفلسطيني وببساطة (غير ذي صلة) "Irrelevant" في السياسة الخارجية الامريكية إلا من خلال بعض المشاكل التي يساهم في خلقها! إن الولايات المتحدة الامريكية لا تبالي على الاطلاق بايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية وبالتالي فهمّ السياسة الامريكية ليس إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية بل ازاحتها من الطريق من خلال شراء ولاءات القيادة الفلسطينية بإغداق الاموال والصلاحيات المحدودة، كما فعلت في العراق وافغانستان وشمال فيتنام. ولكن هذه السياسة أثبتت فشلها حتى الان.
إن أحد أهم المشاكل لدى القيادات الفلسطينية المتتابعة تتلخص عدم قدرتها على استيعاب أن كل الدول المعاصرة، الغربية وغيرها، تبني سياساتها الخارجية على مصالحها الاقتصادية والامنية. من الواضح أن حل القضية الفلسطينية بطريقة عادلة هو في مصلحة الولايات المتحدة لان الشرق الاوسط، بشكل عام، سيبقى مركزا للمشاكل المستعصية حتى حل هذه القضية . ولكن "الحل العادل" في هذه الحالة يتم النظر إليه بطريقة مختلفة كلياً في واشطن. ولكن أمريكا ترى أن العدل الذي يسعى إليه الفلسطينيون هو أمر "مستحيل" لأنه يعني ببساطة نزع الهوية اليهودية عن اسرائيل. إن التضحية بالتحالف الاستراتيجي بين أمريكا والدولة النووية الوحيدة في المنطقة لم يكن أبداً، ولن يكون لفترة قادمة، على أجندة السياسة الخارجية الامريكية، ديمقراطية كانت أو جمهورية, وبالذات في موضوع حقوق الانسان للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث.
وبناء عليه فإنه على الرغم من أن واشطن تعلم ان القضية الفلسطينية تسبب أزمات رئيسية في المنطقة، فإن النخب الحاكمة في واشطن تعتقد أن السبب هو أن الفلسطينيين لا يقبلون بما يطرح عليهم، كما حصل في كامب ديفيد على سبيل المثال، أو لأنهم لا يقبلون بواقعهم كما فعل سكان أمريكا الأصليون. إن الفلسطينيين من وجهة نظر النخبة الامريكية الحاكمة هم سكان الأرض الذين لا يقبلون "بالواقع" الكولونيالي العنصري بهدوء حتى يتمكن التحالف الامريكي الاسرائيلي من السيطرة على باقي الشرق الاوسط, بمساعدة أنظمة الحكم الأوليغاركية و مشيخات البترودولار. وبالتالي فان السياسة الامريكية تقوم على أساس إخراس السكان الاصليين من خلال بعض الصدقات و الرشاوي الخالية من أي معنى. وبما أن هذه السياسة نجحت مع بعض السكان الأصليين في دول أخرى, فلماذا لا تنجح هنا في فلسطين؟ علم، نشيد وطني، قطعة أرض غير متواصلة، مطار صغير، قوات أمنية على نمط نظيراتها في دول العالم الثالث و المعازل الجنوب أفريقية البائدة، رئاسة، رئاسة وزراء، مجلس وزراء! فماذا يريد الفلسطينيون أكثر من ذلك؟!
وبدلاً من إدراك أن السياسة الخارجية الامريكية تتميز ببراغماتية عالية، وأنها تعمل تبعاً للمصلحة الامريكية البحتة وبأي شكل يخدمها، فإن القيادات الفلسطينية، وبشكل متواصل منذ فترة ليست بالقصيرة، تعاملت مع الرئيس الامريكي بالضبط كما تتعامل مع ملك السعودية أو أي أمير خليجي. بمعنى أن القضية الفلسطينية كانت، ولا زالت، تُقدَّم على أساس استعطاف واستجداء”Petition” وطلب من سيادته أن ينظر للقضية بعين الرحمة, أو بعطف, على أمل أن يقتنع مقابل تعاوننا وابدائنا حسن السلوك والصداقة المخلصة والمطيعة، وعلى امل أن يؤدي ذلك أن يتفضل الرئيس الامريكي ويبدي كرمه بمساعدتنا.
إن هذا المنطق يتميز بقصر النظر الذي أدى للفشل الذريع الذي تعاني منه القضية الفلسطينية منذ عام 1993. فهو لم ولن ينجح لأن أمريكا ليست بإمارة خليجية وقيادتها لا يهمها على الإطلاق الوعود الفلسطينية بأن يكون الفلسطينيين "أصدقاء" مطيعين لأن هذا المنطق وبكل بساطة لا يأخذ بعين الاعتبار أن العلاقة الاستراتيجية مع اسرائيل أهم بكثير من الفلسطينيين الفقراء، الضعفاء، الذين يحلمون بكيان مايكروسكوبي على الخريطة.
إلا اذا أجبرت أمريكا على النظر للقضية بطريقة مختلفة، فإنها لن تغير موقفها وستستمر اسرائيل بقضم الارض، وبناء المستعمرات، وطرد المقدسيين، وحصار غزة، ومحاولة التخلص من سكان الارض الاصليين 1948، وممارسة السياسة العنصرية، وبناء جدار الفصل العنصري .....إلخ
على الفلسطييين أن يحولو أنفسهم من أناس "Irrelevantليسو ذوي شأن إلى شعب يفرض أهميته "”relevance بالضبط كما فعل سكان جنوب أفريقيا السود في أواخر الثمانينات. بالطبع بعد فشل النظام الرسمي العربي فشلاً ذريعاً في تهديد أمن اسرائيل والمصالح الامريكية في الشرق الاوسط، والانبطاح غير المسبوق لهذا النظام، فإنه من الصعب تصور تغيير في السياسة الخارجية الامريكية في الشرق الاوسط، وبالذات فيما يتعلق بالقضية الفلسطيينة.
و الخيار الثاني يقوم على أساس الطلب من المجتمع الدولي التدخل. ولكن هذا المجتمع الدولي لا يختلف كثيرا عن أمريكا من حيث عدم قدرته على اتخاذ مواقف تتميز "بالمجازفة" في حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً. إن اسرائيل من وجهة نظر المجتمع الدولي كبير، قوية، غنية، ديمقراطية، وفي المقابل فإن الفلسطينيين فقراء، ضعفاء، وصغار. قد تقوم بعض الدول بإبداء بعض التعاطف والاحتجاج اللفظي على سياسة اسرائيل, ولكن ذلك لا يتعدى الكلام المعسول الذي لا يتحول إلى فعل ايجابي على الاطلاق.
وبالتالي لم يتبق لدينا في هذه اللحظة التاريخية إلا أن نعمل نحن الفلسطينيون على إحداث تغيير. من الطبيعي أن ذلك صعب عسكرياً لاسباب كثيرة ومعروفة. ولكنه ممكن أخلاقياً من خلال تحويل نضالنا من كفاحٍ محليٍ ضيق لا يصل صداه إلى المواطن العادي دولياً، إلى حركةٍ شعبيةٍ دوليةٍ انسانية تصل إلى شتى بقاع الارض على أساس أرضية أخلاقية عليا تؤدي معارضتها إلى خسارة كبيرة، وبالتالي تجعل أمريكا تعيد حساباتها بمقياس الخسارة والربح. إن ما يستطيع النضال الفلسطيني أن يطرحه من أهداف يجب أن يتمحور حول ما يدعي النظام الدولي الحالي أنه يقوم على أساسه: المساواة وعدم العنصرية في اطار حقوق الانسان و الديمقراطية اعتماداً على الاعلان العالمي لحقوق الانسان. وهذا بالضبط ما فعلته حركة النضال ضد الابارتهيد في جنوب أفريقيا.
بالطبع من المتوقع أن الولايات المتحدة لن تقبل هذه القيم بسهولة لأن المؤسسات الحاكمة لا تفعل ذلك ببساطة. ولكنها ستضطر للتعامل مع هذه القيم فقط إذا تحولت إلى حوافز تؤثر تأثيراً واضحاً ومباشراً على المصلحة الامريكية وبالتالي السياسة الخارجية. هذا أيضا ما حصل في أواخر الثمانينات من خلال النضال ضد التفرقة العنصرية.
وهنا تبرز أهمية الضغط الداخلي في أمريكا. من الواضح أن القيادة الفلسطينية، ولفترة طويلة من الزمن، وبأجنحتها المختلفة وطنية واسلامية، وبطرق مختلفة, لم تستطع أن تستوعب جيداً حقيقة موضوعية في غاية الوضوح ألا وهي أن الديمقراطيات، العريقة منها بالذات، لديها مسئولية واضحة تجاه مواطنيها، ويتم محاسبتها من خلال صندوق الإقتراع. ولكن هذا المنطق لا ينطبق على السياسة الخارجية لهذه الديمقراطيات بنفس القدر لان المواطن العادي غير مهتم بشكلٍ كبيرٍ بسياسة بلده الخارجية بنفس قدر الاهتمام الذي يوليه للسياسة الداخلية. وبالتالي فإن ذلك يتطلب منا أن نعمل على إقناع جزء كبير من الناخبين بالاهتمام بالسياسة الخارجية كموضوع له اهتمام شخصي من قبل هذه الفئة. هذا بالضبط ما فشلت به وعجزت عن فهمه الحركة الوطنية الفلسطينية وذلك على الرغم من أن اسرائيل قدمت نموذجاً واضحاً في التعامل مع هذه الاشكالية!
فعلى صعيد المثال أهملت حركة التحرر الوطني الفلسطيني ما يسمى بالتكتل السياسي الاسود "”Black Caucus على الرغم من أن هذا التكتل هو الذي أجبر الرئيس الامريكي الراحل رونالد ريغن على التوقيع على المقاطعة الدولية لنظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. ونتيجة لخيبة السياسة الفلسطينية في هذا المجال إستطاعت اسرائيل أن تستغل التكتل الاسود في دعاياتها من خلال تنظيم رحلات وحملات دعاية، بالاضافة لكسبها لما يسمى باليمين المسيحي الذي يضم أيضا كنائس سوداء. من المؤلم جدا أنه حتى في أوج أيام منظمة التحرير والدعم المالي الهائل الذي كانت تتلقاه، فإنها لم تعمل على استئجار شركة واحدة خبيرة في مجال الدعاية والاعلام "”Lobbying firm في واشنطن مثلا للعمل على إيجاد حلفاء كما تفعل اسرائيل، ولم تقم أيضا بالاستفادة بشكل مباشر من الخبراء الفلسطينيين ذوي الجنسية الامريكية إلا في اطار "الوساطة" مع الإدارة الامريكية.
إن تغيير السياسة الأمريكية الآن يتطلب أولاً العمل على المساهمة في تغيير المناخ الدولي الذي يؤثر في السياسة الأمريكية الخارجية و مصلحتها. و ثانيا العمل على خلق ضغوطات على السياسة الامريكية الخارجية من الداخل من خلال العمل على حشد و التنسيق مع المجموعات الضاغطة, كالتكتل الأسود و حركة حياة السود مهمة.
و في هذا الإطار تنبع أهمية المقاومة المدنية المتصاعدة, و بالذات حملة المقاطعة و عدم استثمار و فرض عقوبات على اسرائيل BDS,. و لا شك أن استثمار ما حصل في غزة لم يتم بالشكل المطلوب لأسباب عديدة لا مجال لذكرها في هذا السياق, و ان كان هذا في حقيقة الأمر يعبرعن فشل تاريخي بامتياز, و يثبت أن التاريخ يعيد نفسه على شكل مأساة و ملهاة في نفس الوقت! و لكن هذا يتطلب رؤية استراتيجية واضحة, تعد بها حملة المقاطعة كتعبير عن حركة تضامن دولية تأخذ رؤيتها من المجتمع المدني و الحركات الشعبية الفلسطينية. هذا ما حصل في الثمانينيات من القرن الماضي ضد نظام الأبارتهيد البغيض. فلم تقم حركة النضال الجنوب أفريقية بالتوسل للإدارة الأمريكية و لا بالطلب منها الاعتراف الشكلي بأهمية السود, و لا كتابة رسائل تسلم لبعض أعضاء الكونغرس و يتم فيها الدفاع عن حلول بانتوستانية عنصرية!
علينا, بالإضافة لإبراز المعاناة الهائلة التي يعانيها الشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاث, التركيز على كوننا ضحايا لنظام التفرقة العنصرية الصهيوني للتأثير مباشرة في التكتل الأسود, و أن أهل غزة هم سجناء في أكبر سجن على سطح الكرة الأرضية بسبب أننا لم نولد لأمهات من أصل يهودي, و أن نضالنا هو نضال من أجل الحرية و العدالة و المساواة الكاملة لكل سكان فلسطين التاريخية. ان نضالاتنا و تضحياتنا تتطلب إعادة قولبة بدون التنكر للتضحيات السابقة و التنديد بها سعياً لرضا البيت الأبيض. بل على البيت الأبيض أن يسعى لرضانا و ذلك من خلال ضغوط حلفائنا في التكتل الأسود, كما يتضح من البيان الذي أصدرته مجموعة من ألمع و أهم الشخصيات الأمريكية من أصول أفريقية تضامناً مع الشعب الفلسطيني و التحالف بين مجموعة "حياة السود أيضا مهمة" و نشطاء فلسطينيين والزخم الذي تكتسبه حملات التضامن و المقاطعة. و هنا فقط نستطيع ان نجذب انتباه النخب الليبرالية الحاكمة, عندما ننقل فلسطين الى قلب العواصم الدولية. فلم تعد كلمة المقاطعة تابو في نيو يورك أو لندن أو حتى برلين. و هذا الإنجاز لم يكن نتيجة المفاوضات العبثية,و لا الرسائل الودية, لا بل نتيجة الدماء التي سالت, و لا زالت تسيل, في غزة و القدس و الخليل و كل فلسطين. و هذا بدوره سيؤدي الى تحول القضية الفلسطينية الى قضية أممية من حيث كونها قضية انسانية تهم سود جنوب أفريقيا و الفرنسيين و الانجليز و الهنود...الخ
و نحن بدورنا سنواصل الدعوة لموجات التضامن مع النضال الفلسطيني, و نعمل على عزل إسرائيل من خلال الضغط على الحكومات التي تدعم نظام الاضطهاد المركب من احتلال و أبارتهيد و استعمار استيطاني!
و عليه فإن رسالتنا للرئيس الأمريكي المنتخب و إدارته هي أننا أننا لا نريد المزيد من الوعود لأننا أصلاً لا نتوقع تغييراُ حقيقياً في سياسات الولايات المتحدة على المدى القريب, و لكننا سنكسب معركتنا في الجامعات و الكنائس و الجمعيات الأمريكية. كل ذلك سيتم من خلال النضال المشترك مع حركة التضامن الدولي في حركة نضالية أممية أدت في الأمس القريب إلى التخلص من نظام التفرقة العنصرية و الإلقاء به في مزابل التاريخ.