نشر بتاريخ: 09/02/2017 ( آخر تحديث: 09/02/2017 الساعة: 10:41 )
الكاتب: عوض عبد الفتاح
منذ سنوات يشتعل النقاش، ويزداد احتداما، في مواجهة الحلول التقليدية للصراع ضد المشروع الكولونيالي الصهيوني في فلسطين. وينتشر النقاش، بشكل خاص في دوائر فئة من الأكاديميين، والمثقفين، والنشطاء السياسيين. وما يجعل النقاش مثيرا للاهتمام ويدفع الكثيرين، حتى من المتحفظين، إلى أخذ الأمر بجدية هو استمرار انضمام أعضاء جدد من الأكاديميين والمثقفين والمناضلين السياسيين ذوي المكانة المحترمة في مجالاتهم، سواء كانوا فلسطينيين، أو أجانب، أو يهود، أو يهود إسرائيليين إلى ساحة النقاش الذي يغني التفاعل الفكري وكذلك الحراك نحو خيارات استراتيجية بديله. وأعتقد أننا اقتربنا من المرحلة التي ستدفع أعدادا كبيرة من المعنيين بإنهاء جريمة الاستعمار الصهيوني على أسس العدالة والقيم الأخلاقية وأولها قيمة التحرر الوطني، تحرر شعب من العبودية الاستعمارية، إلى ساحة التداول بالبدائل، وصولا إلى البدء في فحص كيفية الوصول إلى الهدف. والهدف هو تفكيك منظومة الاستعمار الكولونيالي وإزالة إفرازاته الإجرامية، وتحقيق العيش المشترك بين من يعيش على هذه الأرض، فلسطين، ومن طرد منها على يد المستعمر.
الغالبية الساحقة من الناس لا يعرفون عن هذا النقاش، وبالتالي هم محرومون من المشاركة والمساهمة في الإدلاء برأيهم والإسهام في تقرير مصيرهم وفِي اختيار شكل الإطار السياسي الذي سيكون مرجعيتهم الدستورية والقانونية في إدارة حياتهم بحرية وكرامة. بل في الحقيقة، أيضاً، إن غالبية المنخرطين في العمل السياسي والأكاديمي، غير مشاركين في هذا الجدل والبحث عن البدائل أو المخارج للأزمة الطاحنة التي أفرزها الصراع ودينامياته. وذلك أما لأسباب تتمثل في رفض هذه البدائل، وفِي التمسك بالحلول التقليدية التي ينظرون إليها كواقعية، أو اما لأن الحياة اليومية أو متطلبات المهنة تلهيهم عن واجب الانخراط في هذا الشأن العام. وإلحاحه للانخراط في هذا الجهد أيضا نابعة من كون النقاش بات يتوسع ويتناول شكل الدولة وطبيعة النظام: دوله لبرالية ديموقراطية على أساس المواطنة الفردية، دولة واحدة ثنائية القومية (ادوارد سعيد وعزمي بشارة مثلا) أو كونفدرالية بين دولتين مع حدود مفتوحة، أو دولتين في وطن واحد كما تطرح مجموعة فلسطينية إسرائيلية جديدة.
ما يزعج في الأمر، ليس موقف الذين ليس لديهم الوقت للمشاركة، أو الذين ليس لديهم المعرفة الكافية بما يجري خاصة وأن الواقع الراهن بات أكثر تعقيداً وخطورة وأشد وطأة من أي وقت مضى. إنما الذين ما زالوا يسخفون الجهد المبذول لبلورة هذه البدائل، التي تتمحور في غالبيتها في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة تعريفه، و في فحص إمكانيات العودة إلى فكرة الدولة الواحدة القائمة على انقاض الاستعمار. إذ هناك من أنصار الدولتين من ينبري في تحديك والقول "لدينا مشروع وطني واضح هو مشروع الدولة في الضفة والقطاع". هكذا ببساطة دون الدخول في كل ما مر به هذا المشروع التجزيئي والذي تم منحه أكثر من عقدين من الزمن جرى خلاله عمالية قضم جارته وإفراغه من مضمونه كليا على يد المستعمر الصهيوني دون أن يواجه، خاصة بعد استشهاد عرفات باستراتيجية كفاحية حقيقية. أنا أعتقد، أن غالبية هؤلاء لا يطلعون على مئات الاجتهادات الراقية التي صدرت عن مراكز بحث، وعن أكاديميين، وعن مواقع فلسطينية أو أجنبية، التي قدمت تصورات استراتيجية بديلة عما هو متداول في الهيئات الفلسطينية الرسمية، وفِي أروقة ما يسمى بالمجتمع الدولي. وتناولت الموضوع بعمق ومسئولية، وأبرزت فوائد هذا الخيار، دون أن تهمل التوقف بإسهاب عند العوائق التي تنتصب أمامه، ومنها العوامل الفلسطينية الداخلية، ومنها المتعلقة في بنية المشروع الصهيوني، والمجتمع الإسرائيلي، ومنها الواقع الدولي.
مؤخرا سمعت مسئولا في السلطة الفلسطينية، في مقابلة تلفزيونية، يحاجج بحماس شديد ضد الذين ينادون بالدولة الواحدة بطريقة تبسيطية وكان الدنيا ما زالت على حالها كما يقولون. ليس مطلوبا منه أن يتخلى عن مشروع السلطة الذي ما عاد مفهوما لشعبنا سوى أنه تمسك بسلطة وصفها رئيسها بأنها بلا سلطة. ولا نريد الذهاب أبعد منذ ذلك في وصف دورها الخطير. بل يتوقع منه أن يحترم البحث عن خيارات أخرى وحق أوساط من الشعب الفلسطيني بالمبادرة، من خارج المؤسسات المترهلة والمتكلسة والفاسدة، في المساهمة في تقرير مصيرهم.
مما قاله أن من يطالب بالدولة الديمقراطية الواحدة هو عاجز ومهزوم. أي من منطلق العجز عن مقاومة الاحتلال والاستيطان في الضفة والقدس. وأضاف محاججا: "إذا كان حل الدولتين قد مات كما يدعون، فإن حل الدولة الواحدة مات منذ ثلاثين عاما". إذا منطقه يكرس، وفِي ظل غياب استراتيجية مقاومة لتحرير الضفة والقدس من الاحتلال الاستيطاني، وقطاع غزه من الحصار، ناهيك عن التسليم بواقع اللاجئين وبواقع فلسطيني ال٤٨، يكرس العجز والهروب من مواجهة، واقع الزحف الاستيطاني المتسارع والسيطرة الصهيونية المطلقة على هذه المناطق الفلسطينية التي من المفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة. كما يكرس حالة القعود والتكلس الفكري والابداع ويرسخ المؤسسات التي باتت بمثابة القبر الذي تدفن فيه أي محاوله أو تصور مختلف للخروج من حالتنا الراهنة. والأحرى أن يفكر ويتأمل هذا المسئول، وهو يمثل طبقة السلطة، في كيفية وصف اتفاق أوسلو، فهل كان هذا نابعا من انتصار، أم نابع من هزيمة كبرى والتسليم بها. ترى ماذا يسمي التخلي عن فلسطين، عن حق عودة اللاجئين إلى ديارهم (٤٨) وعن فلسطينيي أل٤٨، والاعتراف بإسرائيل والتنصل من، وإدانة المقاومة. وهل الذي يطالب بكل فلسطين ويدعو إلى إعادة توحيد الشعب وزج كل طاقاته في معركة تحرير طويلة الامد، يصنف في دائرة العجز والتسليم بالهزيمة، أم مقاومة الهزيمة التي يكرسها اتفاق أوسلو!!
ولا بد من توضيح الدوافع وراء المناداة بالعودة إلى خيار الدولة الواحدة على الأقل لغير المطلعين على حيثيات النقاش:
ينطلق البعض من دوافع براغاماتية، أي من واقع التسليم بالواقع، واقع استحالة إقامة دوله فلسطينية كاملة السيادة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، بسبب الزحف الاستيطاني وعدد المستوطنين الكبير والذين يصعب أو يستحيل إخلائهم بدون وجود حكومة إسرائيلية مستعده لذلك، وبدون دعم قوة دولية كبرى لإجبارهم على الخروج من هناك. ويضيفون عاملا آخر متمثلا باستعداد الطرف الفلسطيني، سلطة رام الله تحديدا، بقبول الكتل الاستيطانية الكبرى القريبة من الخط الأخضر، ومقايضتها بأراضي في النقب محاذية لقطاع غزه. أي أن هذه الأصوات، مثل أحمد قريع أحد قادة فتح والسلطة سابقا، لا يسلمون بالوقائع على الأرض التي رسخها نظام الأبارتهايد الكولونيالي في ظل اتفاق أوسلو وبالتوازي مع مسار المفاوضات الكارثية فحسب، بل أيضا بالعجز عن تغييرها. وبعض هؤلاء، يتبنون مطالبة المستعمر منح فلسطينيي ال٦٧ حقوق متساوية أو مواطنة متساوية. وليس واضحا كيفية تحقيق ذلك وماهية المضامين النهائية لهذا الطرح النابع من العجز وليس من منطلقات استراتيجية تحرريه. هذه الأصوات تعتمد فقط على الجانب القانوني (خطاب الحقوق) وتستبعد التاريخ.
أما منطلقاتنا للدولة الواحدة نابعة من أن هذا الخيار هو الأكثر عدالة، ينطلق من مبدأ الحقوق التاريخية، ومن من قيمة العدالة الجماعية والحقوق الفردية، والعيش المشترك بعد تفكيك منظومة الاستعمار والعنصرية والنهب.
وعوده إلى محاججة مسئول السلطة بأن خيار الدولة الواحدة مات منذ ثلاثين عاما. فمن أماته؟ من الذي محاه من ذاكرة الأجيال، ومن الذي روج ورسخ فكرة الدولة كبديل عن فكرة التحرر، ومن الذي هدم ثقافة التحرر والمقاومة واستبدلها بثقافة "بدنا نعيش" وثقافة "السلام الاقتصادي" كطريقة هروب من واجب مقاومة المحتل وتدجين النخب. من الذي جعل معظم الناس في الضفة الغربية تحصر طموحها في أقل من20% من فلسطين.
بل للأسف، فإن أوساطا من المثقفين الفلسطينيين، تخلوا عن دورهم، ولحقوا بالسياسيين، وراحوا ينظرون بمنهجيه ودون توقف أو مراجعة لهذا التنصل. إن تبعية المثقف للسياسي هي من أخطر ما يواجه الأمة، خاصة في مرحلة الأزمة. كم نحتاج إلى استقلالية المثقف في الحفاظ على الموقف التاريخي وعدم الانجرار وراء ضرورات السياسة، وفِي هذه المرحلة تحديدا حيث تشتد الحاجة الى الأصوات الناقدة والقادرة على فرملة التدهور الأخلاقي وعلى إعادة الوعي وتعزيزه بروايتنا التاريخية.
إن العودة إلى خيار الدولة الواحدة في فلسطين التاريخية، ينطوي على نقاط قوة استراتيجية.
نقطة القوة الأولى، وحدة الشعب الفلسطيني، تاريخا وثقافة وهوية.
لقد أدى شعار الدولتين إلى تدمير وحدة الشعب الفلسطيني، وإلى تمزيق جغرافية وديموغرافيا الجزء المحتل عام ٦٧. وبقي اللاجئون وفلسطينيو أل٤٨ خارج هذا الحل. كيف يمكن تجنيد كل تجمعات الشعب الفلسطيني بكامل قواهم في النضال حين يكون الهدف محصورا في جزء بسيط من الوطن، وحين لا يكون لهم مكان في هذا الحل. فهل التضامن المحدود من جانب بقية هذه التجمعات المهمة من شعبنا وحده يكفي في معركة دحر مشروع استيطاني وإقامة دوله فلسطينية مستقلة. هل حل الدولتين يوفر حوافز كافية تدفعهم للانخراط بصورة جدية في معركة التحرير والتحرر. ثم من يمثلهم على المستوى الوطني العام. أليست منظمة التحرير الفلسطينية التي قادت النضال الفلسطيني قبل أوسلو، معتقلة تحت الاحتلال، وباتت رهينة الاتفاقات الأوسلوية وفارغة المضمون بعد العجز عن إصلاحها، ولا تمثل إلا جزءا من الشعب الفلسطيني. إن إنهاء التشرذم والتجزئة وإعادة بناء المشروع الوطني كمشروع يستجيب للتاريخ ولحقوق كل تجمعات الشعب الفلسطيني، وتحقيق الوحدة هو استعادة لأهم مصدر قوة. أي أنه يجند الجميع في معركة واحدة.
نقطة القوة الثانية: عدالة القضية.
في فلسطين آخر حالة استعمارية. العالم كله المساند لإسرائيل والمعارض لها، يعترف بعدالة القضية الفلسطينية، ويدرك أن هناك شعبا يحق له حق تقرير المصير بغض النظر عن كيفية تجسيد هذا الحق. وهذا يوفر الفرصة ليس في مجابهة إسرائيل في المحافل الدولية والعمل على تغيير مواقف الحكومات من الموقف النظري إلى العملي فحسب، بل أيضا، وكما هو حاصل ومتجدد منذ انطلاق نداء المقاطعة من قوى المجتمع المدني الفلسطينية عام ٢٠٠٤، يتيح الفرصة لتجنيد المزيد من المجتمعات المدنية في العالم لصالح قضية فلسطين. المشكلة القائمة الآن هو ارتهان السلطة لاتفاقات أوسلو التي تمنعها من خوض، أو الانخراط في حملة المقاطعة الشاملة لإسرائيل وليس فقط للمستوطنات في الضفة الغربية. هذا ناهيك عن القصور المريع في مواجهة الاستعمار في القدس وفِي كل بقعه من أرض الضفة.
نقطة القوة الثالثة؛ أخلاقية الطرح.
إن خيار الدولة الواحدة، ليس خيارا وطنيا وأخلاقيا للشعب الفلسطيني فحسب، بل هو أيضا خيار أخلاقي وإنساني لأنه يقوم على القيم الكونية؛ العدالة والمساواة والحرية. يقوم على مبدأ العيش المشترك مع أبناء وأحفاد المستعمرين، بعد تجريد المستعمر من مصادر السيطرة والقمع والنهب، أو بعد إجباره على التسليم بذلك.
هذا الخيار لا يقوم على التقسيم والفصل بل على الشراكة اما بين مواطنين متساوين في إطار دوله ديموقراطية تقوم على المواطنة الفردية، أو بين مجموعتين في إطار دولة واحدة ثنائية القومية؛ الإسرائيليون والشعب الفلسطيني.
هل هذا حل طوباوي؟ وإذا كان غير ذلك ما العمل وما السبيل إلى هذا الهدف.
ربما بات من المنطقي أكثر طرح التساؤل بخصوص طوباوية حل الدولتين، وليس حل الدولة الواحدة؟
لقد جربت الحركة الوطنية الفلسطينية السير من أجل حل الدولة الديمقراطية العلمانية لبضعة سنوات فقط، ثم تخلت عنها، ومنذ ذلك الحين، منذ عام ١٩٧٤ تجرب حل الدولتين. وماذا كانت النتيجة، وبعد أكثر من عشرين عاما من المفاوضات المباشرة، تحت مظلة أوسلو ؟!
نعم لقد خاض الشعب الفلسطيني نضالات جسوره وقدم تضحيات جسام، غير أن المفاوضات المسقوفة باتفاق مذل لم تؤد سوى إلى استكمال استعمار الضفة والقدس وتمزيقها إلى كانتونات محاصرة وغير مترابطة.
في هذه الحقبة تم التخلي عن معظم نقاط قوة الشعب الفلسطيني: وحدته كشعب واحد، ومكانته بين الشعوب، التي تضامنت معه باعتبار قضيته قضية تحرر وطني عادلة. ولأن نحن لا زلنا نعيش كارثة الانقسام، انقسام الحركة الوطنية.
ليس حل الدولة الواحدة مطروحا على الطاولة، وليس مطروحا للمفاوضات. وفِي الأفق القريب والمتوسط تغيب أي تسوية تحقق الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني. على الأرض هناك واقع الدولة الواحدة، وليس حل الدولة الواحدة. دولة واحدة يحكمها نظام فصل عنصري استعماري متوحش، نظام أبارتهايد كولونيالي أشد وطأة من مثيله البائد في جنوب أفريقيا.
والسبيل إلى ذلك طويل وصعب ومركب، ويحتاج إلى تغيير المنهج والرؤية. يحتاج إلى استراتيجية مختلفة، تتوزع على مراحل.
المرحلة الأولى، إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني. يجب إعادته إلى الأصل، والأصل هو أن قضية فلسطين قضية تحرر وطني من نظام استعماري أوروبي غزاها ونفذ أكبر عملية سطو في التاريخ في وضح النهار وشرد نصف شعبها. وهذا يقتضي منطقيا وتاريخيا وأخلاقيا إعادة تعريف إسرائيل باعتبارها نظام أبارتهايد كولونيالي لا شرعية له، لا تاريخية ولا سياسية ولا أخلاقية. وهذا بالضرورة يقتضي سحب الاعتراف الذي منحته إياها قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في اتفاقا أوسلو عام ١٩٩٣. لا يعقل أن يتواصل تشريب الأجيال الفلسطينية الجديدة بخطاب أوسلو عن إسرائيل وكأنها دوله طبيعية وعادية في الوقت الذي تواصل فيه ممارسة الجريمة الاستعمارية الممتدة على مدار قرن من الزمان وفِي ظل منح القيادة الفلسطينية الشرعية لهذا الكيان.
المرحلة الثانية؛ وارتباطا بالنقطة الأولى، إعادة بلورة الرواية الفلسطينية الواحدة، التي تربط تجمعات الشعب الفلسطيني بالتاريخ والثقافة والهوية وبالجغرافية الواحدة الموحدة. لقد أدى المشروع الصهيوني إلى تجزئة شعبنا، ونجم عن أوسلو تكريس هذه التجزئة وتطور خصوصيات ومشاريع فرعية منفصلة يحمل تكريسها خطورة مشاريع منفصلة متصادمة أو متناقضة. طبعا، يشهد العقدين الأخيرين المزيد من التشبيك والتعاون بين فئات أكاديمية، وأدبائه، وشبابية، من جانبي الخط الأخضر، ومع الشتات والمهجر. والجهود وان كانت حتى الآن محدودة نسبيا وبدون سقف وطني شامل منظم، فإنها متواصلة ومتنامية. ويشبه هذا الحراك الثقافي والأدبي والشبابي وأحيانا الميداني، عملية إعادة بناء الأمه وتوحيدها بعد ان نالها ما نالها من هزائم وتفكك وتشتت.
في ظل العجز العام، وفِي ظل المأزق الخانق الذي تعيشه الحركة الوطنية الفلسطينية، وغياب القائد الملهم، والمشروع الملهم تنمو مظاهر اليأس والإحساس بالضياع، وتتعزز الفردية ونزعة الخلاص الشخصي. ما معناه تتآكل مشاعر الانتماء للجماعة وتتآكل مناعة المجتمع وقوته. ولكن في المقابل، وبسبب مواصلة إسرائيل عدوانها، وحروبها ونهبها وحصاره لتجمعات هذا الشعب، تتعزز المشاعر الوطنية بين هذه التجمعات التي تجد نفسها بصوره متزايدة تتعرض لنفس ممارسات القهر والإضطهاد والملاحقة. وهو ما يؤسس لأرضية تلاقي ليس فقط على أرضية مشاعر عابرة أو مصالح يومية مؤقته، بل على أساس رابطه قومية موحدة، ومصير سياسي مشترك. هذا ما يتطور يوميا على أرض الواقع. وقد لا يتطور هذا الاتجاه من تلقاء نفسه نحو سقف مشترك أعلى. ولكن وعي هذا التطور التاريخي من جانب لطلائع الوطنية والمثقفة، من شأنه أن يقود إلى التحول المنشود أي العمل تحت سقف رؤية وطنية وديموقراطية مشتركة، تأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل تجمع وأولويات حياته اليومية وواقع النظام السياسي الذي تعيش تحت حكمه أو ادارته، وتخصه بطرق نضالية قادر على تحمل تبعاتها، وتناسب واقعه السياسي.
في هذه الظروف الخطيرة، وفِي ظل ميزان القوى الراهن المائل لصالح نظام الابارتهايد، وفِي ظل فقدان الرؤية الفلسطينية، وتمركز القرار الفلسطيني داخل فئة صغيرة، يصبح العمل من تحت، أي من خارج البنى الرسمية، حاجة وجودية. ليس المطلوب في ظل هذا الواقع طرح برامج عملية غير واقعية، ولكن مطلوب رؤية لأهدافنا الاستراتيجية، ومطلوب برامج تثقيفية منهجية وفكرية سياسية تتسق مع التاريخ، تاريخ القضية، وخلق خطاب وطني وديمقراطي موحد يصبح إنجيل أو قرآن الأجيال الجديدة؛ خطاب وطني تحرري، و تبني وتذويت مفاهيم العدالة والمساواة والحرية واحترام كرامة الانسان. هذا الخطاب، وحوامله (أي الناس من كافة الشرائح والأعمار المؤمنة بهذا الخطاب) هما البنية التحتية للمشروع الوطني الجامع.