نشر بتاريخ: 14/12/2016 ( آخر تحديث: 14/12/2016 الساعة: 10:47 )
الكاتب: عيسى قراقع
كنا صغارا، وكنا نتكاثر بلا حدود، لم تتسع المدينة لأحلامنا ولا الشوارع المقنطرة، ولا البيوت التي تتشابك ببعضها، عابقة بروائح الطوابين والاحطاب المشتعلة، لكننا احببناها حتى الموت، هذا ما كنا نردده مع شاعرنا التلحمي خليل توما، نحن الاولاد المبتهجين بأعياد الميلاد، نقايض الرصاص بالزبيب ونرقص فرحا بقدوم بابا نويل.
تحتفل بيت لحم والطوائف المسيحية باعياد الميلاد ، وقد اضاءت اشجارها وروحها الكونية وصعدت مع نجمتها وطفلها وحليبها لتقيم الصلاة في اعالي السماء، ولن يتأخر الثلج ، تقول النبوءة وهي تعبر عاما جديد، ابيض ابيض.
في بيت لحم العتيقة، ترقد الكنيسة، والف بئر وقبر ولغة وآية، وفيها عظام الانبياء والاولياء، وفي احشائها التاريخ والشهداء والحجارة والدوالي والقمح والعسل الاحمر، وتسمع فيها الحان الرعاة، ومن عينيها ينفذ النور الى قلب البيوت المستكينة، ومن على جيل تطل على البحر والقدس والبساتين الحزينة.
في بيت لحم يلتقي الحبيب مع الحبيبة، يفكان قيدهما وينزعان المسامير عن ايدي اليسوع ويتعانقان في الضوء ، هواء الكنيسة دافيء هذا العام، ماذا ستلبس هذه الليلة العاشقة الفقيرة؟ ومع اي سماء تريد ان ترقص؟ وتغني:
يا حبيبي انتظرني اذن
سوف آتيك ... لا جثة في كفن
سوف آتيك في ثوبي التلحمي
وعلى منكبي طرحة من دمائي
وورد الوطن
تغسل بيت لحم قدميها بالقرنفل والزعتر، وتتعمد في ضوء اعضائها ونجومها، تتدلى من بعيد من اعناق النبوّات، تصهر الظلام والنور وتعلن صلاتها الكونية ساكنة في سريرة الخلق، تمزج البخور والمسك بشهقات الموتى و تردد اسماء مواليدها على ابواب المقابر، وتدعو الناس الى تزيين الطرق بالصور والبيارق، فهنا تولد طيور من الحديد لاحتضان المسافات ، هنا تبعث النار والماء في صرخة واحدة.
بيت لحم اول الارض وآخر الارض ، تنهض مع العشب بين خلايا المطر، تنهض بكرومها وتطلق شمسها على الجميع، شمس اليفة، تتماوج السنابل والبرقوق والاجنحة، هناك مشاعل تضاء يوم الاحد، هناك حصار ورصاص وراهب يسقط ومحاصرون يقاومون بالاظافر والجثث القتيلة ، لا حمام في الساحة، وقد أتم الموتى الاناجيل الخمس على صوت القذيفة.
بيت لحم في عيد ميلادها ، هناك محاكمة في السماء، للذين جففوا ينابيعها، وحرقوا حقولها، وصادروا اراضيها، وطوقوها بعشرين مستوطنة، وسيجوها بجدار يحجب الشمس والذكريات، فالسماء عادلة ، والسماء واعدة، بعد ان عجزت الارض عن حماية مدينة الميلاد وخبزها واطفالها، وبعد ان اعدموا اولادها واعتقلوا الملائكة.
هناك محاكمة في السماء لدولة اسرائيل العابرة، وللذين حشروا بيت لحم بين سياج وسياج، وأغلقوا جسدها بالحواجز والمكعبات وابراج الحراسة، السماء تحاكم من حرق زيتونها وشرد طيورها وزور تاريخها واستعمر الذاكرة.
بيت لحم في عيد ميلادها، هناك محاكمة في السماء للذين خلعوا عن المدينة ثوبها الوردي، واغتصبوها وقصفوها، واعتقلوا ابنائها وزجوهم في المعسكرات والمؤبدات، وللذين لازالوا منذ فجر التاريخ يلاحقون طفل المغارة حتى الصلب ، ويزجون بالقاصرين في السجون تعذيبا وقهرا ، ويدمرون الطفولة في فلسطين، شادي فراح ينام بين قيدين، واحمد مناصرة يشتعل تحت الضرب، دم بين العينين.
بيت لحم في عيد ميلادها ، هناك محاكمة في السماء للذين اعدموا ابنائها في الشوارع وعلى الحواجز، سبعة شهداء خلال عام 2016 ، لا زالت دماؤهم تسيل في ذراع الفجر، وفي شرايين الصخور، التراب احمر ، وصلاة منتصف الليل حمراء ساخنة.
بيت لحم في عيد ميلادها، هناك محاكمة في السماء للذين اطفئوا شموعها، وناموا في سريرها، وقصفوا قبابها، وطاردوا الله بين صلاة وصلاة، وللذين لم يروا بريقها وشتائها ورعدها وبشارتها، وقد اعمتهم الفاشية والعنصرية ، هؤلاء الذين يقدسون الحرب ويكرهون الحياة.
في سماء بيت لحم اسمع شهودها، اسرى وشهداء وانبياء وشعراء ورعاة ونساء، وأرى دم كثير ، وموت كثير، ضحايا ينهضون من جلدها وصخرها وترابها ومن قراها ومخيماتها ومدنها ، يحملون اكفانهم وصلبانهم وجروحهم ، كل في يده كتاب، كل سطر بلاد، يشيرون الى قاتل او لص وكافر وجلاد.
بيت لحم في عيد ملادها، هناك محاكمة في السماء، يتلو ابونا ابراهيم عياد سفره على الحاضرين والغائبين، يضع ثوبا كنعانيا على كتفيه ويصلي في الحجيج بكلام من ماء وطين:
يا يسوع المجد، ارحم شهدائنا ، جفف دموع الامهات الثكالى والارامل اليتامى ، اجعل يا رب الرحمة بيننا المحبة والسلام والمصالحة مع بعضنا البعض، ارسم على شفاه اطفالنا البسمة، رد المعتدين الى نحورهم، اجعل من ميلادك المجيد عيدا يعيد علينا السلام والامان في كل اوان والى العالم اجمع، آمين ، آمين .
بيت لحم في عيد ميلادها، هناك محاكمة في السماء، واسمع الشاعر بنايوت زيدان يقرأ قصيدته بين شفتي الارض حتى الموت وهو يقول:
سوف تنهار القيود الهمجية
وستنهار صروح القيصرية
وسينهار الغزاة الغاشمون
وسينهار الطغاة الظالمون
ههنا فأسي ومحراثي
فعلى ارض بلادي لن يمروا
بيت لحم في عيد ميلادها، هناك محاكمة في السماء، وقد رأيت جبرا ابراهيم جبرا يعود الى حارات مدينته ، يفتش عن بائعة الخس في قرية ارطاس، وعن زيت بشارة داود في بيت جالا، ويدور في اسواقها، هنا العجوة والكسبة والسمسم والزيت والسمن والسيرج، وهنا ام ابراهيم قراعة ، ترن جرس العالم بصوت من يقين كمثل سحابة تحمل السماء بيديها واقفة على اصابع قدميها.
بيت لحم في عيد ميلادها، هناك محاكمة في السماء، وأرى خليل زقطان يسأل عن الشجرة التي ينتمي اليها، يقف على رصيف مخيم الدهيشة بين 70 شابا معاقا دمرت رصاصات الاحتلال سيقانهم صارخا:
قسما بجوع اللاجئين وعري سكان الخيام
لنصارع الموت من اجل الوصول الى المرام
بيت لحم في عيد ميلادها ، هناك محاكمة في السماء للذين فجروا احدى الكنائس القبطية في القاهرة وقتلوا 23 مواطنا عشية اعياد الميلاد، صنوبر الكنيسة يقرأه الآن هواء المئذنة، الهواء يهب لكي يكون عزاء للموتى وللشجر.
بيت لحم في عيد ميلادها، هناك محاكمة في السماء، صوت ترانيم في ساحة الميلاد:
ثلج ثلج عم بتشتي الدنيا ثلج
والغيمات تعبانين عالتلة خيمات مضويين
ومغارة سهرانة فيها طفل صغير
بعيونو الحلياني حب كتير كتير
______________________________
* رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين