الخميس: 28/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

لماذا تنصب إسرائيل الحواجز العسكرية؟؟

نشر بتاريخ: 04/02/2017 ( آخر تحديث: 04/02/2017 الساعة: 13:47 )

الكاتب: د. أحمد رفيق عوض

وتعريف الحاجز يختلف عن تعريف الحصار، فالحصار علاقة عداء كاملة، ووضع قد يطول أو يقصر يهدف إلى الاستسلام أو الاحتلال أو الاقتحام، والحصار علاقة باتجاه واحد، أي علاقة تتصف باستغلال قوة الإرادة والصمود والتحدي، أما الحاجز فهو لا يتضمن كل ذلك، وإنما هو وضع يهدف إلى التطويع والتطبيع والهندسة والضبط، الحاجز علاقة شرطية تقوم على أسس المدرسة الروسية البافلوفية أو المدرسة السلوكية الأمريكية التي ابتدعها واطسن وكريك، الحاجز يقيم أو يؤسس لعلاقة قد تكون أعقد من المدرستين السابقتين وهو ما ندعيه في هذا المقال، فالحاجز وإن كان يستخدم فكرة العقاب والثواب، إلا أن رجع الصدى لهذا الشرط يفوق التوقعات، فالبشر أعقد من الفيزياء والنفس البشرية لا تخضع لقوانين المختبر.
وفي هذا المقال نطمح إلى أن نقدم مداخلة أولية لسيسيولوجيا الحاجز العسكري، وهي رؤية تم فحصها بالتأكيد في العلوم الأمنية وسيكولوجيا الجماهير وعلم الاتصال الجماهيري، ونحن هنا نقوم بتجميع أو ابتداع أوجه قد تكون جديدة لتتحول هذه الظاهرة إلى علم منفصل، بالإشارة إلى أن استخدام الحاجز العسكري أصبح شائعاً، خصوصاً في ظل العولمة التي تشهد انفجارات اثنية وعرقية ومذهبية، بحيث أصبح الحاجز العسكري ملمحاً أصيلاً في هذه الحروب، فللحاجز العسكري تعريفات متعددة واستعمالات مختلفة وأشكال متنوعة وأهداف قريبة وبعيدة وتأثيرات ذات مستويات مختلفة وطرق التعامل معه تفوق الخيال، وفي أراضينا المحتلة مثلاً، فإن الحاجز العسكري أبعد وأعمق من مجرد كونه يمنع الحركة أو يذل الناس أو يقطع الطرق أو يمنع ميلاد الدولة أو يؤخر الاقتصاد أو يشل الحياة الاجتماعية، الحاجز العسكري عادة ما يقوم بالوظائف التالية:
أولاً: الحاجز العسكري يقوم عادة بهندسة حياة الناس اليومية، فهو يحدد ميعاد الخروج والدخول، ويحدد الأوقات ونوعية الحالات والظروف المقبولة والمرفوضة، وهذا يقود بمرور الوقت إلى تطويع الجمهور تماماً بحيث يتحول الحاجز إلى جزء أصيل من حياتهم، الأمر الذي يجعل من الحاجز نقطة الانطلاق ومرجعية الحياة ذاتها، إن ارتباط الحياة اليومية بالحاجز - بما فيه من حدة وصرامة ومزاجية وعنف وإذلال يجعل من هذه الحياة ذات طموحات قليلة وإنجازات ضئيلة وتتصف عادة بالرغبة في عدم الاحتكاك بالحاجز قدر الإمكان.
ثانياً: الحاجز العسكري عادة ما يقوم بعملية تطبيع للواقع، فهو - واعتماداً على ما ذكر في النقطة السابقة - يحصل على ردود أفعال متوقعة من الجمهور الذي يتعامل معه، فالحاجز الذي يضع قوانين غير مفهومة ولا منطقية ولا إنسانية لمن يدخل ولمن يخرج، وماذا يدخل وماذا لا يدخل، يتحول في نظر الجمهور الضعيف إلى ما يشبه القدر بما يتصف من قوة وغموض، وهذا يتحول بمرور الوقت إلى قبول فكرة الحاجز ورفض الثورة عليه.
الحاجز الذي عادة ما يستخدم الآلات والقضبان والزجاج والوجوه المغطاة والأسلحة المتعددة يعزز هذا المفهوم.
ثالثاً: الحاجز يقوم عادة بتغريب المكان عن أصحابه فالحاجز لا يقوم فقط على فكرة الإقصاء والمنع والحجز، بل يقوم أيضاً على فكرة تحويل المكان إلى مكان مخيف ومحرم، وأن من يدخله يجب أن يحصل على تصريح خاص، ومع مرور الوقت، فإن الأماكن كلها تتحول إلى أمكنة غريبة ومحرمة، وهذا ما يفصل بين المواطنين ومكانهم، بحيث يفقدوا الرغبة في التعرف إليه، ويبدأون باحتقاره واحتقار ثرواته، فهي ليست لهم ولا يتمتعون بها، إن فكرة التغريب والتحريم هي فكرة عميقة ومؤثرة إلى درجة التفكير بالهجرة أو ترك المكان كله، إن تغريب المكان وتحريمه فكرة استعمارية قديمة، وهي تستعمل لمسألة أخطر وأعمق، فالمحتل أو المستعمر عادة ما يقدم رواية جديدة للمكان المحرم، وهي رواية تقوم على مبدأ الأهلية والاستخدام، أي إن المستعمر أحق من أهل البلاد بأرضهم لكونه أكثر تقدماً ويمكنه استخدامها واستغلالها بشكل متفوق، وبالنسبة للاحتلال الإسرائيلي فإنه يضيف إلى ذلك فكرة الملكية الإلهية التي يعتقد هذا المحتل أنها من أقوى الوثائق التي يمكن أن تقدم أو تعرض لامتلاك المكان.
رابعاً: الحاجز وخصوصاً الدائم منها يطور مصالح جديدة للجمهور، إذ أن الحاجز يقسم الجغرافيا إلى ما قبل الحاجز وما بعده، أو ما وراءه وما خلفه، ولأن الحاجز يقوم بعمليات انتقاء وتقصد وتصفيه، فإن الجمهور خلف الحاجز - بسبب من عدم القدرة على التواصل والتفاعل مع الآخرين - فإنهم وبمرور الوقت يطورون لأنفسهم مصالح مختلفة، ويضطرون إلى ابتكار أنماط جديدة للعيش والارتزاق والتعليم والزواج، وبهذا تنحصر مصالحهم وتضيق وتحدد من داخل مناطقهم، إن تطوير مصالح محلية يعني تحديات وأسئلة جديدة وردود جديدة، وهذا يقود إلى النقطة التالية:
خامساً: الحاجز يقوم عادة بتطوير هويات جديدة أو يؤسس لظهور هويات جديدة بسبب نشوء مصالح واهتمامات وتحديات مختلفة، وعادة ما لا يتم الحديث عن الهويات بوضوح بادئ الأمر، ولكن، ومع مرور الزمن، وبمساعدة من الحاجز وازدياد ضغط المصالح فإن الهوية الجديدة يتم التعبير عنها أولاً بالأوصاف ثم بالجغرافيا وأخيراً بإطلاق اسم جديد آخر، وهناك عندنا وفي العالم من حولنا أمثلة ناصعة على ذلك.
سادساً: الحاجز عادة ما يدفع إلى الغرائزية، أي يدفع الجمهور إلى التصرف بغرائزية عفوية أو غير عفوية، فلأن الحاجز عنيف وظالم وخطر وقد يسبب الموت، فإن الجمهور في معظمه سيتصرف حسب قاعدة الهروب من الأذى والاقتراب من الأمن، ولهذا فإن سلوك الجمهور على الحواجز عادة ما يتسم بكثير من الغرائزية التي تتمظهر في الانتهازية والتذلل والتزلف والتنافس والفظاظة والعنف والتدافع، وعادة ما تغيب فكرة الجماعية أو التنظيم أو التنسيق أو التصرف الموحد، وهذا يقود إلى النقطة التالية:
سابعاً: عادة ما يدفع الحاجز الجمهور إلى الشعور بالبهائمية، فعمليات التفتيش المذلة وإبقائه تحت الشمس أو المطر أو الازدحام و النظر إليه من بعد واستخدام الأسلحة لإرهابه واستخدام القفازات حتى لا تتم الملامسة الشخصية وإجباره على مسارات محددة من الإسمنت أو الحديد، كل ذلك يدفع إلى فكرة القطيع الذي يجب أن يتم التخلص منه أو حصره أو تجميعه أو إطلاقه، وعادة ما تفتقر الحواجز إلى الحمامات أو أية خدمات بشرية تخص الجمهور، الأمر الذي يعزز هذه الفكرة، هذا فضلاً عن الكلام المبتذل والنابي والبذيء الذي قد يستخدم من قبل من يدبر الحاجز.
ثامناً: الحاجز عادة ما يقوم بعمليات ضبط اجتماعي خارق، فهو أولاً يميل إلى إدخال أو إخراج المريض والضعيف والعاجز ويمنع الأقوياء، وهو يسمح بمرور بعض الفئات الذين يحملون تراخيص خاصة ويمنع البقية، بحيث يقوم الحاجز فعلياً بتصنيف الجمهور إلى فئات متعددة، متعاونة، أقل تعاوناً، أكثر تعاوناً، مطلوبة، وهكذا، الأمر الذي يجعل من الحاجز مكاناً للتفريق والتمييز وبالتالي يصنف الجمهور الذي يرى في ذلك تمزيقاً لوحدته أو تهميشاً لفكرة الوحدة والهدف الواحد.
تاسعاً: الحاجز يقوم على أساس من الاستعلاء بين من يملك القوة ومن لا يملكها، وهو يمارس هذه القوة بشكل لا منطقي ولا عقلاني، ولأنه قادر على القتل، فإن الحاجز يقدم عملياً القوة العمياء بأجلى صورها، ومع مرور الوقت، فإن هذا الاستعلاء يتحول في وجدان الجمهور إلى عقدة دونية حقيقية، إذ يرى الجمهور نفسه يستحق هذه المعاملة ويعتبرها جزءاً من عقابه الذي يعتقد أنه يستحقه، إذا اضيفت إلى هذه النقطة إلى ما ذكر سابقاً، فإن الجمهور عادة ما يعبر عن ذلك بقوله: "إننا نستحق ما نحن عليه"، الحاجز لهذا السبب يعزز فكرة الدونية لدى الجمهور.
عاشراً: الحاجز العسكري لا يهدف إلى فرض الأمن إطلاقاً، إذ ليس من المنطق أن يقوم فرد أو عدة أفراد بتجاوز الحاجز أو التفكير بتجاوزه وهم يحملون ما هو غير شرعي أو قانوني بنظر من يدير الحاجز، ولأن الحاجز ليس من وظيفته فرض الأمن، فإن الحاجز يهدف إلى فرض واقع جديد من ملامحه تجريد الجمهور من الإحساس بالأمان أو الحياة الطبيعية أو امتلاك المكان أو التحكم بالوقت أو التمتع بالأرض أو الإحساس بأية لحظة أنه يمتلك شارعه أو مدينته أو جبله أو سهله أو حتى بيته، هذا الواقع الجديد يدفع الجمهور بمرور الوقت إلى الاستسلام والتهاون والتراخي والبحث عن التأقلم مع واقع جديد، ضيق ومتواضع وبائس، ولهذا تقل الخيارات وتنطفئ المبادرات، الحاجز يهدف أولاً إلى فرض واقع جديد، مفاجئ واستثنائي، ويحفل بالمتغيرات، وهذا يقود إلى النقطة التالية:
حادي عشر: الحاجز إذن في نهاية الأمر هو سياسة عدوانية مئة بالمئة، لأنه يقوم بعمليات تمييز بين من يدير الحاجز والجمهور الذي وضع الحاجز من أجله أولاً، ويقوم بتفتيت هذا الجمهور ثانياً، ويقوم بتفكيك الجغرافيا ثالثاً، ويقوم بتفكيك المستقبل رابعاً، والحاجز ببساطة يستطيع تجويع الجمهور ومنعه من التواصل والتناسل والتكامل والتفاعل، ولهذا كله، فالحاجز عملياً يحجز الجمهور عن مستقبله، أي يستطيع الحاجز أن يمنع قيام دولة، ويستطيع أن يقف حائلاً أمام ميلاد هوية موحدة لشعب كامل، ويستطيع أن يحول كل جغرافيا إلى عديد من الجغرافيات.
ثاني عشر: الحاجز سياسة عنصرية أيضاً لأنه يقوم على فكرة الإقصاء إقصاء الجمهور عن بعضه البعض، وإقصائه عن مكانه، وإقصائه عن الآخرين، كما يقوم الحاجز أيضاً بإقصاء أفراده عن التواصل مع المكان أو مع أصحابه، إذ أن الحاجز ومن يديره يعتقد أن امتلاك المكان يعني انتهاكه وليس التشارك معه وفيه، كما يعتقد أنه هو الأحق بالحركة من الجمهور الذي يحكمه، أي أن تحديد حركة الجمهور وضبطها ومراقبتها وتحويلها إلى مصيدة وفخ ومكان للثواب والعقاب وطريقة للعيش إنما يعني أن هناك شعباً أفضل من شعب وثقافة أفضل من ثقافة ودماً أفضل من دم، وهذا هو الحاجز بأبشع الصور.
وبتطبيق هذا على ما نحن فيه، فإنني أدعو ذوي العلاقة - سياسيين وحقوقيين وجمهور - إلى تحويل الحواجز إلى أولوية تضاف إلى أولويات كثيرة على الفلسطينيين أن يتحملوها ويحملوها.
إن سيسيولوجيا الحواجز - وكما مورست في العالم وعندنا كذلك - تقتضي منا أن نعرف وأن نؤصل وأن ندرس، لأن المعرفة هي الحرية.