الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ما زالت "فيروز" تغني:فَبلسّمْ جراحك بالأمل

نشر بتاريخ: 29/01/2017 ( آخر تحديث: 29/01/2017 الساعة: 10:12 )

الكاتب: د. حسن عبد الله

الفنانة العربية الكبيرة "فيروز" التي أكملت ثمانين حولاً من عمرها المديد، بالمقياس الزمني، أما في القياسات المعنوية والإبداعية، قياسات الإنجاز والتفوق، فإن عمر "فيروز" يساوي القمة، كما عمر "المتنبي" الذي يعيش ويستمر ويتواصل في الشعر وبالشعر ومع الشعر.
فالزمن في تجربة" فيروز" ليس زمناً عادياً يتشكل من أيام وشهور وسنوات متعاقبة، وإنما زمنها هو زمن الإبداع حينما يتفوق على ابداعه، ويصير وطناً متجدداً، يصير عمالاً وفلاحين وطلبة، يصير حباً وحنيناً وعشقاً لبيروت والقاهرة وعمان والجزائر والرباط وبغداد، يصير الجنوب اللبناني وجسر اللوزية و"شادي" الطفل والشاب والكهل، يصير كل جغرافيتنا وعشقنا المعتق في أغنية، وعبقنا الذي يفوح نرجساً من شبابه أو عود أو كمان.
"فيروز" عندما تغني تشعرنا بقيمة اللغة العربية، وتطلق فينا بساطتنا، تطلق كبرياءَنا واعتزازنا بأنفسنا، فيتأكد لنا أن على أرضنا ما يستحق الحياة، على رأي شاعرنا الكبير محمود درويش.
صوت "فيروز" لا يلامس شغاف قلوبنا فقط، بل عتيقنا وجديدنا، حاضرنا ومستقبلنا، فهي التي غنت لـ"قدسنا" وتجوّل صوتها في أزقتها، تفقد الباعة ومسح الحزن عن وجوه المتعبين، وظل يحملنا إلى القدس نحن أبناء فلسطين، بل وكل العرب، نرافقه في زيارات تفقدية، منتصرين على الجدران والأسلاك الشائكة وأجهزة الإنذار المبكر، نسافر على جناحي الصوت دون ان يتمكنّ القابضون على عنق حرية المدينة من فحص بطاقاتنا الشخصية للتطفل على اسمائنا وعناويننا وفصيلة دمنا ونبراتنا ودقات قلوبنا.
"فيروز" التي نجحت في جعل الأغنية مسموعة، متاحة، لينة، سهلة لكل الشرائح الاجتماعية، مع استمرارها محلقة في علياء الإبداع. وعندما تهبط الأغنية "الفيروزية" إلى الأرض تقبلّها، تفعل ذلك بينما الريح تلعب بغرتها في السماء. 
على مدى أكثر من نصف قرن من الزمن، حركت "فيروز" الأغنية العربية وشكلتها، نغمةً وصورة ودماً وأعصاباً وخلجات لتغدو حياة، بعد أن نزعت منها كل أشكال النواح والبكاء والعويل والآهات المميتة، التي كان تحول المستمع إلى جسم هامد، وقد برخ الحزن على صدره لتنكتم أنفاسه وينقبض فؤاده، وتقبع حياته حبيسة في سجن اللوعة.
فشكراً لفيروز، وشكراً لمدرسة "الرحبانية" وشكراً لمن كتبوا الأغنية "الفيروزية" ولحنوها وحرروا جسدها من الكفن وحولوها إلى أغنية مفعمة بالحياة.
عندما نستمع إلى "فيروز" نفرح كبشر ونحزن كبشر أيضاً، لكن دون أن ننبطح في أسرتِنا بلا حراك، نستمع إليها ونطرب ونحن نعمل أو نأكل أو نكتب أو نسافر، نستمع إليها في كل الأوقات والحالات، في كامل صحونا وطربنا وانشدادنا وحبنا وحنيننا، فنظل متماهين من إنسانيتنا لا نغيب عنها ولا نفلت منها أو تفلت منا لحظةً واحدة.
لا توجعنا أغاني "فيروز" وإنما تبلسم وجعنا، ولا تبكينا "فيروز"، بل تكفكف دمعنا، وكلما اشتد اغترابنا في وطننا العربي، نتيجة السلبي والثقيل، تُثقِفنا من جديد، تثقفنا طرباً ونغماً وإبداعاً، بأن كفة الإيجابي هي الأرجح، حتى لو لم نره في التو، فهي تؤشر لنا بصوتها إلى المخفي والمستتر منه، لنعود ونكتشفه فنتوازن، ونمارس انتماءنا بشكل أفضل، حتى والأشواك تنغرز في اقدامنا أو خيالاتنا.
أي صوت هذا الذي أهدته فيروز للوطن العربي، وأي حب هذا الذي غمرتنا به وأية حياة حافلة بكل مقومات الوجود التي نعيشها في صوت فيروز؟
وأي صوت رقراق منساب، سهلٌ ممتنع، تشكل في حنجرة إنسان، فاصبحنا نألف سلاسته وانسيابه وعظمته كما نألف النيل وبردا ودجلة والفرات والعاصي.
صوت كأنهار عربية أصرت ألا تتوقف عن الجريان، لا يحبطها غدر إنسان عربي بأخيه العربي، أو أن جماعات منا وفينا صارت متمرسة في التخريب والنهب وتدمير الأوطان وسرقة وتهريب الآثار وتفكيك الجيوش ومسح المؤسسات والهياكل والبنى.
صوت يؤكد لنا صباح مساء، لا يصح على هذه الأرض إلا الصحيح، ولن يبقى في الوادي سوى حجارته العصية على الجرف، "أما الزبد فيذهب جفاءً"، فيما يمكث في الأرض ما ينفع الناس ويفرّج كربهم، لذلك يخلدُ الإبداع والثقافة والإنتماء واللغة والحلم، ويبقى صوت "فيروز" شاهداً على أننا كنا وسنبقى، وان مرحلة اللجوء والتشرد والاغتراب، هي حالة طارئة مؤقتة.
وطننا العربي منذ القدم كان، وفي الغد سيستمر ويكون ومن لا يصدق هذه الخلاصة، فليسارع ويستمع إلى "فيروز"، فصوتها أكثر إقناعاً من كلمات كاتب حتى لو احترف الكتابة منذ عقود.