نشر بتاريخ: 28/12/2016 ( آخر تحديث: 28/12/2016 الساعة: 11:27 )
الكاتب: عبد الناصر فروانة
في الذكرى الأولى لاستشهاده
سمير القنطار .. اسم حفر في ذاكرة فلسطين
لم تكن القضية الفلسطينية، في يومٍ من الأيام، قضية تخص الفلسطينيين فقط، بل كانت ومازالت هي قضية العرب في كل مكان، ولأجلها ودفاعاً عنها قدّم العرب آلاف الشهداء، فضلا عن المئات من العرب الأسرى، إذ لم تخلُ دولة عربية من المشاركة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي أو التمثيل داخل سجونه ومعتقلاته منذ احتلاله لباقي الأراضي الفلسطينية عام 1967، فكان هناك أسرى مصريون ولبنانيون وأردنيون وسوريون وعراقيون ومغربيون وسودانيون وجزائريون وتونسيون وسعوديون وليبيون وغيرهم.
وهؤلاء جميعا يشكلون مفخرة للشعب الفلسطيني. فهم الذين سطروا سويا مع إخوانهم الفلسطينيين أروع صفحات الوحدة والتلاحم والنضال العربي المشترك في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وهم من سطروا كذلك صفحات مضيئة خلف قضبان سجونه. لذا ستبقى الذاكرة الفلسطينية تحفظ أسماءهم عن ظهر قلب. وكيف للذاكرة الفلسطينية أن تنساهم، وهم جزء من التاريخ الفلسطيني وجزء أصيل من تاريخ عريق سجلته الحركة الوطنية الأسيرة خلف قضبان سجون المحتل، وخطت حروفه بالألم والمعاناة ودماء الشهداء!.
"سمير القنطار" العاشق لفلسطين، والمقاوم من أجل حرية فلسطين، والأسير المحرر القائل "لم أعد من فلسطين إلا لكي أعود إلى فلسطين"، والشهيد على أيدي من يحتل فلسطين، هو واحد من أولئك العرب الذين انتموا لفلسطين وضحوا من أجلها وشاركوا في النضال من أجل تحريرها.
"سمير" هو ذاك الشاب اللبناني الذي عشق فلسطين منذ طفولته، وانخرط في فصائل الثورة الفلسطينية وهو في ريعان شبابه، وحمل البندقية بشجاعة وتقدم الصفوف دفاعاً عن فلسطين وثراها، وتخطى الحدود وتجاوز حقول الألغام، وعبر البحر إلى نهاريا شمال فلسطين على متن زورق مطاطي مع مجموعة من رفاقه ليقاوم المحتل الإسرائيلي وجهاً لوجه، وليساهم في استعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة.
"سمير" قاوم واشتبك مع الاحتلال وجنوده المدججين بالسلاح، وقتل وجرح العديد منهم، قبل أن تنفذ ذخيرته، ويصاب بعدة رصاصات وينزف دمه ليروي ثرى الوطن العربي الفلسطيني، فيقع في قبضة المحتل الإسرائيلي ولم يكن حينها قد تجاوز السابعة عشر من عمره. ولينقل بعدها إلى زنازين سجونه، للتحقيق والتعذيب بهدف الانتقام، ويتعرض في تلك الحُجَر الصغيرة والضيقة لأبشع صنوف التعذيب دون مراعاة لإصابته وتفاقمها، أو لدمه النازف من جسده الجريح وحاجته للرعاية الطبية، ليخط على جدران زنزانته بقطرات من دمه أولى حروف مرحلة جديدة في مسيرة حياته ومقاومته للمحتل خلف قضبان سجونه. كان ذلك في الثاني والعشرين من نيسان/ابريل عام 1979. وهو ذات التاريخ الذي أعتمد لاحقا يوما للأسير العربي، تكريما ووفاء لكل هؤلاء العرب الذين ناضلوا وضحوا واعتقلوا لأجل فلسطين وقضيتها العادلة، وبقىّ الشعب الفلسطيني يحييه -حتى يومنا هذا- بالشكل الذي يليق بهم، وفاء لمن كانوا أوفياء لفلسطين.
وفي الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير عام1980 اصدرت المحكمة الإسرائيلية المركزية في تل ابيب بحق ذاك الأسير العربي اللبناني حكماً بالسجن المؤبد (مدى الحياة) خمس مرات، بالإضافة الى 47 عاماً.
أمضى "سمير" من سنوات عمره في سجون الاحتلال الإسرائيلي وبشكل متواصل ربع قرن من الزمن، زادهم أربع سنوات، بل وأكثر من ذلك ببضعة شهور، وكان قد اقترب على اتمام ثلاثين عاماً كاملة في غياهب سجون الاحتلال لأجل حرية فلسطين وثراها و شعبها، ودخل قسرا ضمن قائمة "جنرالات الصبر" وهو المصطلح الذي يُطلقه الفلسطينيون على من مضى على اعتقالهم أكثر من ربع قرن، وهو بذلك يُعتبر "عميد الأسرى العرب" على مر التاريخ وليس فقط اللبنانيين، باعتباره أكثرهم قضاء للسنوات في سجون الاحتلال. هكذا يسجل التاريخ الفلسطيني والعربي، وهكذا تحفظ الحركة الأسيرة في سجلاتها، وهذه هي الحقيقة الساطعة التي يجب أن يعرفها الجميع.
وعلى امتداد ثلاثة عقود أمضاها في السجون الإسرائيلية، تعرض "القنطار" للقهر والظلم وقسوة المعاملة كباقي الأسرى الفلسطينيين، لكن لربما معاناته تفوق معاناة الآخرين جراء حرمانه من زيارة أهله وأقربائه ومحبيه طوال فترة سجنه، إلا أن ذلك لم يكسر إرادته القوية وعزيمته الصلبة وصموده الكبير، ولم يهز ما فيه من معنوياته عالية، فظل "سمير" الأسير ثابتا بشخصيته القوية كما "سمير" المقاوم، وملتحما مع إخوانه الفلسطينيين كما كان بجانبهم في ساحة الاشتباك المباشر، ونسج علاقات وطنية واسعة مع كافة الأسرى على اختلاف انتماءاتهم الحزبية، فأحبهم وأحبوه، وتحلى بأخلاق عالية وشجاعة قل مثيلها. فانخرط في الحياة الاعتقالية والنضالية والتنظيمية، وكان نداً قوياً للسجان وما يمثله، وحاضراً دوماً في قلب المعركة، وكان مشاركاً وقائداً في كل المواجهات خلف القضبان على اختلاف مسمياتها وطبيعتها بما فيها الإضرابات المفتوحة عن الطعام وما يُطلق عليها بـ"معارك الأمعاء الخاوية". وشارك بفاعلية في تحقيق الانتصارات وتطور مسيرة الحركة الأسيرة. لذا اعتبر واحد من قيادات الحركة الأسيرة وأحد أعمدتها الأساسيين طوال فترة سجنه. هكذا عرفناه في السجون وهكذا يشهد له رفاقه واخوانه وممن عايشوه في السجون الاسرائيلية.
في العشرين من آيار/مايو 1985 رفضت دولة الاحتلال اطلاق سراحه ضمن صفقة التبادل الشهيرة آنذاك، والتي جرت ما بين الجبهة الشعبية-القيادة العامة وحكومة الاحتلال. كما وأصرت على رفضها بإطلاق سراحه ضمن صفقة التبادل التي أنجزها حزب الله في كانون ثاني/يناير عام 2004. إلا أن حزب الله آنذاك كان قد وعد "سمير" بإطلاق سراحه وضمان عودته حراً الى لبنان. فكان "الوعد الصادق" في السادس عشر من تموز/يوليو2008. ليعود سمير حرا ومنتصرا الى أهله وشعبه ووطنه. وهو من قال حينها ""لم أعد من فلسطين إلا لكي أعود إلى فلسطين". هذا هو سمير القنطار، ومن منا لا يعرف سمير، فهو لا يعرف المقاومة وانتصاراتها، ولم يقرأ عن فلسطين وتاريخها، ولم يسمع عن الحركة الأسيرة وصمودها ونضالاتها ومقاومتها للمحتل خلف قضبان سجونه.
"سمير سامي القنطار" (54 عاما) هو ذاك الشاب العربي اللبناني الذي دخل فلسطين فدائيا، وروى ثراها بدمائه النازفة، وضحى بحريته لأجل حريتها فأمضى في سجون مُحتلها ثلاثون عاما، وهي تفوق ما قضاه من سني حياته خارج أسوارها. واستشهد جراء غارة اسرائيلية صاروخية استهدفت العمارة السكنية التي كان متواجد فيها في "جرمانا" القريبة من العاصمة السورية "دمشق"، وذلك في مساء التاسع عشر من كانون أول/ديسمبر 2015. ليعود الى فلسطين شهيداً ويسكن قلوب شعب أحبه، فعشقه، فحفظ اسمه في ذاكرة الوطن، وحفر مسيرته النضالية المظفرة في سجلات تاريخ الثورة والحركة الوطنية الأسيرة.
أخونا، رفيقنا، صديقنا، حبيبنا "سمير القنطار".. الشهيد الحي قبل اغتياله واستشهاده ورحيله الأبدي. فالقاتل الإسرائيلي كان يخشاك وأنت في سجنه مقيد بالسلاسل والأغلال. وأعرب عن خشيته أكثر بعد خروجك وعودتك منتصراً الى لبنان المقاومة. واليوم يخشاك وانت في قبرك شهيداً. فهنيئا لك الشهادة.