نشر بتاريخ: 20/11/2016 ( آخر تحديث: 20/11/2016 الساعة: 15:11 )
الكاتب: د.اسماعيل تلاحمة
نشأ مفهوم التنمية المستدامة في سبعينيات القرن العشرين، نتيجة إزدياد الطلب على المصادر الطبيعية وإرتفاع عدد السكان وبدء ظهور عوارض بيئية ومناخية لم تكن معروفة من قبل،كل ذلك إرتبط بتغيرات كبيرة في عادات الناس وسلوكهم وإزدياد إعتمادهم على الآلة والتكنولوجيا الحديثة في جميع نواحي الحياة، خصوصا ما شهدته البشرية في النصف الثاني من القرن العشرين بعد أن وضعت الحرب أوزارها وما لحق ذلك من طفرة متسارعة في الصناعة والنقل والتنافس الشديد على تلبية حاجات الناس المتزايدة ، دون النظر لما يسببه ذلك من آثار سلبية على البيئة وصحة الإنسان ومقدرات هذا الكوكب التي وصلت إلينا عبر آلاف السنين بفضل ان من سبقنا لم يعبثوا فيها كما عبثنا فيها خلال المئة عام الأخيرة .
هناك العديد من تعريفات التنمية المستدامة ، لكن أكثرها شمولاً وايضاحاً هو " تلبية إحتياجات الناس الحالية بما لا يؤثر سلباً على حاجات الأجيال القادمة" ، لكن شهد هذا التعريف العام المبسط ومع تراكم المعرفة الإنسانية وتعدد مجالات الأبحاث المتخصصة في التنمية المستدامة مفاهيم ودراسات أكثر عمقا وواقعية ، وبرزت ثلاث مجالات رئيسية للتنمية المستدامة ، وهي التنمية البشرية المستدامة ، والتنمية الإقتصادية المستدامة، والتنمية البيئية المستدامة ، ولاحقا نبذة مختصرة عن كل مجال من هذه المجالات الرئيسية والتي تحتوي ضمنها أيضا العديد من المواضيع الفرعية، على أن يتم إفراد مقالات أكثر تفصيلاً لكل منها لاحقاً.
تشمل التنمية البشرية المستدامة جميع المواضيع والتخصصات التي تعنى بالإنسان،من حيث تركيبة الهرم السكاني والعادات والسلوكيات، وكذلك معدلات الزيادة السكانية ومستويات التعليم وما يفضل الناس وما يرفضون....إلخ ، من البيانات والمعلومات التي تعطي صاحب القرار والمخطط تصوراً واضحاً فيما يخص السياسات والإجراءات الواجب إتباعها من أجل تعزيز جودة الحياه حالياً وكذلك توفير الحياة الكريمة للأجيال اللاحقة ، فعلى سبيل المثال في فلسطين وحيث أن ثلثي عدد السكان دون سن 35 سنة ، فإن التنمية البشرية المستدامة ستعتني بمواضيع مثل خلق فرص عمل ، توفير الصحة والتعليم ، إقرار الأنظمة والقوانين الخاصة بالشباب وتنفيذ مشاريع الإسكان والبنية التحتية والخدمات ...إلخ ،أما في الدول التي بها الهرم السكاني مقلوب أي أن ثلي عدد السكان تجاوز سن 35 سنة فإن إهتمامات التنمية البشرية المستدامة ستكون مختلفة وستركز على المواضع ذات العلاقة بتشجيع زيادة عدد السكان ، وإجراءات التقاعد وتوفير الرعاية الصحية لكبار السن وإستجلاب الأيدي العاملة من الخارج ...إلخ .
التنمية الإقتصادية المستدامة تشمل في طياتها جميع عناصر المنظومة الإقتصادية مثل الصناعة والتجارة والسياحة والنقل والخدمات والإنشاءات والعقارات والزراعة ...إلخ ،وما يتبع ذلك من تخصصات وسياسات تهدف لرفع معدلات النمو والدخل وضبط التضخم وتبني سياسات تحد من الإهدار في الإستهلاك وتعزيز الممارسات الإيجابية والفعالة ، وأبرز الأمثلة التي تستدعي تبني برامج تنمية إقتصادية مستدامة ، الدول النفطية والتي تتمتع حالياً بمداخيل عالية تجعل منها دول مستهلكة أكثر منها منتجة ، لكن خلال العقد الماضي تنبهت بعض هذه الدول لضرورة وأهمية تنويع الإقتصاد وعدم إعتمادة على النفط فقط ،بحيث تستطيع شعوب هذه الدول التمتع بذات المستوى من الرفاهية حتى في حال نضوب النفط ، وفي البلدان النامية أو غير النفطية فإن الإهتمامات والإجراءات مختلفة حيث تنصب في رفع المستوى الإقتصادي وتلبية متطلبات الحياة الكريمة للمواطنين، وفي جميع الحالات فإن الباحثين وأصحاب القرار ومؤسسات الدول تهدف من خلال التنمية الإقتصادية المستدامة إلى تعزيز إقتصاد الحاضر والعمل على إقتصاد قوي ومتناسق مستقبلاً.
التنمية البيئية المستدامة تعنى بشؤون البيئة والتي تشمل الهواء والماء والتراب وما يؤثر عليها سلباً أو يعزز نقائها وجودتها ، وبالتالي تأثير ذلك على صحة الإنسان والنبات والحيوان ، ويمكن القول أن كثيراً من الناس أصبح يربط التنمية المستدامة بالأراضي الخضراء والمياه العذبة والتربة الخصبة هذا صحيح لكنه جزء من كل ، فجميع السياسات والمشاريع والبرامج التي تختص بنقاء الهواء من الملوثات مثل تقليل إنبعاثات الغازات السامة ، والحافظ على عذوبة المياه ومصادرها مثل إنشاء السدود وشبكات الصرف الصحي وإدارة النفايات الصلبة، كذلك نقاء التربة من الملوثات أو التصحر أو التقلبات المناخية كلها تصب في التنمية البيئية المستدامة خصوصا إذا ما اقترنت بالحفاظ على عناصر البيئة من أجل إيصالها لمن بعدنا كما إستلمنها ممن كان قبلنا سليمةً متوازنةً لا يشوبها الفساد والدمار والتلوث.
إن التنمية المستدامة مفهوم ووعي جماعي وأخلاقي يجب إحترامه ومعرفة أبعاده وتعلم كيفية المشاركة الإيجابية فيه منذ السنوات الأولى لعمر الإنسان ، حيث تتسع أطراف التنمية المستدامة لكل نواحي الحياه وتتداخل فيما بينها في كثير من الأحيان، ولأن الأرض هذا الكوكب الجميل الذي سخره الله لبني الإنسان لكي يعمره ويحافظ عليه وجعله أمانة لديه ، وجب عليه لزاماً أن يحسن إستخدامه قبل فوات الأوان ، وهذا يأتي بأن نبتعد عن الجشع والعبث والإفساد بمكونات ومقدرات وتوازنات وطبيعة هذه الأرض دون تفكير أو تخطيط سليم ودون تبني سياسات تنمية مستدامة واضحة وقابلة للتطبيق ، فكما ورثنا بيئةً وأرضاً جميلةً عامرةً بكل الخيرات رغم مرور آلاف السنين وملايين البشر عليها ،ليس أقل من ذلك أن نوصلها لأبنائنا وأحفادنا قابلة للحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.