نشر بتاريخ: 13/11/2016 ( آخر تحديث: 13/11/2016 الساعة: 15:53 )
الكاتب: حيدر عيد
إن أفضل ما يمكن أن يقدمه كل من احترم نضالات من وهبوا حياتهم للتخلص من نظام الأبارتهيد البغيض (وهذا بالضرورة لا يشمل المتاجرين بالكلمات المنمقة) الذين أيدت أنظمتهم نظام القمع العنصري في جنوب أفريقيا لفترة طويلة قبل أن تجبرها شعوبها على مقاطعته، رؤساء الأنظمة الذين ذهبوا متباكين لحضور جنازة المناضل الأممي وأيقونة النضال ضد العنصرية، نلسون مانيدلا، هو أن يلتزموا بدعوته للتخلص من العنصرية البغيضة.
حينما وجد نظام الأبارتهيد نفسه محاصراً أينما توجه، حينما لم تجد فرقه الرياضية من يرغب في اللعب معها، وجامعاته من يرضى بالعمل البحثي أو الأكاديمي المشترك معها، ولم يجدوا مغنياً أو فناناً أو شخصية ثقافية بارزة تقبل على نفسها زيارة جنوب أفريقيا وهي تحت حكم عنصري قبيح، ولم يجد رجال أعماله أو بنوكه من يرغب بالتعامل معهم، جاء القرار النهائي بالخوض في مفاوضات، ليس لتحسين شروط الاضطهاد أو لتقديم اعتراف بأحد المعازل العرقيّة المسماة بالأوطان المستقلة، بل في كيفية التخلص من النظام العنصري بالكامل، وبالتالي إنهاء العزلة الخانقة التي عاشتها جمهورية جنوب أفريقيا.
حينما خرج المناضل ماديبا من السجن عام 1990 وتوجه فيما بعد لإلقاء أول خطاب له أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، قام بمطالبة دول العالم بالاستمرار في مقاطعة نظام الأبارتهيد وفرض العقوبات عليه على الرغم من خوضه مفاوضات شاقة معه، ولم تُرفع هذه العقوبات إلا بعد انتخابه رئيساً لجنوب أفريقيا، وكانت دولة مواطنيها، دولة فوق العرق والدين والإثنية، وذلك في 1994.
هل تعلمنا الدرس؟
قبل الاستفاضة في الإجابة عن هذا السؤال المحوري، يجب الإشارة إلى ملاحظة غاية في الأهمية، ألا وهي أن نشطاء المقاطعة كانوا قد فهموا واستوعبوا ما عجز العديد من القادة الكلاسيكيين عن فهمه، وهو أن هناك علاقة مباشرة على صعيد المثال بين ما يحصل من تطهير عرقي لبدو النقب الفلسطينيين والعقاب الجماعي الممارس ضد قطاع غزة وسياسة قضم الأراضي المتبقية في الضفة المحتلة وترسيخ سياسات عنصرية جديدة ضد فلسطينيي الـ 48. وبالتالي كان نشطاء المقاطعة أول من استجاب لنداء الحراك الشبابي في مناطق 48، مع ملاحظة امتناع القيادات التنظيمية في الضفة والقطاع عن المشاركة في أيام الغضب الثلاثة، بل قيام الفصائل الحاكمة بمنع المشاركة في الوقفات التضامنية من منطلق الهوس الأمني بأن يقوم الفصيل المنافس "باستغلال الفعالية"، أو لعدم إثارة حفيظة قوى الاحتلال! والسببان يعبّران عن فهمين إقصائيين يشكلان في المحصلة النهائية وجهين لعملة واحدة.
ولكن الحقائق على الأرض تشير الى أننا قد فهمنا واستوعبنا بشكل كبير التجربة الجنوب أفريقية، ضمن تجارب أخرى لحركات تحرر ونضال مدني من إيرلندا الشمالية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وصولاً إلى جنوب أفريقيا، مع الأخذ بعين الاعتبار أشكال الاضطهاد المتعددة التي يمارسها المُضطِهد الصهيوني من احتلال وأبارتهيد وتطهير عرقي ممنهج. وبالتالي تتعدد الأساليب النضالية لتناسب الآلة القمعية التي يستخدمها المُستعمر الصهيوني. ولكن كان يجب التركيز على أداة نضالية شاملة، تستطيع جمع كل قوى الشعب الفلسطيني بغض النظر عن أماكن تواجدها، وتوحد المطالب التي يجب ألا يأتي تحقيق واحد منها على حساب المطالب الأخرى، وهنا بالضبط تكمن شمولية فهم حملة المقاطعة للنضال الفلسطيني بعيداً عن التجزئة التي عانى منها الشعب لفترة طويلة، وبعيداً عن تصنيم أداة نضالية نخبوية عاجزة عن استثمار قوى الشعب المتعددة. فليس من الغريب إذن أن يكون هناك إجماعاً من كل المثقفين والأكاديميين والفنانين وناشطي حقوق الإنسان والنقابيين وقيادات المجتمع المدني، من داخل فلسطين التاريخية (67 و 48) والشتات، على الرغم من توجهاتهم السياسية المختلفة والمتعددة، إلى تبني نداء المقاطعة التاريخي عام 2005، ويتواجد ممثلون لكل القوى السياسية والمجتمع المدني في قيادة الحملة.
ولكن ليس من الغريب أيضاً أن تشعر إسرائيل بالقلق، ويقوم رئيس حكومتها بالإعلان أن حملة المقاطعة الدولية، بقيادة فلسطينية، تشكل "خطراً استراتيجياً ووجودياً" على دولته. بل يقوم بإصدار توجيهات ذات مغزى كبير بنقل ملف محاربة الحملة من وزارة الخارجية، التي فشلت فشلاً ذريعاً في تجميل صورة إسرائيل القبيحة من خلال حملة مضادة لحملة المقاطعة، إلى وزارة الشؤون الاستراتيجية، بل وتعيين وزيراً لمحاربة المقاطعة. فما الذي أقلق مضاجع القيادات الإسرائيلية غير النجاحات المتلاحقة للحملة؟ وفي هذا السياق لا بد من تذكير أولئك الذين يشككون عن وعي، أو بدون وعي، بتلك الإنجازات في الفترة الأخيرة.
من كان يتصور قبل ثلاثة أعوام أن تفرض حملة مقاطعة إسرائيل نفسها على صحف مثل النيويورك تايمز و الواشنطن بوست ؟ فقد كانت كلمة مقاطعة أو وصف إسرائيل بأنها دولة أبارتهيد من التابوهات التي لا يمكن تجاوزها. وها نحن الآن قد وصلنا إلى تلك اللحظة التي قامت بها تسع من أهم الجمعيات الأكاديمية الأمريكية بالتصويت لصالح مقاطعة الجامعات الاسرائيلية: من بينها جمعية الدراسات الآسيوية وجمعية الدراسات الأمريكية وجمعية دراسات الثقافة الأمريكية للسكان الأصليين. ناهيك عن حملات عدم الاستثمار من شركات إسرئيلية متنامية من قبل مجموعات واتحادات طلابية كبيرة في عدة جامعات أمريكية.
وبالعودة إلى بلد أيقونة النضال ضد التفرقة العنصرية، مانديلا، نجد أن الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني الأفريقي) كان قد تبنى نداء المقاطعة عام 2012. وذلك بعد تبني أكبر اتحادات النقابات العمالية هناك للنداء ذاته، وقيام أول جامعة في العالم، جامعة جوهانسبرج، بمقاطعة جامعة بن غوريون الاسرائيلية.
كل ذلك أتى مصحوباً بإلغاء العشرات من الحفلات الموسيقية والفنية في تل أبيب من قبل فنانين دوليين. كما قام أشهر عالم فيزياء في العالم ستيفن هوكنج بالغاء مشاركته في مؤتمر علمي للجامعة العبرية في القدس استجابة لنداء وجهه له مجموعة من الأكاديميين الفلسطينيين والحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لاسرائيل. وما ستيفن هوكنج إلا واحداً من مجموعة تضم بعض ألمع الأسماء التي انضمت لحملة المقاطعة. من الأسقف المناضل ضد الأبارتهيد والحائز على جائزة نوبل للسلام الأب دزموند توتو، إلى المخرج العالمي كين لوتش، والكاتبة الأمريكية اللامعة أليس ووكر وزميلتها أنجيلا ديفيز، إلى المطرب العالمي الذي لا يكل ولا يمل دفاعاً عن حملة المقاطعة روجر ووترز، والفيلسوفة الأبرز في العالم جوديث يتلر والكاتبة الكندية ناعومي كلاين، وألمع كاتبة هندية أرونداتي روي، والكاتب الراحل جون برجر، والقائمة تطول.
وكان اتحاد الطلبة الناطقين بالفرنسية في بلجيكا والذي يضم في عضويته ما يقارب الـ 100.000 عضو قد أعلن تبنيه للحملة، ثم تلاه اتحاد أساتذة إيرلندا. وكل ذلك يأتي بعد تبني النداء من قبل اتحادات عمال جنوب أفريقيا وبريطانيا وإيرلندا واسكتلندا من ضمن العديد من النقابات العمالية العالمية.
ومن الناحية الاقتصادية البحتة فقد خسرت شركة فيوليا الفرنسية لبناء السكك الحديدية المليارات من الدولارات بعد أن تم سحب العديد من العقود التي كانت قد وقعتها في السويد وبريطانيا وإيرلندا والسعودية. كما تم استهداف شركة الأمن (جي 4 أس) في العديد من الدول بسبب مشاركتها في توفير الحماية للسجون الاسرائيلية ومخالفتها للقانون الدولي، وقررت الانسحاب من إسرائيل نتيجة لذلك. كذلك فعلت شركة أورانج للاتصالات الخليوية الفرنسية، واتحاد المقاولات الإيرلندي، كما قامت شركة فايتنس الهولندية بسحب عقدها مع مكوروت وهي أكبر شركة مياه إسرائيلية. وأصدرت الحكومة الرومانية توصية للعمال الذين يتوجهون للعمل في إسرائيل بإلغاء رحلاتهم. وأصبحت العديد من الكنائس الكبيرة في كندا والولايات المتحدة تقاطع بضائع المستوطنات. كل ذلك يأتي مصحوباً بتوجيهات أصدرها الاتحاد الأوروبي ضد تمويل مشروعات إسرائيلية تعمل في الأراضي المحتلة.
كما يؤكد تقرير الأمم المتحدة للاستثمار بأن الحرب على غزة وحملة المقاطعة كانتا السبب وراء الانخفاض الشديد الذي حدث لإسرائيل فيما يخص الاستثمارات الأجنبية، فقد تراجعت بنسبة 46% عام 2014 مقارنة بالعام السابق. وفي تقرير للبنك الدولي فإن هنالك انخفاضاً في الواردات الإسرائلية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 بنسبة 24% نتيجة لحركة المقاطعة. بالإضافة إلى العديد من التقارير التي أصدرتها الحكومة الاسرائيلية ومؤسسات بحثية مرموقة (مثل راند) والتي تتوقع أن حركة المقاطعة ستكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر بمليارات الدولارات. وجدير بالذكر أيضا أن العديد من الشركات الإسرائيلية الكبرى قامت بتصفية في الأراضي المحتلة (صودا ستريم على سبيل المثال) نتيجة لحركة المقاطعة.
كل هذه الإنجازات -وما تم ذكره جزء بسيط- لم تأت من فراغ، بل هي نتاج مجهودات جماعية هائلة لنشطاء المقاطعة في جميع أنحاء العالم، وبتوجيهات من النشطاء الفلسطينيين الذين لا يدخرون جهداً في سبيل تصعيد المقاطعة وصولاً إلى فرض عقوبات على إسرائيل وعزلها حتى تستجيب للشرعية الدولية على نحو كامل لا يجزئ الحقوق الفلسطينية الثابتة من حرية ومساواة وعودة.
وبما أن إسرائيل بدأت تدق ناقوس الخطر بعد سنوات قليلة من انطلاق الحملة، فإن الأيام القادمة ستشهد تكثيفاً كبيراً في حملات المقاطعة وعلى جميع الأصعدة: أكاديمية وفنية وثقافية ورياضية، فليس من الغريب إذن أن نعتبر هذه اللحظة التاريخية لحظتنا الجنوب أفريقية، كما أطلق عليها العديد من نشطاء المقاطعة البارزين، تلك اللحظة التي بدأ نظام الأبارتهيد فيها بإظهار القلق الشديد من تنامي الحملة التي كانت تعمل على عزله في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم والتي أدت في المحصلة النهائية إلى سقوطه سقوطاً مدوياً عام 1994.
ذهب نظام الأبارتهيد إلى مزبلة التاريخ وبقيت دروس النضال لإنهائه تنير لنا الطريق نحو مستقبل بلا تفرقة عنصرية، بلا احتلال، بلا استيطان، مستقبل لا تلعب فيه الهوية العرقية أو الدينية دوراً تبريرياً في ظلم الإنسان للإنسان!