الجمعة: 29/11/2024 بتوقيت القدس الشريف

ثنائيات ما بعد الوطن والوجود

نشر بتاريخ: 07/03/2017 ( آخر تحديث: 07/03/2017 الساعة: 15:42 )

الكاتب: فراس ياغي

اللا معنى ليس العدم، والحياة ليست الوجود، والفهم الوجودي للحياة يأتي بالخروج عن المعنى، لقد خرجَ الأنبياء جميعا عن المعنى لفهم الوجود، وعملوا ضمن مفهوم الوجود لا مفهوم العيش، فليس "رائع حقاً أن تكون حياً" كما قال كويلو في "أحد عشر دقيقه" بل الرائع أن "تحيا"، ذلك بعضا مما أتحفنا به الكاتب "عبد الرزاق جبران" في كتابه "جمهورية النبي"، ويضيف بأن: المشكله في مفهوم الثنائيه، في الظلم مثلا، أليس الإنسان هو ضحية الإنسان، قال الإمام علي بن أبي طالب " إضرب بطرفك حيثما شئت فهل تجد إلا فقيراً يُكابد فقراً أو غنياً بدل نِعمةَ الله كفراً"، ثنائية ظالمه، فقيرا يصبح أكثر فقرا، وغني تأخذه النعمه للغرور والتسلط والقمع وشراء الذمم والسيطره، أليس هذا كفراً، الصلاة السائده لا يمكن أن تكون بديلا عن القيم، "والصلاة التي تحمل الإنسان الخاشع خارج جسده خيرٌ من ألف صلاة سائده"، لأن هذه الصلاة هي "وضوءٌ للقلب"...النقاء الذي أسسه زرادشت بإعتبار أن "وضوء الإنسان يكون في نقاء قلبه" وجاء بالنار كرمز للنقاء لأنها تُطَهّر المعدن من الشوائب، عَصفَته الأجيال فيما بعد أخذت مفهوم النار لمعناها الذاتي غَيرِ المعنى الزرادشتي.
الحال الفلسطيني وفي كُل الساحات يعاني ثنائيه ليس لها علاقة بالإنسان نفسه ولا بقضيته الوطنية التي تقف هذه الأيام ليس على الحافه وإنما على رأس هاوية مائله بزاوية الإنحدار، ثنائية الثوابت الوطنيه والمفاوضات أجهَزت على الثوابت نفسها، وثنائية المقاومة والسلطه أنهت مفهوم المقاومه لصالح بسط سلطه الحركه ونفوذها، وثنائية الوطن والشتات أصبحت متضاده لا متجانسه بحيث أصبح الإنفكاك لا محاله، وثنائية الضفه وغزة لم تعد قائمه لا كأساس ولا كرمز ولا كواقع، أما ثنائية فلسطين والقدس فقد غابت في ظلام الشخصيه والصراعات الداخليه وأصبحت كلام للتشدق وللحفاظ على أطول فترة ممكنه للبقاء، وثنائية الضمير والقانون ذهبت مع أول مليون، " رحمتك يا إلهي، يا من تخلق المخلوقات لتقاسي، دون أن تفهم لماذا" هكذا قال كرافيل باركر في روايته الحياة السريه ، نعم. رحمتك إلهي!!!! أما آن لهذه الثنائيات الشخصيه والحزبيه والفكريه أن تَعي أن الإنسان الفلسطيني بلا وطن ليست ثنائيه، الفلسطيني والوطن هي وحدة وجود لا ثنائيه يمكن أن ينزعها أحد كائن من كان.
بين الوطن المنشود في ثنائيته المرتبطه بالأرض والإنسان، ضاعت كرامة الإنسان ولكن ليس لصالح الأرض، بل لصالح ثنائية جديده تشكلت بعد عشرين عاما من المفاوضات، ثنائيه ظالمه أقست الأرض وأمتهنت البزنس وضربت بعرض الحائط كلّ الأحلام وبعضا من الأمنيات، ثنائية الحرية والكرامه لم تعد لها معنى في ظلّ ثنائية المُحتَل والسلطه الواقعه تحت الإحتلال، فقبل وبين وبعد الحواجز يُذَل الإنسان الفلسطيني، لا قانون قبلها ولا قانون بعدها، والسيطره والتحكم والظلم والقوة، ثنائيات تفرض نفسها وتُعبّر عن ذاتها في كل دقيقه، وفي خضَمّ هذا العيش يعلوا الصوت لينادي بالثوابت الوطنيه اما الفعل فهو لاوطني، الآذان يَسُدها الضجيج القادم من بساطير الجُند، وأي جُند، جُندنا وجُندهم، ثنائية الجُند التي لا تعرف عن الحقيقةِ إلا أسمائها، لقد صدق هنري باربوس حين قال " إنني وقد نفذت إلى قلب الإنسانيه، فلم أجد شيئا إنسانيا"!!!
أما بعد، الحكاية تبدأ بأنه في قديم الزمان والازمان المتواصلة، كان هناك ثنائية الصراع بين القبائلِ والبطونِ والعائلاتِ والافرعِ، وكان هناك شيخاً لاحدى القبائل التي تَتَشكلْ من عدة بطون، وقبيلته هذه في صراعٍ دائم مع قبيلة أخرى أقوى عُدةً وعِده، بل سيطرت على كلِ أرضِ شيخِ القبيلة ولا تزال، لم تتورع أبداً عن ممارسة كل الدسائس والمكائد في الاحتفاظ بأرضِ غيرها لعقودٍ طويلة لا تزال مستمرة..شيخُ القبيلة الضعيفة كان ثنائياً لا يُحب الاحلام..وهو واقعي وترابي فبرجه من الابراج الترابية وفقا لطالعه وليس لواقعه..وكان يَكره ما هو غيرَ مُمْكن لان ذلك يعني له المستحيل..فالواقع هو ما يتعامل معه بسلبياته وإيجابياته..لا يبحث مطلقاً عن واقع جديد مُمكن أو قابل لأن يصبحَ مُمكناً..ولا يريد أن يحلم بغير ما تراه عينيه وتسمعه أُذنيه..وغيرَ ذلك يُعتبر بالنسبة له ضربٌ من "الطوباوية" القاتلة..فكلِ شيء لكي يَتَحَقّق يحتاج لتضحية ولقرابين، وهو مَلّ وتَعِبَ من كل ما سبق من تضحيات ذهبت جميعها أدراج الرياح وفقاً لوجهة نظره..فالصراع مع القبائل التي حوله عمرها مئة عامٍ تقريبا..لم تستطع قبيلته الحصول فيها على يوم للراحة أو إلتقاط الانفاس.
شيخُ تلك القبيله وقف وأعلن لجمهور قبيلته ثنائيته الداعيه للإستراحه..ليست إستراحة محارب فحسب..بل إستراحة دائمة من الحرب..فنحن عشنا من حرب لحرب، ومن إحتلالٍ لإحتلال، ومن حصارٍ لحصار، ومن إغتيالٍ لإغتيال، ومن إعتقالٍ لإعتقال، ومن تهجيرٍ لتهجير، ولم نحقق شيئا يذكر، وبما أنكم جَعلتموني شيخاً عليكم "مشيختموني"، فلا بدَّ أن تُعطوني الفرصة الكاملة لتنفيذ برنامجي بثنائية السلام والحوار.. يعتقد ومنذ أن ولدته أمه بأنه بثنائية المنطق والبرهان والحجة والجدال والكلام وحُسن النية يستطيع الخلاص من حُكم القبائل الاخرى وبالذات القبيلة التي سيطرت على أرض شعبه منذ عقود، قال: لقد جربنا كل شيء وفشلنا، علينا أن نُنَفذ ما هو مَطلوب منا بدون النظر لما هو مَطلوب منهم، فنحن من يجب أن يثبت حُسنَ التوجه للآخر المُحتَل وليس هو، لا سبيل لنا سوى بمواجهة كلَّ مَنْ تُسوّل له نفسه حتى في أحلامه بأن يستخدم غيرُ الذي نُقِرّه، ونحن قَرَرّنا أن نُنَافسهم بثنائية الحضارة والآداب وحُسن الجيرة ونواجهم بصواريخ من النقاش البناء، ولكي نَحصل على حقوقنا وفق المُمْكن، كمساحةٍ حتى، وليس كحدود، لا بُدَّ من أسلوب الحوار.. "فجادلهم بالتي هي أحسن".
شيخنا، في حكايتنا المزعومة، لم يَعدم وسيلة حِوارية ثنائيه إلا وإستخدمها، وظنَّ بهم خيرا، قياسا على الحديث القدسي"انا عند ظن عبدي بي، إن خيرا فخير وإن شرأ فشر"، لذلك فقد تعلم مهارات الاتصال ليس بالعربي فحسب بل بالانجليزي وبالايديشية أيضا، درس تاريخهم، تعلم مأساتهم وما مروا به ايام "هيرودوس" والهير "هتلر"، عَلم جيداً مدى ثنائية العقد النفسية التي يعانوا منها، فقرر دراسة عِلم النفس والتخصص فيه، بل دَرس مفاهيم غريبه عليه كمفهوم "البرغل" و "البرغل الناشف" و "الكوديانا" وماذا تعني "الوصلة" وفقا لشرح الكاتب "علاء الاسواني" في روايته الرائعة "عمارة يعقوبيان"، لعلَّ وعسى تسعفه في إستقطاب الجزء المتمرد المتحضر الاوروبي القبلي الاصل..لم يَعدم وسيلة إتصالية إلا وإستخدمها، الكلام ولغة الجسد، لقد إستخدم شيخنا وسائل الاتصالات جميعها، السلكي واللاسلكي، الفيديو كونفرس، والآي فون وجميع أنواع الموبايلات ووصلت الامور لاستخدام لغة تكنولوجيا المعلومات، فإستخدم الانترنت والايميل والنت ميتنغ، والفيس بوك وحتى التويتر والواتس أب والفايبر وأخيراُ الإنستغرام..وذهب هذا الشيخ إلى إستعدادنا لفتح قلوبنا ووضع أجهزة مراقبة على عقولنا ليقرأوا كل شيء ويعلموا المخفي لدينا قبل المُعلن، فأحلامنا وتصرفاتنا وسلوكنا يجب أن يكون معلومٌ لديهم وبموافقتهم.
حاول هذا الشيخ كلَّ ما يستطيع وما لا يستطيع لكي يَجعلهم يَقتنعون بمدى إستعداده الدائم هو وبطنه في القبيله لحل كل المشاكل مُمكنة الحل "وفقا لمرونته غيرُ المسبوقه في تاريخ القبائل كلها"، عبر السجال والعصف الفكري والندوات والمحاضرات واللقاءات الصحفية المقروءة والمسموعة والمرئية، عبر المحلي وعبر الفضائيات، بل ألقى الشعر ومدح بعضاً من زعمائهم المخلوعين لفسادهم أو الذين تم إغتيالهم، تغَزّلَ فيهم وقال فيهم ما لم يقله قيس بليلى او عمرو بالخمر او عنترة بعبله او حتى جميل ببثينه، قام بهجاء ومحاربة كل من إستَعداهم، فعل كل ذلك ليزيل من صدورهم أي ضغينه قد تظهر كنتيجة لعملٍ طائش من فردٍ لا مسئول، قد يكون أصولي العقيدة والتفكير، هدفه التخريب لصالح قبائل عبدة النار سابقا، مارس كل ما قد يريحَ عقولهم ويجنبهم أي عقده نفسيه قد تستمر أو تظهر لا سمح الله.
رغم كلِّ ذلك، ورغم الود والحب والقرب والتقارب والتنسيق وحتى الشراكه أحيانا وغض الطرف، لم يشفع له كل ذلك، وما حصل عليه مزيدا من سلب الارض وهدم الخيم والاسطبلات وسرقة المزيد من ماشية قبيلته..فالشيخ بِحُسنِ نيته أراد محو الاحقاد وفرض واقع جديد من المحبة بين القبائل مختلفة الاعراق، ولكن هذا لا يمكن أن يحدث بين قبيلة تُريد ان تَحِلَّ مَحل قبيلة أخرى وتُجردها ليس من أرضها فقط، بل من وجودها وجذورها وتاريخها، وبإعتراف مسبق واضح لا لبس فيه من قبل القبيلة المُهَجَره بأحقية القبيلة المُحتَله، وبرغم كلِّ ما سبق ذكره وما حَصل عليه شيخُ روايتنا الخيالي، فلم يُحَرّك أو يُغَيِّر ذلك من عقليته، ليس لأنه لا يريد بل لأنه أصبح لا يستطيع، فمن يَدخل البحر لا بد أن يَتَبَلّلْ، ومن يَمشي تَحتَ المطر بدون شمسية سَيصبح أكثر من رطبٍ...يقول الإمام علي بن ابي طالب " إذا أقبلت الدنيا على إمريء منحته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه"