نشر بتاريخ: 17/01/2017 ( آخر تحديث: 17/01/2017 الساعة: 14:58 )
الكاتب: د. حسن عبد الله
لا يمكن لك أن تجلس هادئاً محايداً بلا انفعال أو حماسة أو دون تصفيق حار، وانت تستمع للأصوات الفلسطينية الثلاثة المشاركة في "أرب ايدول"، ليس من منطلق الأقليمية أو العصبوية المغلقة، بل لأن هذه الأصوات، جديرة بعروبتها وفلسطينيتها، بخاصة وانها حافلة بالتميز المتشكّل على أرض عرفت الإبداع الحقيقي منذ قرون بعيدة.
وقصة فلسطين مع الإبداع هي طويلة وخصبة ومثمرة، حيث لا نستطيع في مقالة قصيرة الإحاطة بمراحلها كافة، لكن نكتفي بإشارة ذات دلالة تاريخية على سبيل المثال لا الحصر، فقد كانت يافا مدينة حاضنة للمبدعين الفلسطينيين والعرب والعالميين قبل العام 1948، وهناك أصوات عربية أصيلة تعمدت فنياً في يافا كأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وغيرهما.
وذكر مؤرخون ان كثيراً من الفنانين العرب، كانوا يتوقون للغناء أمام الجمهور اليافاوي، على اعتبار انه ذواق ولا يقبل سوى الأصوات المكتملة الناضجة، فان رضي اليافاويون عن أداء الفنان، يعني انطلاقته الفنية.
وفي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حمل الشعر الفلسطيني القضية إلى العالم، بعد أن تُرجمت أشعار درويش والقاسم وراشد حسين وبسيسو وفدوى طوقان وتوفيق زياد إلى عديد اللغات العالمية.
وكانت "فرقة العاشقين"، خارج الوطن، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، خير سفير للقضية والإبداع الفلسطيني، كما كانت "فرقة الفنون الشعبية" في داخل الوطن شعلة نشاط فني مزاوجة بين الأغنية الشعبية والدبكة، أسوة بما قدمته أيضاً فرقة "سرية رام الله الأولى" وفرق مسرحية كالحكاواتي والمسرح الشعبي.....إلخ.
ما جسده الفنان محمد عساف من إبداع قاده إلى الحصول بجدارة على لقب " ارب ايدول" وما يقدمه الآن في المسابقة ذاتها أمير دندن ونادين الخطيب ويعقوب شاهين يؤكد ان تجربة عساف ليس طفرة فريدة ونادرة خارج السياق، بمعنى ان العملية الإبداعية الفلسطينية مستمرة ومتواصلة من مرحلة إلى أخرى، مستندة إلى تاريخ ثقافي وفني غني وعميق، فلا شيء يأتي من فراغ ولا انجاز يتم تحقيقه بمعزل عن أساس أو ركيزة أو أرض صلبة ينطلق منها ويحلق بعيداً عنها، لكن مع الحفاظ على روابط متينة بقاعدة الإنطلاق.
وفي هذا الإطار، فإن سؤالاً يطرح نفسه، هل نحن نبالغ ونحن نحتفي باصواتنا الطربية التي أدهشت المتابعين في عالمنا العربي؟
الجواب، كلا، فمن حق أي شعب على وجه هذا الكوكب، أن يفخر ويحتفي بمبدعيه، وأن يقدم لهم الدعم والتحفيز والتشجيع، بيد أن احتفاءنا من الطبيعي، ان يكون مختلفاً ومضاعفاً عن أي شعب آخر، والسبب يكمن في خصوصية المرحلة التي نعيش، حيث العلاقة الجدلية في تجربتنا بين السياسي والإبداعي، بين الإبداعي والهوية الوطنية، لاسيما ونحن ما زلنا في مرحلة تحرر وطني بلا استقلال، وأن هويتنا الوطنية تتعرض لمخططات لا تنتهي لطمسها والانقضاض عليها، فيما عوامل مواجهة هذه المخططات تتداخل فيها مقومات وأبعاد مختلفة بين السياسة والثقافة والفن والإبداع والعمل البحثي والانتاج الإعلامي...إلخ.
وسؤال آخر، نطرحه في هذا السياق ذاته:- هل كان بمقدور السياسي وحده ان يتصدى لمهمة الحفاظ على الهوية الوطنية دون التكامل مع الثقافي والإبداعي والفني؟.
والحقيقة ان ما ينجزه السياسي يظل ضعيفاً ومنقوصاً إذا خلا الفعل من حركة ثقافية فكرية فنية، لذلك فان الجهد الذي يبذله الفنانون الفلسطينيون الثلاثة في "أرب ايدول"، يجب الا نخرجه من مضمونه السياسي وينبغي عدم التقليل من أهمية وجودنا في كل المحافل والمجالات الثقافية والإبداعية، ليس على مستوى عربي فحسب وانما على المستوى العالمي أيضاً.
"يعقوب شاهين ودانا الخطيب وأمير دندن"، أصوات فلسطينية جديرة بالدعم والتأييد وجديرة بان نفاخر بها، فهي امتداد لعملية إبداعية انبثقت من الماضي، وهي حلقة مهمة واصلة للمبدعين الثلاثة وغيرهم في الحاضر وجسر مرورهم إلى المستقبل، الذي نتمنى ان يكون حافلاً بالابداعات والاختراعات والتميز، فالغناء والموسيقى والشعر والمسرح والفن التشكيلي وكل الجوانب الفنية الأخرى هي تعبير عن ثراء روحي لا ينضب، وإذا حضر الروحاني بكثافة ودهشة، فإن الوجود المادي على الأرض يصبح مفعماً بالثقافة التي يستمد منها الحلم اجنحته ليحلق جدلياً في فضاء الروح منه وإليه، وفي رحابه، وفي أفقه الممتد.